أسامة أيوب يكتب : فى وداع العمدة صلاح السعدنى وذات الجمال الراقى شيرين سيف النصر
بعد سنوات طويلة من اعتزال التمثيل والعُزلة الاجتماعية الإجبارية التى قضاها فى صمت طويل فرضه المرض «ألزهايمر» الذى غيّبه عن الحياة وهو حى.. جاء رحيل الفنان الكبير صلاح السعدنى الأسبوع الماضى فى هدوء وهو الذى كان يملأ الساحة الفنية صخبًا وحضورًا طاغيًا ليُسدل الستار على مسيرة فنان مثقف اتسم بالحس الوطنى العميق والأداء الصادق المتميز والمتألق عبر كل أشكال الدراما المسرحية والسينمائية، وإن كانت أعماله التليفزيونية هى الأكبر حظوة على حساب حضوره فى السينما والمسرح.
وإذا كان الموت قد غيّب صلاح السعدنى عن الحياة بعد أن غيّبه المرض العضال والعزلة الاجتماعية الإجبارية عن الحضور فى المشهد الفنى لسنوات طويلة، فإنه سيبقى حيًا والغائب الحاضر بأعماله المتميزة التى رفعته إلى مرتبة النجومية والتى تحظى وستظل تحظى بأكبر قدر من المشاهدة كلما عرضتها شاشات التليفزيون والفضائيات المصرية والعربية على حد سواء.
سوف يبقى صلاح السعدنى حاضرًا بقوة ولعقود طويلة قادمة فى تاريخ الفن فى مصر والعالم العربى باعتباره أحد أهم الفنانين الكبار المهمين والذى أثرى بأعماله الدراما المصرية والعربية.. المسرحية والسينمائية والتليفزيونية، ومن ثمَّ فسوف تخلِّده أعماله عبر كل الأجيال وجيلا بعد جيل.. الأجيال التى عاصرته والأيجال الحالية التى تتابع أعماله بشغف وإعجاب وكذلك وبالضرورة الأجيال اللاحقة.
<<<
مسيرة صلاح السعدنى الفنية بدأت مبكرًا فى ستينيات القرن الماضى، حيث كان مازال طالبا بدوره فى مسرحية «لوكاندة الفردوس» أمام النجوم الكبار.. عبدالمنعم مدبولى وأمين الهنيدى وعقيلة راتب ونجوى سالم، ورغم صُغر حجم الدور ومساحته على خشبة المسرح فإنه بدا متألقًا منذ البداية، وحيث كانت هذه البداية المبكّرة استشرافًا لنجوميته اللاحقة فى وقت قصير حسبما أكد خلال مسيرته الفنية التى طالت لأكثر من خمسة عقود، وإن كان من الممكن أن تطول أكثر لولا المرض والعزلة والاعتزال والموت.
باستعراض مسيرة العطاء الفنى الطويلة للنجم الرحل صلاح السعدنى.. ممثلا على المسرح وفى السينما وفى الدراما التليفزيونية.. بل متحدثًا فى حواراته الصحفية وعلى شاشات التليفزيون.. يتأكد أنه لم يكن مجرد ممثل متميز الأداء فحسب ولكنه كان فنانا مثقفا ذا حس وطنى مرهف وصادق، وذلك هو سر تميزه بين جيله وزملاء عصره.
ورغم تنوع أدواره وتميز أدائه بإجماع آراء النقاد والمشاهدين فى مصر والعالم العربى إلا أنه فى تقديرى الشخصى بعد تقدير الغالبية قد بلغ ذروة الأداء والتفوق التمثيلى الدرامى فى المسلسل التليفزيونى الأشهر «ليالى الحلمية» فى دور العمدة سليمان باشا غانم والذى صعد به إلى أعلى درجات النجومية والذى مازال يحظى بأعلى نسبة مشاهدة حتى الآن ورغم انقضاء سنوات طويلة على عرضه لأول مرة على شاشات التليفزيون.
فى هذا الدور تفوَّق صلاح السعدنى تفوقًا مذهلا على نفسه ولا أبالغ إذا قلت بل إنه تفوَّق على النجم الكبير يحيى الفخرانى الذى أدى دور سليم باشا البدرى فى تلك المباراة الدرامية الساخنة فى تشخيص المنافسة الشخصية حامية الوطيس بين الباشا الارستقراطى سليم البدرى والعمدة سليمان غانم الذى ينتمى إلى طبقة أعيان وأثرياء الريف من ذوى الأملاك الذين استطاعوا الحصول على لقب الباشوية.
ولقد كان انتماء صلاح السعدنى إلى تلك الطبقة من أعيان الريف حيث كان والده يشغل منصب العمدة فى قريتهم قد استدعى بسهولة إلى ذاكرته ملامح وصفات شخصية العمدة، الأمر الذى انعكس على أداء الدور بتلك القوة والعفوية وحيث بدا أنه لا يمثل ولكنه يؤدى دور العمدة والده، وقد كان نجاحه منقطع النظير لذلك الدور سببًا فى أن يوصف بـ«عمدة الفنانين».
<<<
ولأنه الشقيق الأصغر للكاتب الصحفى الساخر الراحل محمود السعدنى المشهور بمشاغباته السياسية والفنية والذى كان يعد أحد ظرفاء عصره أمثال كامل الشناوى وجليل البندارى، فقد كان ضروريا أن يتأثر صلاح السعدنى بأخيه الكبير.. ثقافيا وسياسيا وفنيا ومعرفيا، وعلى النحو الذى يؤكد صحة وحقيقة نظرية الوراثة الچينية إضافة إلى حقيقة أخرى وهى تأثير البيئة التى نشأ فيها والتى تركت بصماتها واضحة على شخصيته ومسيرته الفنية والتى أنتجت صلاح السعدنى الفنان المثقف ذا الحس الوطنى والسياسى المرهف.
<<<
تلك الچينات الوراثية امتدت إلى الجيل الثانى من آل السعدنى، حيث تبدت بوضوح فى أكرم نجل محمود السعدنى الذى ورث مهنة أبيه وصار صحفيا مثلما تبدت بوضوح مذهل فى الفنان أحمد السعدنى نجل صلاح السعدنى الذى يصعد سلم النجومية بسرعة فائقة بأدائه الناضج المتميّز والذى كان مفاجأة للنقاد والمشاهدين ولكل نجوم التمثيل فى مصر، رغم أن صلاح السعدنى لم يُسعفه الوقت ولم يُتح له المرض أن يرى ويُدرك النجاح الذى حققه نجله أحمد والذى سيجعله امتدادًا لمسيرته ونجوميته.
<<<
يبقى من المفارقات أن المشهد الأخير والحزين لرحلة صلاح السعدنى الذى رحل فى هدوء قد تحوَّل إلى صخب وفوضى، حيث شهدت جنازته تصرفات مؤسفة وسخيفة من جانب حشود من مصورى المواقع الإلكترونية ومن المتطفلين الذين اعتادوا حضور جنازات الفنانين لالتقاط صور مع النجوم المشاركين فى تشييع الجنازة، والذين لم يراعوا مشاعر وأحزان نجله وأفراد أسرته وزملائه مثلما لم يراعوا آداب الجنازات، ولذا فقد جاء بيان الدكتور أشرف زكى نقيب المهن التمثيلية للاعتذار لأسرة السعدنى ولزملائه والذى تضمن حظرًا لحضور أى مصور لجنازة أى فنان فى المستقبل ضروريًا لمنع تكرار ما جرى فى جنازة صلاح السعدنى.
<<<
ما بين رحيل صلاح السعدنى بعد سنوات من المرض والعزلة والاعتزال.. جاء رحيل النجمة الفنانة شيرين سيف النصر التى غيبها الموت قبله بأيام بعد أن غيبتها أيضًا العزلة الاجتماعية بفعل المرض لسنوات، ومثلما كانت هادئة الملامح رغم جمالها الطاغى والراقى غير المبتذل فى نفس الوقت، فقد رحلت مبكرًا بهدوء دون أى صخب، وإن خلف رحيلها المفاجئ أحزانا لافتة لدى جموع المصريين.
شيرين سيف النصر التى أثبتت جدارتها الفنية خلال مسيرتها القصيرة نسبيًا ومن خلال أدوارها قليلة العدد كثيرة التأثير والأهمية فى المسرح والسينما والتليفزيون على حد سواء.. كانت قد توقفت فجأة عن التمثيل وإن لم تعلن الاعتزال، حيث أصيبت فى السنوات القليلة الأخيرة بحالة من الحزن والاكتئاب وفرضت على نفسها عزلة اجتماعية إجبارية بعد أن فقدت الكثير من المقربين ومنهم مدير أعمالها ومساعدها وسائقها الخاص، خاصة أنها عاشت وحيدة دون زوج رغم زواجها ثلاث مرات ودون أولاد إذ لم تنجب أو بالأحرى عزفت عن الإنجاب ربما لسبب خوف داخلى واستشعار للموت المبكّر.
<<<
الذى لا يعرفه الكثيرون عن شيرين سيف النصر أن أباها صحفى مصرى وأمها أردنية من أسرة عريقة أورثتها ذلك الجمال الطاغى الراقى المحترم والهادئ أيضًا، ورغم أن جمالها كان البوابة الملكية لدخول عالم التمثيل والنجومية، إلا أنها لم تعتمد على الجمال وحده على الإطلاق حيث أكدت بأدائها المتميز والهادئ والأخاذ جدارتها الفنية حسبما تبدى فى أدوارها المتنوعة فى السينما والمسرح والتليفزيون والتى لاتزال محفورة فى أذهان المشاهدين فى مصر والعالم العربى.
<<<
رغم كل أدوارها المتميزة وأعمالها السينمائية والمسرحية والتليفزيونية الناجحة، فإن شيرين سيف النصر بلغت ذروة الأداء بدورها فى المسلسل التليفزيونى الأشهر «من الذي لا يحب فاطمة» تأليف الكاتب الكبير الراحل أنيس منصور، وهو الدور الذى نالت عنه أكبر شهرة والذى سيبقى خالدًا لا يغيب بعد أن غيبها الموت.
<<<
اللافت حقًا فى رحيل شيرين سيف النصر هو ذلك الحزن الكبير الصادق الذى خيَّم على المصريين حسبما كشفت مشاعرهم على شبكات التواصل الاجتماعى وفى كلمات الرثاء فى وداعها على شاشات الفضائيات وفى الأحاديث المتبادلة بين المصريين، وحيث بدت تلك المشاعر الصادقة تكريما واعتزازا وتقديرا وتضامنا معها بأثر رجعى، بقدر ما كانت اعتذارا ضمنيا لها عن عدم السؤال عنها أو الاهتمام بها خلال عزلتها وأحزانها قبل رحيلها المفاجئ.
<<<
وداعًا صلاح السعدنى عمدة الفنانين.. وداعًا شيرين سيف النصر أو فاطمة التى أحبها المصريون.. ومن الذي لا يحب فاطمة.