أسامة أيوب يكتب : حدث الهجرة.. الدروس والدلالات والمعجزات واستشراف الفتح
فى استقبال العام الهجرى الجديد
سوف تبقى الهجرة النبوية من مكة مهبط الوحى إلي يثرب «المدينة» دار الهجرة واحدة من أهم ثلاثة أحداث كبرى وفارقة في التاريخ الإسلامى، حيث كانت فاتحة الحدثين الآخرين الفارقين.. غزوة بدر وفتح مكة، ومع بدء العام الهجرى الجديد (١٤٤٦) اليوم الأحد، وإذ يستدعى أكثر من مليار ونصف المليار مسلم فى أرجاء المعمورة ذكرى الهجرة العطرة، فإن استدعاء تلك الذكرى يتعين أن يستدعى بالضرورة أهمية ذلك الحدث وما شهده من دروس عظيمة فى الإعداد ومن ثم دلالتها ونتائجها.
لقد بدأت أحداث الهجرة بهجرة المسلمين المستضعفين الأُولى والثانية إلى الحبشة.. فرارًا بدينهم بأمره صلى الله عليه وسلم بعد أن اشتد تعذيب قريش لهم، وحيث كانت الهجرة إلى الحبشة بمثابة فرصة ضرورية لالتقاط الأنفاس في نفس الوقت فقد كانت بمثابة هزيمة فخرية لقريش خارج الحدود بعد فشل محاولتهم لاسترجاع المسلمين الذين رفض النجاشى ملك الحبشة تسليمهم وآمنهم على أنفسهم وعلى بقائهم فى بلاده بعد أن اقتنع بأن الإسلام دين سماوى صحيح، بل لقد تواترت الروايات لاحقًا أنه أسلم وأن النبى صلى عليه صلاة الغائب بعد موته.
وبعد الحبشة كانت هجرة المسلمين إلى المدينة انتقالا إلى دار أمن وأمان من قبل أن يأتى إليه الرسول، وحيث كانت بمثابة الفتح الأول للإسلام قبل فتح مكة بعشر سنوات، بعد أن تعاهد أهل يثرب من قبيلتى الأوس والخزرج الذين أسلموا وبايعوا الرسول على نصرته إن هاجر إليهم وهو ما حدث منذ وصوله صلى الله عليه وسلم إلى يثرب حيث أقام دولة الإسلام الأولى التى كانت منطلقًا لانتشار الدعوة والدين فيما حولها.
<<<
أحداث هجرات المسلمين سواء إلى الحبشة ثم إلى يثرب انطوت على كثير من الدروس في الحذر والحيطة، حيث كانت مغادرتهم لمكة تجرى فى سرية كاملة حتى لا يلحق بهم كفار قريش الذين كانوا يخشون تجمع المسلمين خارج مكة خاصة بعد هجرتهم إلى يثرب وترحيب أهلها الذين أسلم بعضهم، إذ كان هؤلاء المهاجرون قبل هجرة الرسول خير دعاة للدين الإسلامى وحيث تزايدت أعداد الذين أسلموا من أهل يثرب.
<<<
أما دروس هجرته صلى الله عليه وسلم فقد كانت بالغة الأهمية من حيث الأخذ بالأسباب رغم أنه النبى المؤيد من السماء، بقدر ما شهدت الكثير من المعجزات الإلهية التى أكدت صدق دعوته ورسالته، فعلى صعيد الأخذ بالأسباب الدنيوية وحيث كان الرسول آخر المهاجرين بعد أن اطمأن على مغادرة جميع المسلمين لمكة، حدث إنه طلب من الصديق أبى بكر أن يستعد سرا بتهجيز قافلتين لحين اللحظة المرتقبة حيث أخبره بأنه سيكون صاحب فى رحلة الهجرة.
فى رحلة الهجرة ومع الأخذ بالأسباب رغم أنه مؤيد من السماء ليكون قدوة للمسلمين، توجه الركب في اتجاه معاكس للطريق إلى يثرب بهدف تضليل الكفار الذين خرجوا للإمساك به وقتله ومنعه من الهجرة، وفي مشهد آخر من الرحلة اختبأ مع صاحبه أبى بكر في غار ثور بعض الوقت حتى ييأس الكفار من اللحاق به، وفى نفس الوقت استأجر دليلا يقود الركب فى دروب الصحراء بينما استأجر آخر راعى غنم ليقوم بمسح آثار سير الركب.
أما المعجزات التى تجلت فى رحلة هجرته صلى الله عليه وسلم ووثقها القرآن الكريم مثلما وثقتها السيرة النبوية المشرفة فقد بدأت عندما حاصر أربعون فتى من أشد فتيان قبائل قريش بيته حاملين سيوفهم وظلوا طوال الليل ينتظرون خروجه لضربه ضربة رجل واحد فيتفرق دمه بين القبائل ومن ثم لا يقوى بنو هاشم على قتالها بحسب الخطة الخسيسية التى اقترحها عمرو بن هشام «أبوجهل» وأقرها سادة قريش.
لكنه صلى الله عليه وسلم خرج عليهم وألقى على وجوههم التراب قائلا: «شاهت الوجوه» ولم يروه حسبما نزل القرآن «وجعلنا من بين أيديهم سدًّا ومن خلفهم سدًّا فأغشيناهم فهم لا يبصرون».
<<<
المعجزة الثانية فى رحلة الهجرة كانت عند غار ثور الذى اختبأ فيه الرسول وصاحبه أبوبكر، حيث وصل كفار قريش الذين يلاحقونه حيث انتهى أثر سير الناقتين حسبما أكد قصاص الأثر، وعندما همّ الكفار لاقتحام الغار كانت المفاجأة أو بالأحرى المعجزة وهى وجود العنكبوت في مدخل الغار مع وجود يمامتين باضتا فى فوهة الغار، وهو ما تأكد معه الكفار من استحالة وجود أحد فى الغار.
هذه المعجزة حدثت بينما كان أبوبكر يرتعد خوفًا على الرسول ويقول له: «لو نظر أحدهم تحت قدميه لرآنا»، ويرد عليه الرسول: «ما ظنك يا أبا بكر باثنين الله ثالثهما».
معجزة الغار وثقها القرآن الكريم أيضا بقوله تعالى: «وإذ أخرجه الذين كفروا ثانى اثنين، إذ هما فى الغار، إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا».
رحلة هجرته صلى الله عليه وسلم من مكة إلى يثرب «المدينة» استغرقت خمسة عشر يومًا، وهي مدة اعتبرها المهاجرون والأنصار الذين ظلوا ينتظرون قدومه طويلة وإن كانت فى الحقيقة قصيرة بالنظر إلى مناورات التخفى وتضليل الكفار، بينما يتعجب الناس فى الوقت الراهن كيف قطع رسول وصاحبه هذه المسافة على ناقتين في تلك المدة رغم وعورة الطريق.
<<<
فى مجتمع المدينة.. دار الهجرة كان الدرس الأول بعد أن استقر النبى بها هو دعوته للتآخى بين أهلها «الأنصار» والمهاجرين، حيث استقبل واستضاف كل رجل من الأنصار رجلًا من المهاجرين لحين بدء حياته الجديدة، ثم إنه بدأ ببناء بيته ومسجده.. أول مسجد في المدينة والثانى بعد مسجد «قباء» إحدى ضواحى يثرب الذى أقامه قبل دخوله المدينة، وحيث كان مسجد المدينة الجامع للمسلمين ومقرًا للدعوة وإدارة الدولة الجديدة.
ثم كانت الوثيقة التى أقرها صلى الله عليه وسلم تحت عنوان وثيقة المدينة واحدة من أهم الدروس، إذ نظمت العلاقة بين المسلمين وغيرهم من يهود المدينة، وحيث كانت بمثابة ميثاق سياسى ودستور هو الأول فى التاريخ الإسلامى الذى عكس رؤية حضارية متقدمة جدًا بمقاييس ذلك العصر.
<<<
من دار الهجرة فى المدينة المنورة كان أول انتصار إسلامى على الكفر والكفار فى غزوة بدر الكبرى التى انتصر فيه المسلمون بقيادته صلى الله عليه وسلم على كفار قريش الذين استهدفوا غزو المدينة والقضاء على الإسلام في مهده، فكان النصر الكبير حليف المسلمين في معركة غير متكافئة مع الكفار من حيث العدد والعدّة، ورغم حالة الضعف والوهن التى كان المسلمون عليها لكن الله نصرهم كما ورد في القرآن الكريم: «ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة»، وحيث نصر بدر استشرافا للحدث الأكبر فى التاريخ الإسلامى بفتح مكة ونهاية الشرك وعبادة الأصنام وارتفاع رايات التوحيد والإسلام في شبه جزيرة العرب، حيث دخل الناس فى دين الله أفواجا ومنها توالت فتوحات وانتشار الإسلام.
<<<
من دروس الهجرة أيضا التى لقنها صلى الله عليه وسلم بعد فتح مكة.. أنه لم يغفل دور الأنصار فى نصرته ونصرة الإسلام، حيث قال لهم مُسترضيًا حين ظنوا أنه فضل عليهم أهل مكة بعد غزوة حنين عقب فتح مكة فى توزيع الغنائم: «ألا يرضيكم أن يعود الناس بالشاة والبعير وتعودون برسول الله، والله لو سلك الناس طريقا وسلك الأنصار طريقا، لسلكت طريق الأنصار»، ثم قال «إن المحيا محياكم والممات مماتكم»، حيث كان ذلك استشرافا بأن نهاية حياته صلى الله عليه وسلم ومن ثمَّ قبره سيكون فى المدينة، ليكون مزارا للحجاج بعد أداء الحج أو العمرة، وفى ذلك تكريم للأنصار وللمدينة التى كانت دار هجرته ومنطلق دعوته وتبليغ رسالته للناس ودار مماته وقبره صلى الله عليه وسلم.
<<<
يبقى أخيرًا التذكير بمعلومة مهمة وهى أن غرة شهر المحرم بداية العام الهجرى ليست اليوم الذى شهد هجرته صلي الله عليه وسلم والتى كانت فى شهر ربيع الأول، غير أن العمل بالتاريخ الهجرى وبدء العام فى ذلك اليوم بدأ في عهد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب «الخليفة الثانى» الذى رأى ضرورة اتخاذ تقويم عربى إسلامى لتأريخ الأحداث، وبعد مشاورات مع كبار الصحابة الذى تباينت آراؤهم بشأن السَنَة التى يبدأ بها التقويم ما بين سنة ميلاد الرسول وسنة غزوة بدر وسنة فتح مكة، توافق الجميع على رأى عمر بن الخطاب ببدء التقويم بالعام الذى شهد هجرة الرسول إلى المدينة، على أن يبدأ العام بشهر المحرم حسبما اقترح عمر باعتباره الشهر الذى يفيض فيه الحجيج إلى ديارهم.