أسامة أيوب يكتب : عن أزمة الكهرباء واعتذار رئيس الحكومة
اعتذار الدكتور مصطفى مدبولي رئيس الحكومة للشعب المصرى يوم الثلاثاء الماضى وقت كتابة هذه السطور عن أزمة قطع الكهرباء والتى بلغت ذروتها مع مد فترات الانقطاع من ساعتين إلى ثلاث وأربع وخمس وتسع ساعات ليلا ونهارا وعلى نحو عشوائى تحولت دون تحديد أو التزام بجدول زمنى معلن للمواطنين، حيث تحولت الأزمة إلى فضيحة من العيار الثقيل لا تليق بمصر وشعبها، هذا الاعتذار بدا غير كاف ومن ثم غير مقبول من جانب المصريين.
المصريون لم يقبلوا الاعتذار لعدة أسباب واعتبارات.. أولها أنه جاء متأخرًا جدا وبعد شهور من المعاناة القاسية والعذاب الشديد، وبعد أن ظلت الحكومة تُبرر قطع الكهرباء لمدة ساعتين وتبشر المواطنين باستمرار الانقطاع طوال أشهر الصيف وأن عليهم التحمل، ثم ظلت صامتة حائرة عندما امتدت ساعات الانقطاع الأسبوع الماضي إلى ما بين خمس وتسع ساعات فى كثير من المدن والمناطق بامتداد الخريطة المصرية، وهو الأمر الذى أكد استهانتها بآدمية الناس.
الاعتذار غير مقبول وغير كاف لأنه كان يتعين أن يتضمن اعترافًا صريحًا بخطأ الحكومة دون إلقاء السبب على ما وصفه الدكتور مدبولى بخلل وعطل فنى، وهذا الخطأ الحكومى في سياق سلسلة أخطاء يعكس فى حقيقة الأمر فشل مجمل السياسات فى إدارة شئون البلاد فى غيبة الاستراتيجيات والرؤية المستقبلية، حسبما حدث فى أزمة الكهرباء والتى بدت وكأنها داهمت الحكومة فجأة بينما كانت المعطيات لديها تنبى بل تؤكد وقوعها وهو ما غفلت عنه في إهمال وتقصير فى الاضطلاع بمسئولياتها.
ولذا فإن تلك الإجراءات العاجلة التى أعلن عنها رئيس الحكومة فى بيان الاعتذار بالتعاقد الفوري على استيراد شحنات مازوت لتشغيل المحطات بكامل طاقتها بداية من الغد «أول يوليو» إنما تؤكد تقاعس الحكومة عن التعاطى بجدية المطلوبة السريعة والضرورية مع الأزمة لإنهائها، ومن ثمَّ فإنه لولا تفجر الأزمة على ذلك النحو الفاضح لما تحركت.
<<<
لقد ظلت الحكومة متقاعسة عن حل الأزمة، بينما الناس في أرجاء مصر تعانى بشدة من انقطاع الكهرباء فى صيف شديد الحرارة، حيث ارتفعت درجات الحرارة فى ذروة الأزمة إلى نصف درجة الغليان فى استهانة بآدمية المصريين وبينهم كبار السن والمرضى بأمراض لا تحتمل هذا الارتفاع غير المسبوق فى درجات الحرارة، وحيث تعرض كثيرون لخطر الاختناق داخل المصاعد الكهربائية بل إن البعض فقدوا حياتهم وماتوا.
لقد ظلت الحكومة تتجاهل عذابات المواطنين خاصة مع انقطاع الكهرباء فى ساعات الليل الخانق، وتحولت الحياة إلى جحيم لا يموت فيها المواطن ولا يحيا، لا يستطيع النوم ولا اليقظة وهى الحالة التى تستدعى قول الشاعر العربى:
«فبت كأن العائدات فرشن لى هِراساً يعلو به فراشى ويقشَبُ»
وهى حالة تحولت معها الحياة إلى نار «تلظّى» ولعل طلاب الثانوية العامة قد عرفوا معنى كلمة «تلظى» التى ورد سؤال عنها فى امتحان مادة اللغة العربية.
حتى الإجراءات التى أعلنها رئيس الحكومة لتخفيف الأحمال بإغلاق المحلات العامة والمولات فى العاشرة مساء. والسماح للصيدليات والمطاعم للعمل حتى الواحدة بعد منتصف الليل سوف تكون لها تداعياتها وآثارها السلبية على حركة السوق والأنشطة التجارية وبما يؤثر على الاقتصاد فى مجمله.
<<<
وإذا كان اعتذار رئيس الحكومة قد تضمن تعهدا بأن تتم العودة إلى قطع الكهرباء لمدة ساعتين فقط اعتبارا من أول يوليو «الغد» ولمدة ثلاثة أسابيع.. يتوقف بعدها الانقطاع نهائيا وحتى نهاية أشهر الصيف، فإن هذا التعهد وإن أزال كابوسا مؤلما عن المواطنين فإنه فى نفس الوقت يمثل إدانة للحكومة بأثر رجعى لتجاهلها لمعاناة الناس وفى نفس الوقت أيضًا فإن لسان حال المصريين يردد أفلح إن صدق، وعلى النحو الذى يعكس فقدانهم الثقة فى الحكومة بحسب خبرات وتجارب سابقة.
المفارقة المثيرة أن الكهرباء لم تنقطع ولو دقيقة واحدة عن مقرات ومكاتب ومنازل الحكومة بينما كانت تتجاهل معاناة وعذابات المواطنين وتطالبهم بالتحمل حتى نهاية الصيف! أما المفارقة الأخطر فكانت استثناء بعض المدن والمحافظات من قطع الكهرباء، حسبما حدث فى العلمين وشرم الشيخ والغردقة والساحل الشمالى والعاصمة الإدارية بل أيضًا فى منطقة التجمع، وهو استثناء ينطوى على تمييز عنصرى طبقى جهوى فى انتهاك للدستور الذى ينص على منع التمييز بكل أشكاله بين المصريين.
<<<
ثم إنه مما يعد مدعاة للقلق أن الذين يديرون شئون البلاد لم ينتبهوا إلى أن المصريين قد تحملوا خاصة فى العامين الأخيرين وبشق الأنفس تدهور الأوضاع المعيشية على نحو غير مسبوق جراء ارتفاع أسعار كل شىء.. الدواء «الذى اختفى» كل الخدمات والرسوم والضرائب حتى السلع الغذائية الضرورية وحيث يعيش ثلث المصريين فى فقر شديد بينما انتقلت الطبقة المتوسطة أو كادت إلى طبقة الفقراء، ومن ثم فلم يعد فى مقدورهم تحمل المزيد بقطع الكهرباء لساعات فى درجات حرارة وصلت إلى نصف درجة الغليان، بل إنه ليس فى مقدورهم تحمل قطع الكهرباء حتى فى الشتاء باعتبار أن الكهرباء صارت تسيطر على كل حركة الحياة.
<<<
لقد غاب عن الحكومة والذين يديرون شئون البلاد أن المصريين لن يصدقوا مزاعم عدم توافر الدولار لاستيراد الغاز أو مستلزمات إنتاج الدواء بل إنهم يسألون أين ذهبت كل مليارات الدولارات التى تدفقت على مصر فى الشهور الأخيرة على الأقل.
إن المصريين يتساءلون أيضًا لماذا أنفقت الدولة عشرات المليارات من الدولارات والتى جرى اقتراضها ورفعت من حجم الديون على مشروعات تصفها بالعملاقة ويعتبرها المصريون غير ذات أولوية مقارنة بأولويات أخرى أكثر ضرورة وأهمية.
<<<
لقد كان من المؤسف أن بعض الإعلاميين على شاشات التلفزيون والفضائيات المصرية الذين رحبوا باعتذار رئيس الحكومة كانوا أول المبررين لقطع الكهرباء والداعين لتحمل المعاناة حتى نهاية الصيف، بل لقد وصل بهم الأمر خلال ذروة الأزمة وانقطاع الكهرباء لساعات طويلة إلى استدعاء وقائع وأحداث عارضة طارئة لانقطاع الكهرباء فى بعض الدول خارج مصر حسبما استدعت مذيعة متحذلقة واقعة انقطاع طارئ لم يدم للكهرباء فى مطار بريطانى للتدليل على أن الكهرباء تنقطع فى دول العالم الكبرى مثل مصر فى مغالطة فجة وسخيفة ومثيرة للاستياء.
<<<
إن مقتضيات المسئولية الدستورية للإدارة المصرية بالتوازى مع بنود العقد الاجتماعى تلزمها لا نقول بتحقيق الرفاهية فى الوقت الراهن على الأقل ولكن بتوفير ضرورات الحياة الإنسانية الكريمة لجموع الشعب والتى من بينها وأبسطها توفير الكهرباء دون انقطاع باعتبارها أدنى المظاهر الحضارية فى العقد الثالث من القرن الحادى والعشرين إذ إن تحقيق هذا الالتزام هو الضمان للرضا والقبول الشعبى اللذين كانوا على المحك فى الأسبوع الماضى حيث تصاعدت وتيرة الاحتقان المكتوم والغضب الصامت وبات من الخطير الرهان على استمرار الصبر والصمت، بينما لم يعد في قوس الصبر منزع بحسب المثل العربى القديم.
<<<
إن أزمة الكهرباء التى بلغت ذروتها الأسبوع الماضى قبل تحرك الحكومة السريع واعتذار رئيسها كادت تنطوى على مساس بالأمن القومى في أحد جوانبه ولكن الله سلم.. حفظ الله مصر وشعبها وأمنها.