د. محمد فراج يكتب : أوروبا- من يهدد من؟؟

أحد أهم توابع «الزلزال الاستراتيجى» الذى أحدثته مبادرة الرئيس الأمريكى ترامب بخصوص التسوية السلمية للمواجهة الشاملة بين روسيا والغرب حول أوكرانيا، هو ذلك الخلاف الحاد الذى حدث بين الولايات المتحدة والدول الأوروبية عموماً -والكبرى منها خصوصاً- حول مبادرة ترامب وهو الخلاف الذى جعل كثيراً من المراقبين الأوروبيين يتحدثون عن (إنشقاق) فى حلف الأطلنطى، وأن أوروبا لم يعد بإمكانها الاعتماد على التحالف مع أمريكا لضمان أمن القارة العجوز فى مواجهة ما يسمونه «الخطر الروسى» وأن الولايات المتحدة مستعدة للتخلى عن حلفائها الأوروبيين فى سبيل تحقيق مصالحها الخاصة فى التقارب مع روسيا.
وبناء على ذلك أعلن الاتحاد الأوروبى، ومعه بريطانيا (المنسحبة من الاتحاد) إصرار الحلفاء الأوروبيين على مواصلة دعم أوكرانيا، والبدء فى تشكيل تحالف بديل «للناتو» لحماية الأمن الأوروبى فى مواجهة الخطر الروسى. وبغض النظر عن المصاعب السياسية والاقتصادية التى تواجه إمكانية إقامة تحالف أمنى أوروبى بديل «للناتو» وكذلك عن إمكانية قدرة ذلك التحالف على دعم أوكرانيا، بعد أن أصبح واضحاً أن التحالف الغربى -بما فيه أمريكا- يتجه لخسارة الحرب والمواجهة العسكرية والسياسية والاقتصادية الشاملة مع روسيا، نقول إن بالرغم من ذلك كله فإن استمرار أوروبا فى موقفها هذا من شأنه أن يطيل أمد الحرب، وأن يعيق تحقيق التسوية لفترة طويلة، تخسر فيها أوكرانيا مزيداً من الأراضى والجنوب والقدرات الاقتصادية والعسكرية.
ولذلك يسعى الحلفاء الأوروبيون بكل السبل على إبقاء أمريكا فى ساحة المواجهة وهو ما يعلن ترامب كل يوم عن رفضه. كما يحاولون إعاقة التسوية من تقديم مقترحات بأن يعقب التسوية بفرض التوصل إليها نشر قوات حفظ سلام أطلسية أو أوروبية على الأراضى الأوكرانية تكون حاجزاً من إمكانية زحف القوات الروسية مستقبلاً على بقية أراضى أوكرانيا، ومن بعدها على دول أوروبية أخرى، كما يؤكد سياسيو وزعماء الاتحاد الأوروبى وبديهى أن روسيا ترفض هذا الاقتراح بصورة قاطعة، انطلاقاً من أن اشتعال الحرب قد حدث أصلاً بسبب خطط «الناتو» للتوسع شرقاً بضم أوكرانيا، الأمر الذى يمثل تهديداً بالغ الفداحة للأمن القومى الروسى، وتقول موسكو إنها لا يمكنها القبول بأى حال من الأحوال، بأن يتحقق بالتسوية، ما فشل الغرب فى تحقيقه من خلال الحرب.
كما تطالب روسيا بضمانات أمنية فى مقدمتها إعلان «الناتو» بصورة قاطعة عن عدم قبوله لعضوية أوكرانيا، وإعلان حياد الأخيرة (أى امتناعها عن الانضمام لأي تحالفات عسكرية وفى مقدمتها «الناتو بالطبع» ونزع سلاحها وإثبات ذلك كله فى دستور أوكرانى جديد، وفى اتفاقيات التسوية بالإضافة إلى تصفية جميع التنظيمات السياسية الفاشية والمتطرفة قومياً، بحيث لا تكون أوكرانيا مرة أخرى مصدراً لتهديد روسيا. كما تطلب موسكو اعترافاً أوكرانياً وغربياً مثبتاً رسمياً بسيادتها على شبه جزيرة القرم (استعادتها روسيا عام 2014) والمقاطعات الشرقية والجنوبية الأربع (دونيتسك ولوهانسك وسوخومى وزايوروجيه) التى تسيطر القوات الروسية على الأغلبية الساحقة من مساحتها.
أوروبا بين الحقائق والتمنيات
والحقيقة أن الوقائع على الأرض توضح أن التحالف الغربى قد خسر المواجهة مع روسيا كما خسر الحرب فى الميدان. وقد جاءت مبادرة ترامب بعيداً عن إقراره بهذه الهزيمة (راجع بالتفصيل: «الأموال» : 20 و27 فبراير - 6 مارس 2025) ولذلك فإن ترامب يصف الحرب فى أوكرانيا بأنها «حرب عبثية» و«حرب خاسرة» ويؤكد أنه لا يعنى الاستمرار فيها إهدار مزيد من الموارد والقوى والأرواح.
والحقيقة أنه لو كان موقف أوكرانيا والتحالف الغربى الداعم لها أفضل فى ميدان المعركة، لما كان ترامب قد وافق علي الشروط الروسية للتسوية.
والحقيقة التي لا تقل أهمية هى أن ترامب ينطلق من موقف استراتيجى مؤداه أن الصين هى المنافس الأول للولايات المتحدة على القطبية فى العالم، وأن الإصرار على معاداة روسيا وشن الحروب عليها يجعلها تقترب بصورة تلقائية من الصين وتعزيز تحالفها معها، بما لذلك من فوائد متبادلة لكل من موسكو وبكين - والنتيجة هى تعزيز قدرة الصين على منافسة ومواجهة أمريكا - بينما السعى إلى التسوية والتقارب مع روسيا يمكن أن يساهم فى خلخلة تحالفها مع الصين وبالتالى فى تعزيز موقف واشنطن فى المواجهة مع التنين الأصفر وهذا موقف يشارك ترامب فيه كثير من السياسيين ورجال الدولة والخبراء الاستراتيجيين الأمريكيين، بدليل فوزه الكير - هو والحزب الجمهورى - بالرغم من إعلانه عن موقفه تجاه التسوية فى أوكرانيا منذ بداية حملته الانتخابية.
كما يرى ترامب ومؤيدوه أن تطبيع العلاقات مع روسيا والاستفادة من الفرص التجارىة الكبيرة معها، وإمكانيات الاستثمار الهائل فى أسواقها ومواردها الطبيعية بالغة الضخامة.
وهو ينتقد سلفه بايدن والزعماء الأوروبيين بسبب عدم إدراكهم لهذه الحقائق أو عدم إيلائهم الاهتمام الواجب لها، فضلاً عن انتقاده المرير للدول الأوروبية وخاصة الكبرى منها لعدم التزامها بتحمل نصيب من الإنفاق الدفاعى يتناسب مع نتائجها المحلى الإجمالى، وإلقائها للجانب الأكبر من أعباء هذا الانفاق على أمريكا.
«الخطر الروسى» بين الحقيقة والوهم
بينما تصدر الدول الأوروبية الكبرى، وعدد من الدول المتوسطة والصغيرة فى شرق أوروبا، على تحقيق هدف ثبتت استحالته وهو إلحاق هزيمة استراتيجية بروسيا، وإجبارها على الانسحاب من أوكرانيا، وضم الأخيرة إلى الاتحاد الأوروبى ومن ثم إلى «الناتو» فى وقت لاحق وذلك من خلال استنزاف روسيا اقتصادياً وعسكرياً.. إلخ .. ويؤكدون أنه إذا انتصرت روسيا فى أوكرانيا، فإن «الخطر الروسى» سوف يستفحل.. وستتقدم روسيا لابتلاع بلدان أوروبية أخرى واحدة وراء واحدة.
ونجد من الضرورى هنا فحص جدية هذا الادعاء ومن قبله الادعاء حول «الخطر السوفيتى» على ضوء حقائق التاريخ والجغرافيا.. لنرى من يهدد من حقاً؟ وإلى أى مدى؟.
تقول حقائق الجغرافيا أن روسيا هى أكبر بلدان العالم من حيث المساحة (17 مليون كم2) وأنها تحتل الجزء الأكبر من أوروبا الشرقية (حول 5 مليون كم2).. أى حوالى نصف المساحة الكلية للقارة الأوروبية.. وعند نشأة الامبرارطورية الروسية بدت القرن الثامن عشر (فى عهد بطرس الأكبر) كانت تحتل المساحة من حدود أوروبا الشرقية حتى جبال الأورال بما فى ذلك بلدان مثل جمهوريات البلطيق الثلاث، وأوكرانيا الجزء الأكبر من بولندا، ثم ضمت إليها فنلندا، وتوسعت بعد ذلك فى آسيا وصولاً إلى سيبيريا والشرق الأقصى وصولاً إلى المحيط الهادى وشمالاً حتى الدائرة القطبية الشمالية.
ولن ندخل فى تفاصيل لا يتسع المقام لها هنا، حول قيام وتوسع وانهيار الممالك والإمبراطوريات فى أوروبا وبصفة خاصة فى أوروبا الشرقية، وكيف أدت هذه الصراعات إلى توسيع دول على حساب دول أخرى أو أجزاء من هذه الدول من خلال حروب ضارية، وثورات تحرر.. إلخ بل سنكتفى بذكر عدد من الوقائع الأكثر أهمية:
1 - فى القرون من 16 - 18 كانت بولندا مملكة مزدهرة اتحدت من ليتوانيا لتشكل ما يعرف بالاتحاد البولندى الليتوانى.. بينما كانت روسيا فى حالة ضعف مما مكن الجيش البولندى من غزو أوكرانيا والأجزاء الغربية من روسيا وصولاً إلى العاصمة (وقتذاك) موسكو (1610 - 1611) واحتلال الكرملين وحرق أجزاء كبيرة من العاصمة.. وبعد ثورات وتمردات انسحبت القوات البولندية من موسكو والأقاليم الغربية لكنها ظلت تحتل أوكرانيا لحوالى قرنين ومارس البولنديون قمعاً ونهباً هائلين فى المناطق التى احتلوها.
2 - ثم انهارت المملكة البولندية بعد ذلك تحت وطأة ضربات مملكة بروسيا أكبر أقاليم ألمانيا (التى لم تتوحد إلا عام 1870) ليتم اقتسام بولندا بين كل من الإمبراطورية الروسية وبروسيا، ولتتمكن الإمبراطورية الروسية من استعادة أوكرانيا.
3 - عام 1812 قام نابليون بونابرت بقيادة جيش فرنسى عبر أوروبا كلها ليصل إلى موسكو ويحتلها ثم واجه جيش نابليون الهزيمة بسبب المقاومة الروسية الواسعة، والظروف المناخية غير المألوفة للفرنسيين (البرد القارس) أو ما أطلق عليه الفرنسيون (الجنرال ثلج) لتنسحب فلوله عائدة إلى بلاده.
4 - فى 1914 - 1918 قادت ألمانيا تحالفاً ضم إمبراطورية النمسا والمجر وتركيا، وقامت بغزو أوروبا الشرقية وصولاً إلى أوكرانيا وأقاليم روسيا الغربية. بينما كانت روسيا فى تحالف مع بريطانيا وفرنسا (دول الوفاق).
5 - وحينما قامت ثورة أكتوبر الاشتراكية (1917) استمرت حروب الروس ضد جيوش التدخل الغربية (واليابانية) لمدة خمس سنوات كاملة، حتى تمكنت من تحرير أراضيها، ومن ثم قام الاتحاد السوفيتى فى حدوده المعروفة (1922).
6 - عام 1914 هاجمت جيوش هتلر (ألمانيا النازية) الاتحاد السوفيتى واحتلت أوكرانيا وروسيا البيضاء وأجزاء ضخمة من روسيا وصولاً إلى حصار العاصمة (موسكو) والعاصمة الثانية (ليننجراد - سانت بطرسبرج حالياً) وإلى مدينة ليننجراد على ضفاف نهر الفولكا وسط روسيا، قبل أن تلقى القوات النازية أول هزيمة كبرى لها فى ستالينجراد (شتاء 1942) ليبدأ الهجرم المضاد السوفيتى الذى حرر كل الأراضى السوفيتية، وجمهوريات البلطيق، وبولندا والمجر والنمسا وغيرها. وصولاً إلى برلين (عاصمة ألمانيا الهتلرية) ليتم رفع العلم السوفيتى على مبنى البرلمان (الرايشتاغ) في 9 مايو 1945).
وفقد الاتحاد السوفيتى فى هذه الحرب أكثر من سبعة وعشرين مليون إنسان، أغلبهم من الروس يمثلون أكثر من نصف الخسائر البشرية فى الحرب العالمية الثانية.
6 - ولن نتحدث عن الحرب الباردة ثم المؤامرات الغربية لإسقاط الاتحاد السوفيتى، ثم الثورات البرتغالية والقرمزية وغيرها (الثورات الملونة) التى استهدفت كومنولث الدول المستقلة بقيادة روسيا.. ومن ثم توسع حلف (الناتو) شرقاً ليضم دول أوروبا الشرقية، ثم جمهوريات البلطيق السوفيتية السابقة، وصولاً إلى محاولة ضم أوكرانيا بما لها من حدود طويلة مع روسيا (1500 كم / ألف وخمسمائة كم) .. وهى محاذية لقلب روسيا السكانى والصناعى والزراعى.. الأمر الذى أدى لاندلاع الحرب الأخيرة فى أوكرانيا.
وعلى ضوء هذه الحقائق التاريخية والجغرافية الأساسية نترك الحكم للقارئ الكريم: من يهدد من فى أوروبا؟؟ وما هى الأصول التاريخية للعداوات وتهديد الأمن فى القارة العجوز؟؟.