أسامة أيوب يكتب : المشهد فى فلسطين المحتلة بين هدنة غزة وتصعيد العدوان الصهيونى فى الضفة
سيناريوهات متعددة ومتباينة لما بعد الهدنة بين حماس وإسرائيل
عملية تبادل الأسرى شاهدة على أخلاقيات حماس ووحشية الصهاينة
بينما تتجه المفاوضات الجارية فى العاصمة القطرية الدوحة يوم الأربعاء الماضى وقت كتابة هذه السطور بين أطراف الوساطة الأمريكية والقطرية والمصرية مع إسرائيل نحو اتفاق لتمديد الهدنة بين حماس وتل أبيب التى استمرت ٦ أيام ليومين أو أربعة أيام أخرى، فإذا بالكيان الصهيونى برئاسة مجرم الحرب نتن ياهو يصعّد عدوانه على الشعب الفلسطينى فى الضفة الغربية والذى تزامن مع العدوان الوحشى على غزة وعلى نحو بالغ الإجرام والذى بلغ ذروته فى اقتحام وعزل مخيم ومدينة جنين وقتل واعتقال العشرات من المدنيين العزل والأطفال.
تصعيد العدوان الصهيونى على الضفة الغربية فى هذا التوقيت بدا وكأنه بديل لوقف العدوان على غزة لشغل أوقات فراغ قوات الاحتلال وقت الهدنة بقدر ما يعكس نيات نتن ياهو وحكومته الإرهابية العدوانية فى المضى قدمًا لتنفيذ مخططاتها لتصفية القضية الفلسطينية، بينما العالم والمجتمع الدولى المنشغلان بغزة غائبان عن متابعة العدوان على الضفة الغربية.
وإذا كانت هدنة الأيام الستة قد حققت للفلسطينيين فى غزة قدرا من التنفس وتجنب المزيد من القتل والدمار، فإن الواقع يؤكد أنها لم توفر لأهل القطاع القدر الضرورى من استئناف الحياة الآدمية والإنسانية وسط الدمار الشامل، إذ إن المساعدات الإغاثية- بما فيها الوقود- التى تسمح إسرائيل بدخولها غير كافية على الإطلاق لاحتياج نحو مليون ونصف المليون فلسطينى يتكدسون فى مراكز الإيواء التابعة للأمم المتحدة فى وسط وجنوب القطاع، بينما تمنع إسرائيل دخول المساعدات إلى مدينة غزة وكل شمال القطاع المحاصر والذى يعيش فيه نحو ٨٠٠ ألف فلسطينى رفضوا النزوح إلى الجنوب تنفيذًا لتهديدات قوات الاحتلال فى الوقت الذى تمنع فيه إسرائيل عودة أهل الشمال الذين نزحوا إلى الجنوب إلى منازلهم.
<<<
مع هذه الأوضاع المعيشية المأساوية لأهل غزة خاصة فى الشمال الذى لم تدخله المساعدات أو قطرة وقود واحدة، بينما يعيش الفلسطينيون المكدسون فى الجنوب مشردين في الشوارع بعد أن ضاقت بهم أماكن الإيواء، فإن أهل غزة باتوا على شفا مجاعة حقيقية وخطيرة بحسب برنامج الغذاء العالمى، فى الوقت الذى يواجهون فيه خطر كارثة صحية وبيئية جراء انتشار الأمراض والأوبئة فى غيبة المياه النظيفة والصرف الصحى وتعطل المستشفيات وعجزها عن علاج الجرحى والمصابين وأصحاب الأمراض المزمنة، ولكل ذلك فقد عادت غزة إلى الوراء لأكثر من خمسين سنة بحسب منظمة الصحة العالمية التى تُطالب بالسماح لكوادرها الطبية بالدخول إلى غزة لإنفاذ المنظومة الصحية فى القطاع.
واقع الأمر فإن الفلسطينيين في غزة الناجين من القتل بعد وقف العدوان الصهيونى يواجهون الموت جوعا وعطشا ومرضا، وحيث بدا واضحا أن الهدنة لم تحقق الفائدة المرجوة للفلسطينيين فى غزة، بينما حققت لإسرائيل فائدة حقيقية باستعادة أكثر من ٦٠ من النساء والأطفال الرهائن لدى حماس بقدر ما أتاحت لقواتها المتوغلة بريًا فى شمال غزة بعض الوقت لالتقاط الأنفاس ومراجعة خططها العسكرية خاصة بعد أن فقدت مئات من الجنود والضباط، وهو العدد الحقيقى للقتلى غير الذى أعلنته فى الاشتباكات مع المقاومة، إضافة إلى إصابة ألف جندى وضابط منهم مائتان حالتهم خطيرة.
<<<
ولذا فإنه يتعين على أطراف الوساطة وتحديدًا الطرف الأمريكى ضمان أن يتضمن تمديد الهدنة السماح بدخول كافة الكميات الكافية من المساعدات دون تحديد أو تعويق لتوفير الحياة الإنسانية الكريمة للفلسطينيين فى كل غزة شمالها وجنوبها من أغذية ومياه ووقود وغاز طهى وأدوية ومستلزمات ومعدات طبية وأغطية وملابس لمواجهة برد الشتاء، حتى لا يواجه أهل غزة الموت بديلا عن القتل أثناء العدوان بالقصف، وحتى لا تصير الهدنة وتمديدها نوعا من الخداع. وفى نفس الوقت فإنه يتعين على الرئيس بايدن ضمان التزام إسرائيل بالامتناع عن أى خروقات للهدنة حسبما فعلت فى أيام الهدنة الستة من إطلاق الرصاص الحى على المدنيين فى المزارع وعلى النازحين فى الجنوب الذين حاولوا العودة لمنازلهم فى الشمال.
<<<
ولأن أيام الهدنة قد كشفت أمام العالم حجم الدمار الشامل الذى ألحقته قوات الاحتلال بقطاع غزة حسبما وثقت الصور المنشورة، فإنه بات ضروريا تشكيل لجنة تحقيق دولية لتفقد آثار ذلك العدوان الوحشى لمحاسبة إسرائيل عما ارتكبته من تدمير وتخريب وإبادة وقتل أكثر من ١٥ ألفاً من المدنيين وأغلبهم أطفال وأطفال رضع ونساء وإصابة نحو ٤٠ ألف آخرين، وأحسب أن الأمر منوط بجامعة الدول العربية لمطالبة المنظمة الأممية بتشغيل هذه اللجنة.
<<<
يبقى أنه رغم التكلفة الباهظة التى تحملها الفلسطينيون فى غزة من تدمير شامل للقطاع وقتل الآلاف بصمود منقطع النظير.. ثمنًا للحرية ومقاومة الاحتلال الغاصب، فإن قراءة المشهد تؤكد أن حركة حماس وكتائب القسام وفصائل المقاومة الأخرى هى المنتصرة فعلا حتى الآن لعدة اعتبارات، أولها أنها أحرزت نصرا عسكريا مذهلا فى عملية "طوفان الأقصى" أهان وأذل جيش الاحتلال داخل معسكراته وداخل مستوطنات المتطرفين، ثم إنها أجبرت الكيان الصهيونى على الرضوخ للهدنة، سبيلا لإطلاق سراح الأسرى الذين عجزت قوات الاحتلال عن إطلاق سراحهم بالقوة العسكرية، والأهم هو أن حركة حماس حققت ما لم تستطع المقاومة الفلسطينية تحقيقه طوال عقود من الصراع، حيث أعادت إحياء القضية الفلسطينية وتأكيد عدالتها ومظلومية الشعب الفلسطينى أمام الرأى العام العالمى وكل شعوب الأرض بقدر ما أظهرت وكشف توحشية الكيان الصهيونى بعدوانه البربرى على المدنيين فى غزة وعلى القطاع كله.
وفى نفس الوقت فقد بدت إسرائيل مهزومة أمام المقاومة ولم تستطع بعدوانها على المدنيين العزل محو تلك الهزيمة، ثم إنها عجزت وفشلت فى تحقيق أى إنجاز عسكرى حقيقى حسبما توعد نتن ياهو بالقضاء على حماس وتحرير الرهائن والأسرى بالقوة وحيث رضخ فى النهاية إلى القبول بالهدنة وبصفقة تبادل الأسرى.
<<<
ولأن وحشية العدوان الصهيونى على غزة تكشفت للرأى العام العالمى حسبما تبدى فى مظاهرات التنديد بالعدوان فى عواصم ومدن العالم قد سببت جرحا بالغا للرئيس الأمريكى بايدن شخصيا بعد دعمه العسكرى اللامحدود للعدوان وغطائه السياسى لإسرائيل فى مجلس الأمن فى الوقت الذى يواجه فيه ضغوطا دولية حتى من جانب حكومات أوروبا مثلما تشهد إدارته خلافات داخلية بسبب استمرار دعم إسرائيل، فإن كل ذلك يُفسر انخراطه شخصيا على حد تعبيره فى التهدئة وإدخال المزيد من المساعدات لغزة والأهم لإطلاق سراح كل الأسرى الإسرائيليين لدى حماس.
اللافت فى حديث بايدن عن انخراطه فى التهدئة وتوسيع صفقة تبادل الأسرى هو تركيزه على إطلاق سراح كل الأسرى الإسرائيليين متغافلا عن الأسرى الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية، فى نفس الوقت الذى لم يشر فيه بكلمة إدانة أو استنكار للعدوان الوحشى على الفلسطينيين المدنيين.
<<<
المقلق والمثير للشكوك فى التحرك الأمريكى وفى حديث بايدن هو أنه لا ضمان لوقف العدوان أو وقف إطلاق النار وفقا للتعبير المتداول بعد حصول إسرائيل على كل أسراها، وهو الأمر الذى يشى بأن بايدن ليس لديه نية لإجبار إسرائيل عن استئناف عدوانها بعد الهدنة وإطلاق سراح أسراها وبما يعنى إفراغ الهدنة من مضمونها وأن إسرائيل ماضية قدمًا فى مخططاتها وعلى النحو الذى يفرّغ أيضا الحديث عن حل الدولتين من مضمونه بالضرورة. ومما يزيد القلق والشكوك هو تأكيد نتن ياهو بكل صراح وغطرسة على استئناف العمليات العسكرية فى غزة بعد إطلاق سراح الرهائن وإنهاء الهدنة للقضاء على حماس واغتيال قادتها الذين يزعم اختباءهم فى أنفاق خان يونس وهو المبرر الذى سيلجأ إليه لعدوان مرتقب علي جنوب القطاع الذى يتكدس فيه أكثر من مليون ونصف المليون من أهالى الجنوب والنازحين من الشمال.
<<<
تبقى ثمة ملاحظة بالغة الأهمية حول عملية تبادل الأسرى التي جرت خلال أيام الهدنة الستة، حسبما وثقتها المشاهد بالصوت والصورة على شاشات الفضائيات حول العالم، وحيث أوضحت مشاهد تسليم الرهائن والأسرى الفارق الكبير من النبل والأخلاقيات العرية الإسلامية الفلسطينية فى معاملة الأسرى وبين غلظة ووحشي وخسة قوات الكيان الصهيونى، إذ بينما تم تسليم الأسرى الإسرائيليين بكل لطف وحميمية حسبما أوضحت ذلك ابتسامات الأسيرات والأطفال في وداع مقاتلي ومقاتلات حماس وحيث كانت إشارة فتاة إسرائيلية لمودعيها من حماس بكلمة "باى باى" دليلا على المعاملة الكريمة، فى نفس الوقت فقد أكد تسليم بعض الأسرى داخل مدينة غزة أن المقاومة لاتزال حاضر فى شمال القطاع.
بينما كانت مشاهد تسليم الأسيرات والأسرى الأطفال الفلسطينيين تؤكد الوحشية والغلظة والعنف فى التعامل معهم سواء عند التسليم أو قبل خروجهم من سجن عوفر، حيث أكدوا في شهاداتهم للفضائيات أنهم تعرضوا للضرب والتنكيل والتعذيب الجسدى والنفسى قبل الإفراج عنهم بينما أكدوا تعرض الأسرى فى السجون الاسرائيلية للتعذيب والتنكيل والذى تزايد منذ عملية طوفان الأقصى كنوع من الانتقام.
<<<
السؤال الذى يبدو مبكرًا هو ماذا بعد انتهاء الهدنة الممددة والتى من المؤكد أنه سيكون لها نهاية، والحقيقة هى أن ثمة سيناريوهات متعددة سواء لدى نتن ياهو وحكومته أو التى يجرى التداول حولها بين أطراف الوساطة أو التى تتجه أمريكا لتنفيذها على أرض الواقع، وحيث من غير الممكن التكهن بأنها تتحقق. سيناريوهات نتن ياهو وقادته العسكريين وبحسب تصريحاته المتغطرسة يتجه لاستئناف العدوان لاستكمال تدمير غزة وقتل الآلاف تحت وهم القضاء على حماس وهو السيناريو الذى من شأنه مزيد من العنف وكذلك توسيع الصراع فى الإقليم وإشعال المنطقة بالكامل. الأخطر فى سيناريو نتن ياهو هو تأكيده أنه لن يعتزل السياسة ولن يترك رئاسة الحكومة، لأنه الوحيد فى إسرائيل الذى يستطيع منع إقامة الدولة الفلسطينية!.
<<<
السيناريوهات الأخرى المتداولة فى كواليس السياسة والدبلوماسية لأطراف الوساطة وفى الأوسط الإقليمية والدولية الفاعلة تتراوح بين تمديد الهدنة لوقت طويل ريثما يتم التفاوض على حل لإنهاء الأزمة، وإطلاق أكبر عدد من الرهائن والأسرى لدى الجانبين، بينما يدور التفاوض حول وقف دائم لإطلاق النار وإطلاق جميع الرهائن المدنيين الرجال وكذلك الجنود والضباط.
لكن إطلاق سراح جميع الرهائن الأسرى العسكريين الإسرائيليين لن يصطدم باشتراط حماس لما يوصف بالكل مقابل الكل أى إطلاق سراح جميع الأسرى فى السجون الإسرائيلية والبالغ عددهم أكثر من ٥ آلاف أسير بينهم قيادات كبرى ومنهم محكوم عليهم بعشرات السنوات إضافة إلى أكثر من ٣ آلاف أسير آخرين تم اعتقالهم منذ السابع من أكتوبر الماضى عقب عملية "طوفان الأقصى" ولأن المقاومة تتمسك بهذا الشرط العادل ثمنا لإطلاق سراح الجنود والضباط الإسرائيليين الأسرى لدى حماس فإن التنفيذ قد يستغرق وقتا طويلا وإن كانت إسرائيل سوف ترضخ فى النهاية.
<<<
السيناريو الآخر يتعلق بمستقبل غزة وحكمها وإدارتها بعد انتهاء العدوان والهدنة وهل سيتم إدارتها من جانب السلطة الفلسطينية فى رام الله كما كان فى السابق أم تخضع لإدارة دولية من الدول الكبرى أو دول إقليمية أم تخضع لإدارة الأمم المتحدة، ومن ثم ما هو مستقبل حماس فى إدارة القطاع مع الرفض الإسرائيلى المدعوم أمريكيا لبقائها في القطاع. ويبقي أخيرا سيناريو الوضع النهائى للقضية الفلسطينية فى إطار مسار سياسى للتفاوض حول حل الدولتين إن كانت أمريكا جادة فى هذا التوجه وهل ستكون حماس وفصائل المقاومة الأخرى ضمن هذا السيناريو؟ من الواضح أن الطريق طويل والتصعيدات كثيرة وليس أمامنا سوى انتظار قادم الأيام.