أسامة أيوب يكتب : فى اليوبيل الذهبى لنصر أكتوبر المجيد.. خواطر وملاحظات
لأن الاحتفال بانتصار السادس من أكتوبر هذا العام يتواكب مع مرور خمسين عامًا على ذلك الحدث العظيم، فإنه يكتسب خصوصية تاريخية أضفت زخمًا وطنيًا هائلا على هذه الذكرى الخالدة وعلى النحو الذى تبدّى فى الاحتفالات المبكرة والتى من المؤكد أنها سوف تستمر طوال شهر أكتوبر الجارى.
إن الاحتفال بنصر أكتوبر العظيم بعد، ورغم مرور كل تلك السنوات.. خمسين عامًا.. يعكس بقدر ما يؤكد أنه باقٍ وسيبقى خالدًا فى وجدان المصريين وفى الذاكرة الوطنية.. تتجدد معه مشاعر الفخر الوطنى إلى آخر الزمان لدى كل الأجيال القادمة باعتباره أمجد الانتصارات المصرية وأول انتصار عربى أحرزه جيش مصر العظيم منذ مئات السنين.
رغم أن الانتصار الذى حققه الجيش المصرى فى حرب أكتوبر ١٩٧٣ كان معجزة بكل المقاييس العسكرية حسبما شهدت وأكدت الأكاديميات العسكرية الكبرى فى العالم، فإنه فى نفس الوقت لم يكن عملا حربيا سهلا ولكنه كان بالغ الصعوبة بحكم الفارق الهائل في التسليح بين إسرائيل المدعومة بأحدث المعدات والطائرات والأسلحة الأمريكية وبين مصر بإمكانيات تقل كثيرًا.. كمًا ونوعًا، ومن ثمَّ فلم يكن الانتصار المصرى فى تلك الحرب متوقعًا من جانب الدول الكبرى وإسرائيل ذاتها أيضًا، ولكن مصر شعبًا وجيشًا وقيادة سياسية فعلتها وانتصرت وحيث كان النصر صادمًا للعدو الإسرائيلى.
<<<
إن الانتصار الذى تحقق فى السادس من أكتوبر ١٩٧٣ أكد أن المصريين قادرون على تحقيق المعجزات فى أصعب الظروف إذا توافرت لديهم المقومات المناسبة واللازمة مع كفاءة واحترافية الإدارة والقيادة، وهى العوامل التى تحققت بالفعل خلال السنوات الست التى سبقت الحرب والإعداد لها والتى كانت غائبة ومفتقدة فى ١٩٦٧.
<<<
ولذا فقد رفع انتصار أكتوبر الحرج عن جيش مصر العظيم وأزال عنه الظلم الحقيقى إذ إنه لم يحارب بل لم يتح له خوض الحرب فى يونيو ١٩٦٧ بفعل إهمال قائد الجيش وقتها والذى كان يفتقد الحرفية العسكرية ودخل الحرب في غيبة خطة محددة ودقيقة وواضحة، وحيث خدع القيادة السياسية بادعاء الجاهزية والحقيقة الدامغة التى تأكدت منذ الساعة الأولى لبدء المعارك أنه لم يكن مستعدًا للحرب مثلما لم يكن مستعدًا بخطة انسحاب تضمن الحفاظ على المقاتلين وأرواحهم والمعدات أيضًا بعد الهزيمة الصادمة.
غير أن الجيش وقياداته المحترفة التي تولت الأمر سرعان ما استوعبت الدرس، وحيث أمكن إعادة بناء القوات المسلحة كلها وفقًا للمعايير القتالية والعسكرية المعلومة بوجه عام والتى يتسم بها الجيش المصرى عبر عصور التاريخ، وحيث تم إعداد خطة العبور لتحرير سيناء ورفع معدلات التدريب لأعلى المستويات مع رفع الروح المعنوية للجنود والضباط الذين ظلمتهم هزيمة ١٩٦٧.
وبهذا الاستعداد الكبير خاض الجيش المصرى بقياداته الجديدة المحترفة حرب السادس من أكتوبر بنجاح مذهل.. أذهل وصدم إسرائيل بقدر ما أذهل العالم حسبما أكدت المعاهد والأكاديميات العسكرية العالمية والتى ظلت تدرس وتدرَّس تلك الحرب وكيف استطاع الجيش المصرى شل قدرات العدو الإسرائيلى فى ست ساعات حسبما كان الرئيس السادات حريصًا على تأكيد ذلك.
<<<
إن أهم نتائج حرب أكتوبر بالنصر الذى تحقق هو أن الجيش المصرى استطاع تحطيم أسطورة جيش إسرائيل الذى لا يقهر والتى ظل الكيان الصهيونى يروّج لها بهدف إشاعة اليأس والإحباط لدى المصريين، إذ نجح الجنود البواسل من أبناء شعب مصر العريق.. حضاريًا وتاريخيًا وعسكريًا في عبور أكبر مانع مائى وهو قناة السويس بقدرما كان الأهم هو تحطيم خط بارليف ذلك الساتر الترابى المسلح الذى كان الجيش الإسرائيلى يحتمى به وخلفه والذى كانت كل الدوائر العسكرية العالمية تؤكد استحالة تحطيمه وإزالته إلا بقنبلة ذرية، لكن عبقرية ضابط مهندس شاب فى تلك الأيام كانت أقوى من القنبلة الذرية وهو صاحب فكرة استخدام خراطيم المياه مستلهمًا هذه الفكرة من تجربة إزالة الصخور والرمال بالمياه أثناء بناء السد العالى.
بهذه العبقرية السهلة والعميقة فى نفس الوقت تجلت العبقرية المصرية الضاربة بجذورها فى عمق التاريخ لشعب مصر صاحب أقدم الحضارات الإنسانية وصاحب أول حكومة مركزية عرفتها البشرية فوق كوكب الأرض قبل ٧ آلاف سنة أى قبل التاريخ المكتوب.
وبهذه العراقة الوطنية التاريخية كان شعب مصر خلال السنوات الست بين عامى ١٩٦٧ و١٩٧٣ يقف خلف جيشه بالمساندة والدعم وبتحمل الصعاب.. تطلعًا وانتظارًا ليوم محسوم قادم يتحقق فيه النصر وتزال فيه آثار الهزيمة، ومن ثمَّ فإنه بقدر العمل الشاق الذى ظل الجيش يؤديه بروح عالية واستعداد كامل ليوم الحرب، كان للشعب المصرى دوره المهم فى الجبهة الداخلية التى بدت متماسكة صلبة، ولذا فإنه يمكن القول إن مصر كلها.. شعبًا وجيشًا وقيادة سياسية وعسكرية حاربت وانتصرت.
<<<
فى الاحتفال بنصر أكتوبر العظيم فإن التحية تبقى واجبة ومتجددة دائمًا لقيادات تلك الحرب بداية من الرئيس أنور السادات الذى اتخذ قرار الحرب بشجاعة متحملا وحده المسئولية السياسية بعد أن اطمأن إلى جاهزية الجيش وكفاءة قياداته والقدرة على تنفيذ خطة المعركة.
أما سياسيًا ودبلوماسيًا وإعلاميًا فقد نجح السادات نجاحًا مذهلا فى إدارة المعركة من قبل أن تبدأ وأثناء إدارتها وبعد وقف إطلاق النار وذلك وفق خطة خداع استراتيجية محكمة، وحيث كان قرار خوض الحرب ضروريًا.. تكتيكيًا واستراتيجيًا فى نفس الوقت، إذ اعتمدت رؤية السادات على ضرورة إحراز نصر مفاجئ وصادم لإسرائيل لعبور قناة السويس وتحرير ما يمكن تحريره من سيناء وذلك بهدف تحريك القضية وإنهاء حالة اللاسلم واللاحرب التى أرادت إسرائيل فرضها إلى أجل غير مسمى وهو الهدف الذى نجح فى تحقيقه ليبدأ خوض معركة سياسية لتحقيق الانسحاب الكامل من سيناء حسبما نجح فى ذلك بمبادرة السلام وبمعاهدة السلام عام ١٩٧٩ والتى بمقتضاها استعادت مصر أرضها المحتلة بالكامل، ومن ثمَّ فإن النصر العسكرى فى أكتوبر هو ما اعتمد عليه السادات فى دخول مفاوضات التسوية السياسية السلمية من منطلق القوة ومستندًا إلى النصر العسكرى، ومستندًا إلى المجتمع الدولي والرأى العام العالمى الذى يحترم الأقوياء والمنتصرين.
وإذا كان نصر أكتوبر لم يحقق تحرير كامل سيناء، فإنه كان أقصى ما يمكن أن تحققه مصر فى ظل أوضاع دولية وانحياز أمريكى غربى سافر لإسرائيل وفي ظل جمود الموقف العسكرى، ومن ثمَّ فقد كانت معركة السلام السياسية وما أسفرت عنه من معاهدات هى كل المتاح أمام مصر لاستعادة أرضها والخروج من دوامة الحروب التى ظلت تخوضها لعقود، ولعل ذلك هو الرد الموضوعى على الذين انتقدوا السادات وعارضوا معاهدة السلام، بينما أكد الرجل أنه كان بعيد الرؤية ومستشرفًا مستقبل الأوضاع الدولية، ولذا فإنى أحسبه مستحقًا لأن يوصف بأنه بطل الحرب والسلام.
<<<
وتبقى التحية الواجبة الدائمة المتكررة لقيادات حرب أكتوبر بداية من المشير أحمد إسماعيل والفريق سعد الدين الشاذلى والمشير الجمسى والفريق الماحى والفريق محمد على فهمي واللواء عبدالمنعم واصل واللواء سعد مأمون واللواء فؤاد عزيز غالى وقائمة طويلة من القيادات ولكل الضباط الذين نفذوا بدقة وشجاعة خطة الحرب.
ومع هذه التحية لكبار القيادات العسكرية فإن التحية الأهم للجندى المصرى الشجاع الذى حارب وانتصر وأصيب واستشهد وروت دماؤه تراب سيناء.
<<<
وأحسب أن دواعى الموضوعية والإنصاف التاريخى تقتضى تحية واجبة وضرورية أيضًا للواء حسنى مبارك والفريق بعد الحرب والرئيس الأسبق بوصفه كان قائد القوات الجوية فى حرب أكتوبر والذى كان وبحق قائد الضربة الجوية التى كان لها الدور الأكبر والحاسم في الساعات الأولى للحرب والذى نجح فى قطع «ذراع إسرائيل الطولى» بتفوقها الجوى، ولقد كانت أهمية تلك الضربة الجوية أنها نجحت فى إزالة عقدة سلاح الطيران المصرى عام ١٩٦٧ الذى تحطمت طائراته وهى رابضة على الأرض قبل أن تتمكن من التحليق للقيام بمهمتها العسكرية.
لذا فإن الإنصاف يقتضى عدم تجاهل مبارك كقائد منتصر ومن أهم قيادات حرب أكتوبر المجيدة.
<<<
تلك كانت خواطرى فى اليوبيل الذهبى لنصر السادس من أكتوبر ١٩٧٣.. أمجد انتصارات الوطن وانتصارات العسكرية المصرية التى لم تشهد الأمة العربية مثلها منذ مئات السنين.