أسامة أيوب يكتب : العلمين بين الماضى والحاضر
هذه الفعاليات والمهرجانات والحفلات الصاخبة المبهجة المقترنة بمظاهر الترف المبالغ فيه التى تشهدها مدينة العلمين الجديدة منذ بداية الصيف الحالى.. استدعت العلمين القديمة التى توارت عن الذاكرة بفعل الزمن، بينما تصدرت “الجديدة” المشهد المصرى بحضورها القوى والطاغي الذى تبث مشاهده قنوات التليفزين المصرى يوميا.
تاريخيا.. استمدت العلمين القديمة شهرتها من الحرب العالمية الثانية، حيث كانت مسرحا لإحدى أهم المعارك الفاصلة بين الجيش البريطانى بقيادة المارشال مونتجمرى والجيش الألمانى بقيادة روميل المُلقب بثعلب الصحراء والذى كان يزحف بقواته بسرعة وبقوة لاحتلال مصر التى كانت إحدى أهم المستعمرات البريطانية فى ذلك الوقت.
وبينما كانت مجريات تلك المعركة الفاصلة فى صالح الجيش الألمانى فى البداية، فقد انقسم المصريون وقتها ما بين مؤيد لألمانيا ومرحبين بانتصارها.. نكاية فى بريطانيا وأملا فى التخلص من احتلالها لمصر رغم حصولها على الاستقلال بموجب معاهدة 1936 التى كان مصطفى النحاس رئيس حكومة الوفد قد وقعها، وحيث اعتبر المؤيدون لألمانيا أن هزيمتها للجيش البريطانى من شأنها تخليص مصر من الاحتلال وتحت هذا التصور الخاطئ خرجت المظاهرات فى مصر تهتف: تقدّم يا روميل.
فى الجانب الآخر من المشهد المصرى كان الراسخون فى السياسة يتوجسون من انتصار ألمانيا فى معركة العلمين الفاصلة، إذ كان يعنى استبدال الاحتلال الألمانى بالاحتلال البريطانى والذى كان مقررًا رحيله بعد انتهاء الحرب على خلفية المعاهدة والمفاوضات بين الحكومة المصرية وبريطانيا.
>>>
بانتهاء معركة العلمين بالانتصار الساحق للجيش البريطانى فإن مصر نجت من الوقوع تحت الاحتلال الألمانى النازى الهتلرى، وفى نفس الوقت فقد كانت هزيمة الجيش الألمانى فى العلمين إيذانا بهزيمة دول المحور “ألمانيا وإيطاليا واليابان” وانتصار الحلفاء وكسب الحرب وهو الانتصار الذى حسمته الولايات المتحدة بعد نجاح تشرشل رئيس الحكومة البريطانية فى إقناع الرئيس الأمريكى روزفلت بالانضمام إلي الحلفاء ودخول الحرب، وحيث أنهت أمريكا الحرب لصالح الحلفاء باستسلام اليابان بعد إلقاء قنبلتين ذريتين على مدينتى “هيروشيما” و”نجازاكى”.
>>>
غير أن معركة العلمين خلفت وراءها حقول الألغام التى ظلت منذ نهاية الحرب العالمية عام 1945 خطرًا يُؤرق مصر سواء فى العهد الملكى أو العهد الجمهورى ورغم أنه كان لزامًا على دول الحلفاء وخاصة بريطانيا إزالة تلك الألغام التى تُعيق أى خطط للتنمية فى تلك المنطقة من أرض مصر التى شهدت حربًا “لا ناقة لها ولا جمل” على حد تعبير الشيخ المراغى شيخ الأزهر وقتها ولكن بريطانيا تقاعست أو بالأحرى تملصت من هذا الاستحقاق القانونى والأخلاقى والإنسانى.
ونظرًا لأن مصر لم تكن لديها أى خطط جاهزة للتنمية فى تلك المنطقة بالإضافة إلى التكلفة الباهظة لإزالة تلك الألغام فقد ظلت ألغام العلمين قضية مؤجلة، وأجدنى أعتذر عن معرفة مصيرها الآن وهل أزيلت أم لا؟
>>>
وبعد نحو ثمانية عقود من انتهاء الحرب العالمية الثانية عادت “العلمين” إلى بؤرة الاهتمام فى مصر لكنها ليست العلمين القديمة التى شهدت المعركة بين بريطانيا وألمانيا، وإنما هى العلمين الجديدة على ساحل البحر المتوسط الشمالى الغربى والتى يجرى تسويقها لتكون ضمن كبريات المدن السياحية العالمية.
وإذا كانت مظاهر الأبهة والفخامة والخدمات الفندقية فى العلمين الجديدة تؤكد جهوزيتها لتكون مقصدا كبيرا وجاذبا للسياحة العالمية رغم أن ذلك لم يتحقق حتى الآن، فإن مشاهد الحفلات الغنائية الصاخبة التى بلغت قيمة تذكرة حضورها أرقامًا فلكية، إضافة إلى أسعار الإقامة والخدمات التى بلغت أرقامًا تفوق الأسعار فى أوروبا، بدت ترفًا زائدًا واستفزازًا مثيرًا لا يتناسب مع الأوضاع المعيشية بالغة الصعوبة التى تواجهها الغالبية العظمى من المصريين.
>>>
إن ما تشهده العلمين الجديدة من سفه فى الإنفاق كشف عن ظهور مفاجئ لطبقة جديدة من كبار كبار الأثرياء بحسب ما تواتر عن مظاهر وسلوكيات وبحسب أسعار تذاكر حفلات الغناء التى وصلت قيمة إحداها إلى 150 ألف جنيه وبحسب أسعار الإقامة فى الفنادق وأسعار الشقق والشاليهات وبحسب ما تواتر على شبكات التواصل الاجتماعى عن سعة الإنفاق وإلى درجة أن المصروف اليومى الشخصى للشاب أو الفتاة فى هذه الطبقة لا يقل عن 5 آلاف جنيه يوميا.
إن ممارسات وسلوكيات طبقة كبار كبار الأثرياء الجديدة التى تشهدها العلمين الجديدة والتى وصلت إلى درجة إقامة مهرجانات ومسابقات بين كلاب هذه الطبقة لاختيار أشيك كلب وكلبة، وحيث بلغت ذروتها بإقامة حفل زفاف كلبة إلى كلب.. هذه السلوكيات تكشف بوضوح حجم السفه الفادح والفاضح لتلك الطبقة الجديدة وعلى النحو الذى يمثل استفزازًا اجتماعيًا خطيرًا وسط أوضاع معيشية بالغة الصعوبة للغالبية العظمى من المصريين وحيث يعيش أكثر من 30 % تحت خط الفقر.
>>>
إن هذا الاستفزاز الاجتماعى الذى يتبدى فى سلوكيات ومظاهر الإنفاق السفيه والتى تواترت روايتها عبر شبكات التواصل الاجتماعى من شأنه أن يفتح الباب على مصراعيه على مقارنة بين ما يجرى فى العلمين الجديدة وبين معاناة عموم المصريين وخاصة الشباب، وهى مقارنة لا تنفى دلالتها الخطيرة والمقلقة اجتماعيا.
ومع أنه لا اعتراض على الحرية الشخصية لتلك الطبقة الجديدة فى الإنفاق والترف، إلا أنه كان يتعين عليها أن تستتر ولا تختال وتتباهى بذلك السفه المستفز، وفى نفس الوقت كان من الأفضل والأجدر ألا نتوسع فى بث مشاهد البهرجة والحفلات الغنائية الراقصة التى من المؤكد أنها أثارت حنق واستفزاز عموم المصريين وسط معاناتهم الشديدة.