د.محمد فراج يكتب : ترامب.. من التبجح إلى التراجع!

بعد أسبوع واحد من إعلان الرئيس الأمريكى دونالد ترامب بفرض رسوم جمركية قدرها عشرة بالمائة على واردات بلاده من جميع دول العالم، ونسبا مختلفة على بعض الدول، وصلت إلى «مائة وخمسة وعشرين بالمائة بالنسبة للصين!» وإلى عشرين بالمائة بالنسبة للدول الأوروبية.. عاد ترامب ليفاجئ العالم بالإعلان عن تجميد تنفيذ هذا القرار لمدة ثلاثة أشهر! مع استثناء الصين من التجميد.
وكانت الغالبية الساحقة من الخبراء الاقتصاديين - بمن فيهم الأمريكيون ــ قد اعتبرت قرار ترامب إعلانا لحرب تجارية تشنها أمريكا على العالم بأسره بما فى ذلك على حلفاء الولايات المتحدة ومنافسيها وخصومها علي السواء، وهى حرب من شأنها أن تثير الفوضى فى الأسواق العالمية وتستدعي ردودا انتقامية من الدول المضارة بفعل هذه الحرب التجارية الشاملة، وأن ذلك سيعود بأضرار فادحة على الاقتصاد العالمى بأسره، بما فى ذلك على الاقتصاد الأمريكى سواء من خلال رفع مستوى التضخم وتباطؤ النمو بدرجة تُهدد بركود كبير قد يصل إلى درجة الكساد العالمى (راجع بالتفصيل مقالنا في الأموال ٦/ ٤/ ٢٠٢٥ والتغطية الإخبارية بالجريدة).
وكان رد الفعل فوريا وعنيفا على البورصات الأمريكية والعالمية التى خسرت تريليونات الدولارات خلال أيام قليلة، خاصة وأن أغلب شركاء أمريكا التجاريين قد بدأوا فى اتخاذ قرارات انتقامية ضد الواردات الأمريكية أو أعلنوا عن نيتهم فى اتخاذ مثل هذه القرارات كما بدأوا فى إجراء اتصالات بالإدارة الأمريكية لمطالبتها بمراجعة قرارات ترامب.
اللافت للنظر أن الرئيس الأمريكى أعلن بصلف شديد تمسكه بقراراته، وتحدث بطريقة غير لائقة إطلاقا أمام وسائل الإعلام عن هذه الاتصالات قائلا: «إنهم يقبلون مؤخرتى» لكى أراجع هذه القرارات!! ونحن نعتذر بشدة للقارئ الكريم عن اضطرارنا لتكرار هذه الكلمات غير اللائقة التى تفوه بها الرئيس الأمريكى أمام وسائل الإعلام لكننا نذكرها هنا مضطرين لأنها تعبر عن صلف ترامب وعدم احترامه للرأى العام من ناحية ولأن تطور الأحداث بعد يومين فقط من هذه التصرفات غير اللائقة قد سار فى الاتجاه المعاكس لها من ناحية أخرى.
سرعان ما عاد رئيس الولايات المتحدة للإعلان عن تجميد هذه القرارات لمدة ثلاثة أشهر مع استثناء الصين التى كان قد أعلن فى البداية عن فرض رسوم على وارداتها تبلغ ٣٤٪ ثم عاد ليرفعها إلى ٨٥٪ ثم إلى ١٢٥٪ بعد أن أعلنت بكين عن فرض رسوم جمركية على الواردات الأمريكية تبلغ ٨٤٪ كإجراء انتقامى، علما بأن ترامب كان قد أعلن الشهر الماضى عن فرض رسوم جمركية على الواردات من كندا والمكسيك ثم عاد فأعلن عن تجميد هذا القرار لمدة شهر، حينما أعلنت الدولتان وهما من أهم شركاء أمريكا التجاريين أنهما ستفرضان رسوما بنفس النسبة على الواردات من الولايات المتحدة!
وهكذا يتضح أنه لم يكن هناك ما يدعو لاتخاذ قرارات من شأنها تدمير نظام التجارة العالمية وإلحاق أضرار فادحة بالاقتصاد الدولي بهذا التسرع الطائش وغير المسئول، وإلى الدفاع عن هذه القرارات بمثل هذا الصلف والتبجح، وباللغة السوقية الهابطة التى تحدث بها ترامب، والتى لا تليق بأى مسئول فى أى دولة، ومعروف أن الأمريكيين كثيرا ما يستخدمون كلمات غير لائقة فى أحاديثهم اليومية لكن من غير اللائق إطلاقا أن يتحدث رئيس أكبر دولة فى العالم بهذه الطريقة المبتذلة عن اتصالات رؤساء الدول معه، وأمام وسائل الإعلام.. أى على مرأى ومسمع من العالم كله، كما أنه من غير المعقول أن يعود بعد يوم أو يومين من حديثه المتبجح لتجميد قراراته الطائشة وبالغة الضرر التى كان يدافع عنها بكل صلف... مثل هذه الطريقة في السلوك تثير شكا عميقا في كون هذه القرارات مدروسة جيدا فحسب.
وفى الاتزان النفسي لرئيس أكبر دولة فى العالم! وهكذا خرج عالمنا من ولاية بايدن المصاب بخرف الشيخوخة والذى يصافح الأشباح وينسى أسماء الدول ورؤسائها، والمتطرف أيديولوجيا لنقع فى حفرة أسوأ أو لا تقل سوءا على أقل تقدير.
الكارثة الحقيقية أن رئيس الولايات المتحدة لديه سلطات ضخمة فى دولة تملك أكبر قوة عسكرية واقتصادية وسياسية فى العالم، وأن أى قرار يتخذه يمكن أن يتسبب فى أضرار بالغة الفداحة لدول وشعوب بأسرها، أو النظام العالمى والسلام الدولى، إذا لم تواجهه قوة قادرة علي كبح جماحه وحمله على التعقل.
الرئيس والمؤسسات
ومفهوم أن الولايات المتحدة بلد لديه مؤسسات حكم ودولة عميقة راسخة الجذور، وأن رئيسها ليس مطلق اليد فى اتخاذ ما يشاء من القرارات مهما تكن عواقبها، وأن هذه المؤسسات يمكن أن تحد الرئيس على التراجع عن بعض قراراته، وقد حدث هذا مع ترامب نفسه فى ولايته الأولى حينما أصدر قرارا (مرتين) بسحب القوات الأمريكية من سورية، لكن اعتراض البنتاجون والمخابرات أجبراه على وقف تنفيذ هذا القرار، وحينما أراد التوصل إلى اتفاق مع زعيم كوريا الشمالية بشأن نزع سلاحها النووى، لكن وزير خارجيته ومستشاره للأمن القومى أفشلا المحادثات وكانا مدعومين فى موقفهما من جانب البنتاجون والمخابرات والكونجرس، كما أفشلت المؤسسات المذكورة ومنها الإعلام ومراكز الأبحاث الاستراتيجية محاولته للتقارب مع روسيا أثناء ولايته الأولى، ووصل الأمر إلى حد انتقامه بالتواطؤ مع بوتين والوقوع تحت تأثيره، إلخ، واتهام بعض معاونيه بالعمالة لروسيا!
لكن كل هذا لا ينفي حقيقة أن الدستور الأمريكى يعطى للرئيس سلطات هائلة يمكن أن يستخدمها بطريقة مدمرة، وعلى سبيل المثال فإن ترامب فى بداية ولايته الأولى اتخذ قرارا فوريا بالانسحاب من اتفاقية المناخ العالمية التى استغرق التفاوض حولها أعواما وجهودا مضنية، كما ألغى الاتفاقية النووية مع إيران التى اقتضى التوصل إليها أعواما من المفاوضات المضنية بوساطة من الدول الكبرى (اتفاقية ٥+١) كما ألغى اتفاقية «النافتا» المنظمة للتجارة الحرة مع كندا والمكسيك وأجبر الدولتين علي التفاوض حول اتفاق جديد، وألغى اتفاقية التجارة الحرة عبر المحيط الهادي وأشعل جدالا حادا مع الاتحاد الأوروبى حول النفقات الدفاعية وتمويل حلف الناتو، إلخ..
وفى بداية الولاية الحالية عاد فألغى عضوية أمريكا فى اتفاقية المناخ (التى كان بايدن قد أعاد الالتزام بها) وانسحب من تمويل وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) كما أوقف عمل وكالة التنمية الدولية الأمريكية وتسريح الآلاف من موظفيها، وهى إحدى أهم أذرع القوة الأمريكية الناعمة (بموازنة قدرها اثنان وسبعون مليار دولار) وفرض عقوبات على المحكمة الجنائية الدولية انتقاما منها لقرارها بإلغاء القبض على نتنياهو وجالانت، وفى سابقة تاريخية منع فور تسلمه السلطة أكثر من ثمانين قرارا تنفيذيا هاما بعضها وقع عليه وهو لايزال على منصة القسم والباقي بمجرد دخوله المكتب البيضاوى.
كما طرح ترامب على الرئيس الروسى بوتين مبادرة حول التسوية فى أوكرانيا، وهو تحول كبير فى السياسة الخارجية الأمريكية أحدث انشقاقا كبيرا مع الحلفاء الأوروبيين فى الناتو وأخيرا أصدر قراراته الأخيرة بشأن الرسوم الجمركية ثم عاد فقرر تجميدها لثلاثة أشهر كما ذكرنا.
وغنى عن البيان أن ترامب لم يكن ليتخذ كل هذه القرارات لولا أن أغلبها يلاقى ترحيبا واسعا فى حزبه الذى فاز بالأغلبية فى مجلسي الكونجرس ولدى الناخبين الجمهوريين الذين منحوه الأغلبية فى الانتخابات الرئاسية، لكن الأمر المؤكد أن هناك معارضة واسعة أيضا للعديد من قراراته داخل الحزب الجمهورى نفسه كما أن بعضها أثار غضبا واسعا في المجتمع الأمريكى، ومنها مثلا "حربه التجارية" التى يعارضها معظم الخبراء الاقتصاديين وكذلك قرارات وزير كفاءة الأداء الحكومى (إيلون ماسك) بتسريح عشرات الآلاف من موظفى المخابرات وأجهزة الأمن ووزارة العدل، والتى تفوح برائحة الصراع بين ترامب وأجهزة الدولة العميقة، ورغبة الرئيس فى الانتقام من أعدائه، وهناك آلاف القضايا فى أروقة المحاكم يمكن أن تجبر الأحكام فيها ترامب على التراجع عن قراراته.
غطرسة القوة والمواجهة الضرورية
والحقيقة أننا ذكرنا كل هذه الوقائع المعروفة وردود الفعل عليها لتصل إلى استنتاج مفاده أن طريقة ترامب التي تتسم بالغطرسة والبلطجة والطابع الاستعراضى والغوغائية وعدم المبالاة بالقوانين الدولية أو المحلية وقواعد السلوك المرعبة أن هذه الطريقة يمكن مواجهتها وإيقافها وإجباره على التراجع عنها بشرط عدم الوقوع فى أسر أساليب الغوغائية ومحاولاته للتهويش واستخدام الصمت العالمى وتقدم المواقف الدولية حول التهديد بإجراءات انتقامية ضد قراراته بفرض الرسوم الجمركية نموذجا مناسبا فى هذا الصدد، فبعد التبجح بعبارات نابية اضطر ترامب للتراجع وتجميد القرارات لمدة ثلاثة أشهر، علما بأنه اضطر قبل ذلك لتجميد قراره بشأن كندا والمكسيك لمدة شهر.
وحينما طرح مبادرته بشأن أوكرانيا وبالرغم من استجابته لعدد من الشروط الروسية حاول الضغط على موسكو لتقبل بوقف إطلاق النار لمدة شهر فاصطدم بموقف صلب من جانب بوتين الذى رفض وقف هجوم قواته واشترط وجود نظام موثوق لمراقبة عدم تزويد أوكرانيا بالسلاح أو استفادتها من الهدنة لمعاودة الهجوم ورفض حتى التفاوض حول وقف عملية تصفية الاختراق الأوكرانى المحدود فى مقاطعة كورسك ولم يبد الكرملين أى تعجل لعقد اجتماع قمة بين الرئيسين قبل توافر شروط نجاحها وهو ما عبر ترامب عن امتعاضه منه لكنه اضطر للقبول به فألعاب "التهويش الترامبية لا يمكن أن تنفع مع روسيا".
غزة وبلطجة ترامب
القضية التى تهمنا فى مصر والعالم العربى أكثر من أى قضية أخرى هى القضية الفلسطينية عموما، وبصفة أخص موقف ترامب المشين تجاه غزة واقتراحه بإخلائها من السكان والاستيلاء عليها لإقامة ما يسميه "الريفيرا" فيها وهو اقتراح يمثل انتهاكا إجراميا لأبسط حقوق الشعب الفلسطينى وبديهيات القانون الدولى، وقد مارس ترامب - ولايزال - ضغوطا شديدة على كل من مصر والأردن للقبول بتهجير ملايين الفلسطينيين إليهما، فيما يمثل تصفية للقضية الفلسطينية وإزاء الرفض المصرى القاطع والتأييد العربى لخطة إعادة إعمار غزة التى تقدمت بها مصر، تراجع ترامب قليلا لكنه عاد مرة أخرى للحديث عن ضرورة إخلاء غزة وإقامة الريفيرا المزعومة، فتقديرنا أن تماسك الموقف العربى والسعى لحشد التأييد الدولى الرافض لحرب الإبادة الفاشية الصهيونية، ولإخلاء القطاع من سكانه من شأنه - فى تضافره مع المقاومة البطولية الفلسطينية أن يحبط خطة ترامب الإجرامية شريطة أن ترى أمريكا بوضوح رفض الشعوب والدول العربية لهذه الخطة، وأن تفهم واشنطن أن الإصرار على المضى فيها سيكلفها ثمنا فادحا هى وحليفها الصهيونى الفاشى.