أسامة أيوب يكتب : سنوات الخلفاء الراشدين.. خواطر رمضانية (٣-٣)

انقضاء حقبة الخلافة الراشدة بعد عثمان وعلى.. ومعاوية حولها إلى ملك أموى عضوض
لأن الفاروق عُمر لم يرد أن يستخلف وينفرد باختيار خليفة من بعده دون مشورة ورأى الصحابة والمسلمين فإنه رشح ستة من كبار الصحابة وأمر بحبسهم في منزل لا يخرجون منه قبل أن يجمع خمسة منهم على من يرضونه منهم خليفة ويبايعه المسلمون وقد أمهلهم ثلاثة أيام حتى يتفقوا، وقد كان ذلك التوجه من جانبه حرصًا منه علي ألا يغادر الدنيا قبل أن يطمئن على أنه أدى الأمانة رغم انتظاره الموت بفعل الطعنات الغادرة التى اغتالته في المسجد، وبالفعل لم يسلم الروح إلا بعد أن أجمع الستة على اختيار عثمان بن عفان ليكون الخليفة الثالث.
اختيار عثمان بن عفان لقى قبولًا وإجماعًا من كل الصحابة والمسلمين فى المدينة وبمبايعته صار الخليفة الثالث، إذ لم يكن بينهم من يختلف عليه أو لا يقدر مكانته وقدره فى الإسلام فهو ذو النورين الذى استحق هذا اللقب لتشرفه بالزواج من ابنتى النبى على التوالى، وهو الذى كان صلى الله عليه وسلم يقول عنه: إن عثمان تستحى منه الملائكة لشدة ورعه، وهو أيضًا الذى دعا له النبى "ما ضر عثمان ما فعل بعد اليوم" يوم أن جهز جيشًا بالكامل من ماله الخاص في وقت تعثر فيه تجهيز الجيش والذى سُمى بجيش العسرة.
خلافة عثمان التى دامت نحو أربع عشرة سنة وشهدت فتوحات إسلامية كبرى، شهدت أيضا أهم إنجاز دينى بعد انتقال النبى صلى الله عليه وسلم وهو كتابة المصحف الموحد وبرسم موحد والذى عُرف بالرسم العثمانى بدلا من المصاحف المتعددة فى الأمصار (الولايات الإسلامية) وهو المصحف المعتمد بالرسم العثمانى بإجماع الأمة فى بقاع الأرض حتى الآن.
<<<
المثير في خلافة عثمان أنه توسع فى تولية أقاربه من بنى أمية الكثير من الولايات والأمصار حتى لو كانوا الأقل كفاءة وهو الملك الذى انطوى على شبهة محاباة الخليفة وذلك ما أخذه عليه كثير من الصحابة، حيث ذكروه بأن سلفه الفاروق عمر لم يكن يولى أحدًا من أقاربه وأهله، بل إنه أبى بشدة مطالبة بعض الصحابة له وهو في فراش الموت بأن يستخلف ولده عبدالله وقال: كفى آل الخطاب أحدهم لهذا الأمر.
الأكثر إثارة أن عثمان كان يرد على منتقديه مبررًا محاباته لأقاربه بأن عمر كان يقطع رحمه مرضاة لله، أما أنا فأصل رحمى مرضاة لله!، والحقيقة أن هذا التبرير المتهافت ومع شديد الاعتزاز بمكانة ذي النورين وورعه من غير اليسير قبوله ممن هو فى مكانته، إذ إن صلة الرحم طلبًا لمرضاة الله تكون من مال الواصل شخصيًا وليست على حساب الدولة وعموم المحكومين، ولذا ليغفر لى الله فإن تولية عثمان لأقاربه ليس فيها أى مرضاة لله.
ولعل سيرة عثمان كأحد كبار الصحابة والسابقين فى الإسلام وعطاءه في خدمة الرسالة والمسلمين مع ورعه الذى شهد له به صلى الله عليه وسلم.. كل ذلك قد يشفع له حسن نيته فى تولية أقاربه بحسبانهم فى ظنه الأكثر إخلاصا له وللخلافة والمؤتمنين على شئون الناس، وذلك استنادًا إلى دعاء الرسول له بعد تجهيز جيش العُسرة: "ما ضر عثمان ما فعل بعد اليوم" وكأن ذلك الدعاء كان استشرافًا منه صلى الله عليه وسلم لما قد يفعله عثمان لاحقًا، والله تعالى أعلى وأعلم.
<<<
ولقد كانت مؤامرة اغتيال عثمان على أيدى المندسين من أعداء الإسلام، بداية لما عرف فى التاريخ الإسلامى بالفتنة الكبرى والتى بدأت شرارتها الأولى برفض معاوية بن أبى سفيان أن يقتص من قتلة عثمان، ثم إنه وبعد أحداث وتفاصيل كثيرة لا يتسع لها المقال نصب نفسه خليفة فى الشام محدثا بذلك أخطر انشقاق فى الأمة الإسلامية منذ وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، وحيث عاشت الأمة سنوات ولها خليفتان.. على ومعاوية الذى ظل وأنصاره يرفعون قميص عثمان لاستثارة المسلمين وشق صفوفهم، وعلى النحو الذى انعكس حتى على مواقف كبار الصحابة الذين انقسموا ما بين مؤيد لعلى وبين مؤيد لمعاوية اعتقادا من هؤلاء بأن معاوية صادق في مطالبته بالقصاص من قتلة عثمان، علما بأنه تناسى مسألة القصاص بعد توليه الأمر ولم يقم بأى مسعى لتحقيق ذلك القصاص.
<<<
الحقيقة أن لهذه الفتنة الكبرى التى أشعلها معاوية طمعا فى الحكم وليس طلبا للقصاص جذورًا تاريخية قديمة قبل سنوات طويلة ضاربة فى أعماق الجاهلية وقبل الإسلام ثم بعد فتح مكة، وترجع إلى عداء بنى أمية لبنى هاشم.. حسدًا لهم على مكانتهم كأشرف بيوت قريش والعرب، وهو الحسد الذى تبدى بعد بعث النبي رسالة الإسلام عندما قالوا: كنا كفرسي رهان، سقيتم وسقينا وأطعمتم فأطعمنا (يقصدون خدمة الجحيج التى كان لبنى هاشم السبق فيها)، والآن تقولون منكم نبى، فأنى يكون منا نبى، حيث اعتبروا أن خروج النبى من بني هاشم سوف يعلى مكانتهم بين العرب ليس تحت عنوان الدين والرسالة، ولكن لأنهم كانوا يتعاطون مع الأمر باعتباره وسيلة للسيادة وليس للإيمان والإسلام.
ولقد تأكدت هذه النظرة الضيقة بعد فتح مكة الذى حسم انتصار الإسلام والإيمان على الشرك عندما قال أبوسفيان للعباس عم النبي: لقد صار لابن أخيك ملك عظيم، وهو الوصف الذى صممه العباس لأبى سفيان بقوله: بل إنها نبوة ورسالة، وبهذه النظرة الأموية من جانب أبى سفيان أيضًا قال لابنه معاوية يا بني إن هذا الأمر الفضل فيه لمن سبق فاقترب من محمد والحق ما فاتنا منه، ولذا التحق معاوية بكتاب الوحى حتى يحظى بمكانة في الإسلام وفى هذا الملك المرتقب بحسب أبيه أبى سفيان.
<<<
وفى هذا السياق تجدر الإشارة الضرورية إلى أن هند بنت عتبة زوجة أبى سفيان ووالدة معاوية كانت متزوجة من أحد سادة مكة وقد اتهمها زوجها فى شرفها فأخذها أبوها عتبة مع زوجها إلى عراف مشهود له في اليمن حيث برأها من تهمة الزنى وعندها رفضت الرجوع إلى زوجها خاصة بعد أن نبأها العراف بأنها ستلد ملكا، إذ قالت لزوجها إنها تأبى أن تلد هذا الملك منه، وبعد ذلك تزوجت أبا سفيان وأنجبت منه ممن أنجبت معاوية.
هذه النبوءة ظلت علما لهند ولأبى سفيان وبالضرورة لمعاوية وكل بنى أمية، ولذا تمكن معاوية فى نزاعه مع على وبالدهاء والتآمر والخديعة من إحكام قبضته على الأمر حتى بايعه الحسين وتنازل عن الخلافة حقنًا لدماء المسلمين وحرصًا على وحدة الأمة الإسلامية، ولذا سمى العام الذى تنازل فيه الحسن بن على بعام الجماعة.
<<<
غير أن معاوية حوّل الخلافة إلى ملك عضوض متوارث بين بنى أمية الذى حكموا مائة عام تحت اسم الدولة الأموية وإن احتفظوا وبكل بجاحة باسم أمير المؤمنين ولحرص معاوية على إخفاء أى منافس له فإنه أوعز إلى زوجة الحسن بدس السم له فى العسل لقتله بعد أن وعدها بمكافأة مالية كبيرة وتزويجها من ابنه يزيد (مع ملاحظة أنه كان يلجأ للتخلص من معارضيه بدس السم لهم في العسل وحيث كان يقول متهكمًا إن لله جنودًا من عسل)، وبعد أن قتلت زوجة الحسن زوجها منحها معاوية المكافأة وتراجع فى وعده لها بتزويجها يزيد قائلًا لها لم تكونى أمينة على ابن بنت النبى فإنك لن تؤتمنى على ابن معاوية!
ثم إن يزيد هذا الذى خلف أباه معاوية قتل الحسين بن علي في كربلاء بعد أن تخلى عنه أهل العراق الذين دعوه إليهم لمبايعته وكان قتله وسيظل جريمة شنعاء فى التاريخ الإسلامى ثم إن يزيد هذا الذى كان سكيرًا شرب الخمر يومًا وأمامه المصحف ولما وقعت عيناه على آية "واستفتحوا وخاب كل جبار عنيد" فإنه مزق المصحف وأنشد يقول: "أتنذر كل جبار عنيد، وها أنا جبار عنيد فإذا ما لقيت ربك يوم حشر فقل مزقنى اليزيد"!
<<<
ثم إنه من المتواتر أن خلفاء بنى أمية ومنذ معاوية كانوا يأمرون خطباء الجمعة فى المساجد أن يلعنوا الإمام علي من فوق المنابر، وحدث ذات مرة أن عز على إمام وخطيب أن يفعل ذلك فتحايل على الأمر بقوله: إن أمير المؤمنين أمرنى أن ألعن عليًا ألا فالعنوه، وحيث قصد بذكاء وفطنة أن يلعنوا من أمره بلعن علي رضى الله عنه وكرم الله وجهه.
بعد كل ما سبق فإنه يبقى من العجيب حقًا أن يصب الشيعة لعنهم وغضبهم وكراهيتهم على أبى بكر الصديق والفاروق عمر بادعاء أنهما تبادلا إسناد الخلافة لكل منهما واستبعدا عليا، متغافلين عن أن عليا بايع الاثنين ثم بايع عثمان الذى لم ينله أى غضب من جنبهم، ثم متغافلين عن كل ما فعله معاوية والأمويون بعده ضد الإمام على وضد الحسن والحسين ومتغافلين أيضًا عن لعن علي على منابر مساجد الدولة الأموية، بينما كان من الممكن تفهم كراهيته لمعاوية وللأمويين وصب اللعن والسب عليهم دون المساس بالصديق والفاروق.. منتهى الغباء.
بمقتل الإمام علي الخليفة الرابع، وباستيلاء معاوية على الخلافة ثم بتحويلها إلى ملك عضوض أموى فإن ذلك كان نهاية حقبة الخلافة الراشدة وسنوات الخلفاء الراشدين، والأخطر كان انقسام المسلمين بل الأمة إلى شيعة وسنة والأكثر خطورة أن الشيعة لم تعد مذهبًا فحسب وإنما صارت طائفة.
<<<
لكل ما سبق أجدنى مجتهدًا ووفقا ليقين خاص لا أقبل أن يُذكر معاوية مسبوقا بكلمة سيدنا أسوة بالصحابة المقربين السابقين الأكابر كما يرد على لسان علماء المسلمين الذين يبررون ذلك بأنه من الصحابة وكتاب الوحى، وهو تبرير أراه مرفوضًا من وجهة نظرى وبحسب تاريخه وتاريخ بنى أمية.
<<<<
تلك كانت خواطر رمضانية التى أختمها بالسطور السابقة.