د.محمد فراج يكتب: تمزيق سوريا.. لمصلحة من؟ (1)

التطورات الخطيرة الجارية فى سوريا خلال الشهور الأخيرة أثبتت بوضوح لا مزيد عليه أن المهللين للإطاحة بنظام الأسد (8 ديسمبر 2024) هم إما مغرضون لا تهمهم مصالح الشعب السورى، بل يناصبونها أشد العداء، أو أنهم - بافتراض حسن النية - يقعون فى خطأ جسيم.
ولسنا بصدد الدفاع عن أخطاء أو خطايا نظام الأسد أو الحديث بالتفصيل عن الظروف الدولية والإقليمية والداخلية التى أتاحت لهيئة تحرير الشام (جبهة النصرة/ فرع تنظيم القاعدة الإرهابى فى سوريا) الإطاحة بذلك النظام بسهولة شديدة، وتحت إشراف تركى محكم وبدعم من بعض الدول العربية، فقد تناولنا هذا الموضوع بصورة مفصلة في حينه فى ثلاث مقالات مطولة (الأموال 8 و15 و22 ديسمبر – تحت عنوان "الغزو الإرهابى الجديد لسوريا خطر فادح على الأمن القومى العربى) لكن ما يعنينا هنا التأكيد على أن من العبث والمغالطة الصارخة الحديث عن ثورة فى سوريا أو أى بلد، حينما تستولى منظمة أو منظمات إرهابية مصنفة بهذه الصفة من جانب مجلس الأمن الدولى أعلى سلطة فى هذا البلد، والحال أن "هيئة تحرير الشام/ جبهة النصرة" بقيادة أبى محمد الجولانى لاتزال موضوعة هى والفصائل الأخرى المتحالفة معها بأنها منظمات إرهابية حتى هذه اللحظة والأكثر من ذلك أنها لاتزال موصومة بوصمة الإرهاب حتى فى تركيا الدولة الراعية لعملية الإطاحة بنظام الأسد وحتى بعد أن غير زعيمها "الجولانى" اسمه إلى "أحمد الشرع" وأصبح رئيسا لسوريا بقرار من زملائه زعماء المنظمات الإرهابية المتحالفة مع "النصرة" وأصبح يستقبل استقبال الفاتحين فى عواصم عربية عديدة، مع أن اسمه مدرج على قوائم الإرهاب الدولية!
أما الحرب الإرهابية التى خاضتها منظمات مثل جبهة النصرة وداعش وجيش التحرير التركمستانى والمقاتلون الشيشان والأوزبك والعرب والأتراك – والتى ألحقت بسوريا دمارًا شاملًا، ونتج عنها مئات الآلاف من القتلى وملايين اللاجئين والنازحين، فقد أصبح اسمها "الثورة السورية"!! التى انتصرت بعد ثلاثة عشر عاما من القتال!! وتم ترحيل كل جرائم جيوش الإرهابيين والمرتزقة طوال هذه الأعوام إلى عاتق نظام الأسد ليصبح هو المسئول عنها!! ومرة أخرى نقول إننا لسنا بصدد الدفاع عن أخطاء أو خطايا نظام الأسد، لكن هذا التزوير الصارخ للوقائع التاريخية التى عاصرناها بأنفسنا هو كذب يفتقر إلى أى ذرة من الحياء أو احترام العقل.
وهكذا أصبحت الثورة السورية هى أول ثورة فى العالم تقوم بها المنظمات الإرهابية وفصائل المرتزقة الأجانب من "الأويجور والشيشان والأوزبك وغيرهم" وأصبحت سوريا – بكل تراثها الحضارى العريق هى أول دولة تحكمها منظمات وشخصيات إرهابية ومرتزقة أجانب، ويتم تشكيل جيشها وقوات الأمن التابعة لها من هؤلاء الإرهابيين والمرتزقة الأجانب وتحت إشراف دولة أجنبية "تركيا" لا تخفى أطماعها التوسعية فى الأراضى السورية، وتحظى بدعم علني جماعي من عدد من الدول العربية الهامة!!
إسرائيل.. أول المستفيدين
العدو الصهيونى كان أول من بادر لانتهاز الفرصة من أجل تحقيق أهدافه الإجرامية فى سوريا فبعد ساعات من وصول الجولانى إلى القصر الرئاسى فى دمشق، بدأت إسرائيل فى شن غارات جوية على جميع الأهداف والبنى التحتية العسكرية فى سوريا، معلنة بوضوح أنها تستهدف تصفية القوة العسكرية السورية بصورة تامة، كما أعلنت الدولة الصهيونية إلغاء اتفاق فصل القوات بينها وبين الدولة السورية (1974) وسارعت إلى الاستيلاء على قمم جبل الشيخ، ثم سفوحه وبقية هضبة الجولان، ثم بدأت تتوغل فى أجزاء من محافظة درعا حتى أصبح ما استولت عليه حتى الآن سبعمائة كيلو مترمربع فى مناطق قريبة من سيف العاصمة دمشق.
واللافت للنظر أن حكام سوريا الجدد سارعوا للإعلان عن أنهم غير معنيين بالصدام مع إسرائيل، ولم يتقدموا حتى بشكوى إلى الأمم المتحدة إلا بعد شهور استيلاء العدو الصهيونى على المساحات المذكورة!!
الأمر الذى لا يقل خطورة هو أن إسرائيل بدأت تتحرك بين العشائر الدرزية فى جنوب غرب سوريا "درعا والسويداء" وتشجع زعماء هذه العشائر على التمرد على دمشق والانفصال عنها، معلنة التزامها بحماية الدروز فى مواجهة أى عمل عسكرى تقوم به قوات السلطة الجديدة، كما نظمت الدولة الصهيونية زيارات لعدد من مشايخ العشائر الدرزية السورية إلى زعماء الأقلية الدرزية فى فلسطين، فى مسعى مفضوح لإثارة الانقسامات الطائفية فى سوريا.
وإذا كانت الأخبار لا تنقطع عن توغل الجيش الصهيونى باستمرار فى مناطق جديدة فى جنوب غرب سوريا فإن علاقات إسرائيل المنامية مع بعض شيوخ العشائر الدرزية والحديث عن التزامها بحمايتهم، هو أمر ينطوى على خطر فادح لمزيد من التوسع الصهيونى فى مناطق الجنوب الغربى السورى (درعا والسويداء) واحتمالات إقامة كيان انفصال درزى فى هذه المناطق.
وإذا وضعنا فى اعتبارنا أن الدولة الصهيونية لديها علاقات تقليدية مع أكراد سورية (وعلاقات أقوى مع سلطة الحكم الذاتى فى كردستان العراق) فإن مخاطر التوسع الإسرائيلى أو على الأقل التغلغل السياسى والاقتصادى والعسكرى الصهيونى فى الأراضى السورية، تصبح أفدح وسوف نعود إلى هذا الموضوع لاحقا فى سياق مقالنا عن الحديث عن الصراع الإسرائيلى – التركى على النفوذ فى سوريا.
مذابح طائفية
بالرغم من تصريحات (الجولانى/ الشرع) المكررة عن إقامة نظام ديمقراطى فى سوريا وبناء دولة وطنية لكل أبناء الشعب وتأسيس جيش وطنى وأجهزة أمنية جديدة وعن نزع سلاح الفصائل.. إلخ، فإن الوقائع على الأرض تشير إلى عكس ذلك كله، فما حدث هو أن زعماء الفصائل الإرهابية والمرتزقة (أهل الحل والعقد) قد نصّبوا (الجولانى/ الشرع) رئيسا للجمهورية فى إطار فترة انتقالية مدتها خمس سنوات، تم النص عليها فى إعلان دستورى نتج عن مؤتمر للحوار الوطنى تم اختيار المشاركين فيه من أنصار السلطة الجديدة وأتباع تركيا من معارضى نظام الأسد، فى غياب تام لأى آلية لاختيار ممثلين للمواطنين.
أما الجيش الجديد فقد تم تكوينه من أعضاء الفصائل الإرهابية التى لم تعلن حتى عن حل نفسها أو تسليم أسلحتها، وكثير من قياداته من قيادات الفصائل الإرهابية والمرتزقة الأجانب الذين انتقلوا من بؤرة الإرهاب فى محافظة إدلب إلى دمشق وغيرها من المدن السورية الكبرى، وتم الإعلان عن حركة واسعة لمنح الجنسية السورية لهؤلاء المقاتلين الأجانب!! كما تم رفض تعيين ضباط محترفين من معارضى نظام الأسد الذين يملكون خبرة قتالية، بالرغم من تأييدهم للنظام الجديد!
وبديهى أنه تم حل الجيش العربى السورى، فليس مسموحًا بدخول أحد منهم للخدمة، بل إنهم يتعرضون للملاحقة والاعتقال.
.. وهذا بالضبط ما حدث فى عملية تشكيل قوات وأجهزة الأمن.
هذه مقدمة ضرورية لتوضيح كيف جرت عملية ملاحقة عناصر نظام الأسد على أيدى الإرهابيين الذين ظلوا يقاتلونهم ثلاثة عشر عاما، وهكذا رأينا عملية واسعة النطاق لملاحقة واعتقال عناصر النظام السابق بصورة عشوائية، وتم فى هذا السياق اغتيال كثير من هذه العناصر ومن المثقفين والعلماء وبصورة أخص من أبناء الطائفة العلوية التى تنتمى إليها أسرة الأسد، وذلك وسط تجاهل وتعتيم من أجهزة الإعلام العربية والغربية المنخرطة فى التهليل للنظام الجديد.
وفى بدايات شهر مارس الماضى توجهت حملات كبيرة من قوات الجيش والأمن إلى منطقة الساحل "اللاذقية وطرطوس وبانياس وأرياف المنطقة" حيث توجد التجمعات الأساسية من أبناء الطائفة العلوية، وقامت هذه القوات بارتكاب مجازر مروعة بين سكان المنطقة راح ضحيتها أكثر من ألف مواطن مدنى وفق أكثر التقديرات تحفظا، بينما ترتفع تقديرات أخرى بالعدد إلى أكثر من (ألف وسبعمائة مدنى) كما أحرقت البيوت ونهبتها (المرصد السورى لحقوق الإنسان ومنظمة العفو الدولية) ولم يكن ممكنا بالطبع التعتيم على هذه المجازر نظرا لاتساع نطاقها، وقد تمكَّن أكثر من خمسة عشر ألفا من أبناء المنطقة من اللجوء إلى قاعدة (حميميم) الروسية باللاذقية، حيث لايزالون يحتمون بها حتى الآن، وسط حصار وتهديدات العناصر المتطرفة، وأدانت الأمم المتحدة المجازر كما وصفتها منظمة العفو الدولية بأنها جريمة حرب واضطرت سلطات (الجولانى/ الشرع) لتشكيل لجنة لتقصى الحقائق لم تعلن تقريرها حتى الآن، وإن كان كل من يهمه الأمر يعرف أن قوات الجيش والأمن المكونة من المقاتلين الإرهابيين هى التى قامت بالمجازر.
وبديهى أنه إذا تمكنت مثل هذه الفصائل الإرهابية ذات التاريخ الدموى الطويل من الوصول إلى السلطة فإن تمزيق المجتمع على أسس الطائفية ومذهبية يصبح خطرًا ماثلًا وأن من يريد الحديث عن الحدود والأمن والاستقرار والسلام الاجتماعي لابد له من القيام – كخطوة أولى – على هذه الفصائل وتجريدها من السلاح وترحيل الأجانب من أعضائها إلى بلادهم أو اعتقالهم ومحاكمتهم بتهمة الإرهاب ولكن كيف يمكن أن يحدث ذلك إذا كانت السلطة العليا فى يد الإرهابيين؟!!
وللحديث بقية..