أسامة أيوب يكتب : بعد الوصول لمحطة السبعين فى قطار العمر السريع.. خواطر وتأملات
من المصادفات أن عملية «طوفان الأقصى» التى وصفتها بالحدث الفارق فى تاريخ الصراع الفلسطيني- الإسرائيلى، وما أعقبها من عدوان صهيونى خسيس قد تواكبت مع بلوغى سن السبعين فى الثلاثين من شهر سبتمبر الماضى، وحيث كان ضرورويًا ولازمًا تأجيل هذه السطور طوال تلك الأسابيع مع استمرار وتواصل المجازر اليهودية الصهيونية وحرب الإبادة الممنهجة ضد الشعب الفلسطينى الأعزل فى غزة والتى توشك أن تكمِّل شهرها الرابع بدعم غربى أمريكى أوروبى وسط عجز دولي وأممى عن إيقاف ذلك العدوان وتلك المجازر.
وهكذا شاءت الأقدار أن أشهد ويشهد جيلى ومن هم فى مثل سنى واحدة من أخطر حلقات المخطط اليهودى الصهيونى الغربى ضد الشعب الفلسطينى بل ضد الأمة العربية كلها فى حقيقة الأمر، حيث إننى من جيل تفتحت عيناه على مشهد العدوان الثلاثى على مصر عام ١٩٥٦ والذى لايزال محفورًا فى ذاكرة الطفولة المبكرة.
ورغم أنى وجيلى لم نعاصر النكبة الأولى عام ١٩٤٨ وإقامة الكيان الصهيونى تحت عنوان دولة إسرائيل إلا أنها كانت حاضرة فى وجداننا باعتبارها بداية تنفيذ المخطط الصهيونى الغربى، ثم كان العدوان الثلاثى بداية مشاهد متتالية عاصرتها وعاصرها جيلى فى سياق الصراع العربى- الإسرائيلى مرورًا بنكسة يونيو عام ١٩٦٧ ثم حرب الاستنزاف وصولا إلى انتصار السادس من أكتوبر ١٩٧٣.
<<<
ولأن القضية الفلسطينية ظلت تراوح مكانها طوال ثمانية عقود رغم انتفاضات الشعب الفلسطينى المتتالية ورغم العديد من جولات المفاوضات والاتفاقيات للوصول إلى التسوية السلمية، وحيث بدا واضحًا أن المخطط اليهودى الصهيونى المدعوم أمريكيًا يستهدف إضاعة الوقت وتصفية القضية والحيلولة دون إقامة الدولة الفلسطينية التى أقرتها مقررات الشرعية الدولية وعشرات القرارات الأممية.
لذا فإن عملية طوفان الأقصى التى قامت بها حركة المقاومة الإسلامية «حماس» فى السابع من أكتوبر الماضى كانت عملا مقاوما ضروريًا ضد استمرار الاحتلال الصهيونى وضد جرائمه الإرهابية ضد الفلسطينيين فى الضفة الغربية وفى غزة، وهى العملية التى أحيت القضية بعد أن تراجعت كثيرًا عربيًا وعالميا، بقدر ما كشف العدوان اليهودى الصهيونى المدعوم أمريكيا عن وحشية وبربرية وخسة ضد المدنيين والأطفال والنساء والعُزل فى غزة وعن تآمر الغرب الأمريكى الأوروبى على القضية الفلسطينية أمام الرأى العام العالمى بل أمام شعوب الغرب التى أكدت مظاهراتها الحاشدة تعاطفها مع الشعب الفلسطينى ومظلوميته التاريخية، وحيث تأكدت شعوب العالم أن إسرائيل دولة إرهابية مارقة خارجة على القانون الدولى تحت الرعاية الأمريكية.
<<<
متحدثًا عن نفسى وعن سبعين سنة فى رحلة الحياة حتى الآن.. منها خمسون سنة فى احتراف مهنة الصحافة، فإن ثمة خواطر وتأملات تتداعى لدىّ بعد الوصول إلى محطة السبعين فى قطار العمر السريع إذ بدا وعلى نحو مفاجئ أن الزمن قد داهمنى فى غفلة منى حتى أفقت على قرب نهاية الرحلة والوصول إلى المحطة الأخيرة فى قطار العمر بعد رحلة طويلة رغم أنها فى الحقيقة بدت قصيرة جدًا، إذ إنها مرت سريعا بفعل تسارع الأحداث وتصارع اهتمامات ومشاغل وطموحات الحياة.
ولأنى من جيل شاءت الأقدار ومواقيت الزمن أن يأتى إلى الحياة ويعيش بين قرنين.. القرن العشرين والحادى والعشرين، وبين ألفينيتين.. الألفية الثانية وبداية الألفية الثالثة، فإن ذلك الظرف الزمانى التاريخى الاستثنائى الذى لم يُتح ولا يُتاح لأجيال كثيرة أن تشهده قد أضفى على جيلى تفردًا نسبيًا أو هكذا أتصور ويتصوَّر جيلى السبعينى.
<<<
لقد عاصرت وشهدت مع جيلى ذروة التطورات والتحولات والإنجازات العلمية التكنولوچية فى قفزة حضارية بالغة التقدم بقدر ما بدت بالغة الخطورة أيضا على حياة البشر، بل على حياة كوكب الأرض ذاته، وحيث بدت هذه القفزة الهائلة والمروّعة فى نفس الوقت مؤشرًا على قرب نهاية الدنيا حسبما يتوقع ويعتقد الكثيرون.
وبينما أنتجت هذه القفزة العلمية التكنولوچية تقدمًا طبيًا مذهلا واكتشاف أدوية وعلاجات للأمراض الخطيرة التى لم يكن متاحًا علاجها بداية من اكتشاف «البنسلين» الذى أنقذ أرواح ملايين البشر مرورًا بإجراء العمليات الجراحية الخطيرة باستخدام معدات وأجهزة بالغة التطور وصولا إلى استخدام المناظير الطبية.
وبينما أحدثت القفزة طفرة صناعية هائلة بالغة التقدم والتطور امتدت إلى الزراعة وزيادة الإنتاجية من المحاصيل وبينما طالت نتائج هذه القفزة كل مجالات الحياة وعلى النحو الذى جعل حياة الناس أكثر رفاهية، فإنها فى المقابل أنتجت أبشع الأسلحة الفتاكة التى قتلت الملايين فى الحروب حسبما جرى فى الحربين العالميتين الأولى والثانية ثم فى كل الحروب التى شهدتها مناطق العالم.
وفى سياق هذه القفزة العلمية التكنولوچية غير المسبوقة فى التاريخ الإنسانى شهدت وشاهد جيلى رحلات الفضاء الخارجى والتى بلغت ذروتها بحادثة هبوط الإنسان فوق القمر فى القرن الماضى وإن كان ذلك الحدث تحوطه الشكوك باعتبار أنه خداع أمريكى كشفه رفرفة العلم على سطح القمر رغم أنه لا هواء فيه، وحيث كان إعلان أمريكا عن هذه الرحلة محاولة للحاق بالتفوق السوفيتى وقتها وحيث سبق للاتحاد السوفيتى إرسال أول سفينة فضاء دارت حول كوكب الأرض.
ثم إنى عاصرت وجيلى انهيار الاتحاد السوفيتى فى بداية تسعينيات القرن الماضى وهو الحدث العالمى الكبير الذى كان من شأنه الإخلال بالتوازن الدولى وانفراد الولايات المتحدة بالهيمنة على العالم بعد أن صارت القطب العالمى الأوحد.
<<<
وصولا إلى السنوات الأخيرة فقد شهدت وشهد جيلى قفزة مذهلة فى وسائل الاتصال والإعلام مع ظهور القنوات التليفزيونية الفضائية، وحيث سبق ذلك ظهور التليفزيون لأول مرة فى أربعينيات القرن الماضى بداية من بريطانيا، بينما عرفت مصر لأول مرة التليفزيون فى عام ١٩٦٠، ومع انتشار بث الفضائيات صار العالم كله قرية واحدة بالفعل، حيث بات كل ما يجرى في أرجاء العالم متاحًا مشاهدته لحظة حدوثه، ثم كان اختراع التليفون المحمول مع ظهور «الإنترنت» ذروة التقدم العلمى التكنولوچى الذى أتاح التواصل اللحظى بين سكان الأرض.
<<<
غير أن هذه القفزة الحضارية الهائلة والأكبر فى تاريخ البشرية كان لها تداعياتها الضارة على الحياة فوق الكوكب جراء استفحال الأنشطة الصناعية وما نتج عنها من عوادم كربونية ألحقت أكبر ضرر بالبيئة الطبيعة تبدت آثاره فى التغيرات المناخية التى توشك أن تدمّر الحياة فوق الأرض وحيث بدا مؤكدًا أن خطرها أكبر من منافع التقدم العلمى التكنولوچى وأنها الضريبة التى تدفعها البشرية مقابل الرفاهية وتسهيل حركة الحياة.
ثم إنه وسط هذه القفزة العلمية والتكنولوچية التى غيّرت حياة البشر فى العالم والتى بلغت ذروتها فى السنوات الأخيرة.. كنت وجيلى ومازلنا نرقب تداعيت ذلك التغير الحاد الذى تبدّى فى إعلاء المادة فوق القيم الأخلاقية التى توارت بشدة تحت وطأة استقواء المادة وعلى نحو بات خطرًا يُنذر بانهيار هذه الحضارة وهى فى ذروة قوتها!
التطور الأخطر هو أن هذه القفزة العلمية الحضارية التكنولوچية أطمعت صناعها للاندفاع وبكل الغرور العلمى المنفلت إلى اختراع ما يُعرف بالذكاء الاصطناعى والذى يُمثل فى حقيقة الأمر الغباء البشرى الذى اخترع وحشًا ضاريًا لن يمكن السيطرة عليه حتى من جانب صانعيه، بل إنه هو الذى سوف يسيطر على البشر ويتحكم فى أفكارهم وسلوكهم، ومن ثمَّ سوف يتحول الإنسان إلى عبد لمن صنعه بيديه!
<<<
أما عن الجانب الشخصى وبعد وصولى إلى محطة السبعين فى قطار العمر السريع.. فقد وجدتنى أتوقف مليًا.. أسترجع مسيرة حياتى عبر تلك السنوات الطويلة «القصيرة» منذ سنوات الطفولة الأولى مرورًا بسنوات الصبا والشباب بأحداثها وذكرياتها.. وصولًا إلى سنوات معترك الحياة والعمل بمتاعبها وهمومها وطموحاتها بحلوها ومرها بانتصاراتها وانكساراتها.
بسبب نشأتى فى بيئة علمية وثقافية ودينية.. أسريًا وعائليًا.. كانت قراءة الكتب على اختلافها وقراءة الصحف وجبة يومية جنبًا إلى جنب مع وجبات الطعام وإن لم أكن أدرك أهميتها فى سنوات الطفولة والصبا، إلا أنها كانت أساسًا فى بنائى الثقافى والقيّمى بعد ذلك حيث ازداد شغفى بالقراءة ومتابعة الشأن العام والأحداث السياسية المصرية والعربية والعالمية في سنوات الصبا والشباب، وحيث كان ذلك استعدادًا فطريًا وشخصيًا دعمّته البيئة الأسرية والعائلية واستشرافًا مبكرًا لمسيرتى المهنية بقية حياتى.
<<<
كانت دراسة الصحافة واحترافها هى اهتمامى الأول وأكبر أحلامى الذى شاءت الأقدار أن يتحقق بإنشاء معهد الإعلام بجامعة القاهرة مع حصولى على الثانوية العامة عام ١٩٧١، إذ لم يكن ممكنا بحكم التوزيع الجغرافى أن التحق بجامعة القاهرة للدراسة بقسم الصحافة بجامعة القاهرة.
رغم حصولى على مجموع كبير جدا بمقاييس تلك الفترة (٨١٪) وحيث كنت ضمن ٤١٦ طالبا من الحاصلين على أكثر من ٨٠٪ على مستوى الجمهورية، ورغم أن معهد الإعلام كان يقبل الحاصلين على مجموع ٦٥٪ ورغم أن كلمة معهد تعنى قيمة أقل من كلمة كلية فى الثقافة المصرية، إلا أن شغفى بدراسة الصحافة واحترافها تجاوز الاعتراضات الأسرية، وتقدمت بأوراقى للمعهد لخوض الاختبارات التحريرية والشفوية لقبول التحاقى، ثم رهنت القرار النهائى والحصول على موافقة الأسرة بترتيبى فى نتائج القبول، وحيث كان حصولى على الترتيب السابع من بين ٢٥٠ تقرر قبولهم هو الذى حسم الأمر.
وبتخرجى فى قسم الصحافة بكلية الإعلام ضمن الدفعة الأولى عام ١٩٧٥ بعد أن تغيَّر اسمها من معهد إلى كلية وحيث صارت بعد عامين دراسيين إحدى كليات القمة.. بتخرجى بدأت مسيرتى الصحفية فى جريدة الأخبار ثم مع إصدار مجلة أكتوبر انتقلت إليها لأكون ضمن الصحفيين الشباب المشاركين فى تأسيسها تحت رئاسة الأستاذ أنيس منصور.
<<<
وطوال خمسين سنة فى تخصص الشئون السياسية والعربية أمضيت أهم وأجمل حياتى المهنية ولعل أرشيفى الصحفى يشهد لى بما حققته من أعمال وكتابات ومقالات وحوارات مع زعماء ورؤساء دول ووزراء وسفراء عرب في حقبة زمنية حافلة بالمتغيرات والتحولات والأحداث المهمة فى التاريخ السياسى الحديث.. مصريا وعربيا.
وخلال تلك السنوات الطويلة وفى بعض فترات المد والجزر فى مجلة أكتوبر لم يتوقف عطائى الصحفى، حيث كنت أكتب مقالًا دائمًا فى جريدة الأسبوع ولخمس عشرة سنة متواصلة بدعوة من رئيس تحريرها الزميل مصطفى بكرى، ثم إننى هنا علي صفحات جريدة الأموال وبدعوة كريمة من رئيس تحريرها الزميل والصديق العزيز ماجد علي أكتب مقالا دائمًا منذ أكثر من سبع سنوات.
<<<
بعد هذه المسيرة الطويلة فى الحياة أجدنى وبكل الصدق راضيًا كل الرضا رغم غصة باقية في النفس بفعل ما لقيته من بعض جحود ونكران للجميل وخيانة للعهود.. أحاول نسيانها، إذ يكفينى أننى كنت متصالحًا مع نفسي طوال الوقت وأحسب أننى مازلت.
وتبقى الحقيقة التى يتوصل إليها المرء فى هذه السن وهى أن الحياة مهما طالت هى عبث باستثناء ما فعل وقدّم من خير وإخلاص وسعى للإصلاح ما استطاع إلى ذلك سبيلا، وذلك ما يبقى فى سجل الإنسان بعد رحيله ثم يجده منشورًا فى كتابه يوم القيامة والحساب.
<<<
تلك كانت بعض خواطرى وتأملاتى بعد الوصول لمحطة السبعين فى قطار العمر السريع، وإن كانت ليست كل الخواطر والتأملات والمراجعات أيضًا.