أسامة أيوب يكتب : تصريحات بايدن المفاجئة ضد نتن ياهو وحكومته.. توقيتها وأسبابها ودلالتها
جاءت تصريحات الرئيس الأمريكى بايدن اللافتة والمفاجئة مساء يوم الثلاثاء الماضى بتوقيت الشرق الأوسط وقت كتابة هذه السطور ضد نتن ياهو وحكومته والتى تعد غير مسبوقة في تاريخ العلاقات بين واشنطن وتل أبيب، إذ لم يحدث أن انتقد رئيس أمريكى حكومة إسرائيلية على هذا النحو الذى تضمنته تلك التصريحات.
القراءة السياسية المتعمقة للتصريحات وتحليلها والتى صدرت بعد ٦٧ يوما من العدوان الصهيونى الوحشى على غزة.. من شأنها أن تفضى إلى ملاحظات مهمة حول توقيتها وأسبابها ودلالتها ثم بالضرورة جدواها ومدى صدقيتها.
أول وأهم ما يمكن استخلاصه من التصريحات هو أنها تنطوى على إعلان واعتراف أمريكى من جانب بايدن بهزيمة قوات الاحتلال الصهيونى وتكبدها خسائر فادحة من قتل مئات الضباط والجنود وإصابة الآلاف وتدمير مئات الآليات العسكرية فى الاشتباكات مع مقاتلى كتائب القسام وسرايا القدس ومن ثم فشلها فى تحقيق أى إنجاز عسكرى يحقق الهدفين المعلنين من العدوان سواء بالقضاء على حماس أو إطلاق سراح ما تبقى من الرهائن بعد وقف الهدنة وتحرير الأسرى العسكريين بالقوة.
ولأن بايدن كان يراهن على قدرة إسرائيل علي تحقيق هذين الهدفين حسبما أقنعه نتن ياهو وحكومة الحرب ومع استمرار العملية العسكرية لأكثر من شهرين دون تحقيق أهدافها، فإنه أدرك عبثية هذه الحرب التى دعمتها ومولتها واشنطن عسكريا وسياسيا ودبلوماسيا.
<<<
تصريح بايدن بأن إسرائيل بدأت تفقد الدعم فى العالم بسبب القصف العشوائى وقتل المدنيين يعكس حجم الضغط الدولى ضدها حتى باتت معزولة عالمية جراء عدوانها البربرى اللاإنسانى وحرب الإبادة التى تشنها على الشعب الفلسطينى الأعزل وما أسفرت عنها من قتل وإصابة أكثر من ٧٠ ألف من المدنيين أغلبهم من الأطفال والنساء وعلى نحو بالغ الخسة فضح الكيان الصهيونى أمام الرأى العام العالمى حسبما اتضح وتبدى فى المظاهرات الشعبية المنددة بجرائم إسرائيل فى مدن وعواصم العالم ومن بينها مدن أمريكا وأوروبا.
<<<
ثم إن هذا الضغط الدولى من جانب الرأى العام العالمى وحكومات الدول بما فى ذلك بعض الحكومات الأوروبية امتد إلى أمريكا ذاتها وبايدن وإدارته بل داخل الكونجرس وحتى داخل الإدارة الأمريكية التى تشهد خلافات وانقسامات واعتراضا على استمرار الدعم الأمريكى للعدوان الإسرائيلى على غزة ومن ثمَّ مطالبة بايدن بوقف الدعم وإجبار نتن ياهو وحكومت على وقف إطلاق النار وإنهاء العدوان.
ولذا فقد تضمنت تصريحات بايدن اعترافه بأن ثمة مخاوف حقيقية من أن تفقد أمريكا مركزها الأخلاقى فى مختلف أنحاء العالم بسبب دعم إسرائيل، وهذا الاعتراف يعنى اعترافا آخر بخطأ التمادى فى الدعم العسكرى غير المحدود لإسرائيل في عدوانها الوحشى، وحيث بدا أنه أفاق من غيبوبة الانحياز الأعمى لها فى محاولة متأخرة لمحو العار الذى لحق به ولغسل يديه من دماء المدنيين الفلسطينيين وتبييض وجه أمريكا القبيح أمام شعوب العالم.
<<<
أما تصريح بايدن الذى وصف فيه حكومة إسرائيل الحالية برئاسة نتن ياهو بأنها الأكثر تطرفا فى تاريخها، فإنه يتعين فهمه فى سياقه الحقيقى وحرصه على أمن واستقرار اسرائيل، باعتبار أن هذه الحكومة تشكل خطرًا على سلامة الشعب الإسرائيلى التى وصفها بأنه باتت على المحك، ثم إنه أراد فى نفس الوقت أن يؤكد مجددا أنه كان محقا فى خلافاته المعلنة مع هذه الحكومة عند تشكيلها وهى الخلافات التى تزايدت فى الكواليس بعد ذلك وحتى الآن.
ثم إن مطالبة بايدن لنتن ياهو بتغيير حكومته تنطوى ضمنًا إلى احتمال تدخل واشنطن من خلال المعارضة الإسرائيلية التى تسعى لإزاحة نتن ياهو من رئاسة الحكومة لعدم صلاحيته لقيادة إسرائيل وذلك لتغيير نتن ياهو ذاته وتشكيل حكومة جديدة من خارج اليمين المتطرف يمكن لبايدن التعامل معها.
ولأن مطلب تغيير الحكومة الإسرائيلية استهدف صراحة تغيير الوزير بن غفير رفاقه الذين وصفهم بايدن بالمتطرفين الذين لا يريدون حل الدولتين وينتقمون من كل الفلسطينيين وهو الأمر الذى جلب الإدانة العالمية لإسرائيل وأمريكا أيضا، فإن هذه هى المرة الأولى فى تاريخ العلاقات بين واشنطن وتل أبيب التى يتدخل فيها رئيس أمريكى فى تشكيل حكومة إسرائيل والتخلص من بعض وزرائها.
تصريح بايدن بأنه لا يمكن لنتن ياهو القول إنه لا توجد دولة فلسطينية على الإطلاق فى المستقبل بدا انتقادا حادا فى العلن فقط بالاصطفاف مع الوزير بن غفير ورفاقه الوزراء الأكثر تطرفا والتماهى معهم فى رفض أى شىء يتعلق بالدولة الفلسطينية بحسب تعبير الرئيس الأمريكى، وإن كان هذا الانتقاد لا يعنى جدية أمريكا فى تطبيق حل الدولتين فعلا.
<<<
المثير أنه بينما يطالب بايدن فى تصريحاته رئيس حكومة إسرائيل نتن ياهو بالقيام بتحركات لتعزيز السلطة الفلسطينية وتقويتها، فإن نتن ياهو يصعد جرائم الفصل العنصرى واقتحام وعزل البلدات والمدن فى الضفة الغربية وقتل نحو ٣٠٠ فلسطينى واعتقال نحو ٤ آلاف منذ عملية «طوفان الأقصى» فى غزة فى السابع من أكتوبر الماضى وبالتزامن مع عدوانه الوحشى الهمجى اللاإنسانى على الشعب الفلسطينى فى القطاع، بل إنه توعد عشية تصريحات بايدن بشن عدوان آخر على السلطة الفلسطينية وأجهزتها الأمنية، وهو الأمر الذى يعنى أن مجرم الحرب نتن ياهو عازم على المضي قدمًا فى مخطط تصفية القضية الفلسطينية واستمرار عدوانه على غزة إلى أن يجبره بايدن على التوقف.. هذا إن أجبره على ذلك فعلا.
اللافت أن تصريحات بايدن المفاجئة وغير المسبوقة ضد نتن ياهو وحكومته جاءت خلال حفل لجمع تبرعات لحملته الانتخابية لحضور تجمع لليهود الأمريكيين، وهو الأمر الذى يثير التساؤل حول رد فعل اللوبى اليهودى إزاء هذه التصريحات ضد الحكومة الإسرائيلية والتى تتناقض مع ما جرى عليه العرف قبل الانتخابات الرئاسية من حرص المرشح على تأكيد استمرار دعم اسرائيل وضمان أمنها.. سبيلا ضروريا لضمان الحصول على دعم اليهود له فى الانتخابات، حيث بدا أنه من الممكن أن تؤثر هذه التصريحات سلبا على بايدن فى الانتخابات العام المقبل والذى يخضها للفوز لولاية ثانية.
لكن من المؤكد أن هذا الأمر لم يغب عن بايدن وحملته ومستشاريه، إذ إنه يدرك أن هناك فارقا كبيرا بين انتقاد حكومة نتن ياهو الأكثر تطرفا فى تاريخ إسرائيل وبين حرصه كرئيس أمريكى ومرشح لولاية رئاسية ثانية على إسرائيل وأمنها وفقا للنهج الأمريكى الاستراتيجى عبر كل الإدارات الأمريكية، حيث بدا بايدن أكثر حرصا على إسرائيل من نتن ياهو وحكومته التى باتت خطرا على إسرائيل وشعبها حسبما استهدف بتصريحاته.
هذا الحرص وهذا المعنى حرص بايدن على تأكيده بقوله إنه ليس ضروريا أن تكون يهودياً لتكون صهيونياً، وهو الذى سبق أن وصف نفسه بأنه صهيونى، ثم أكده بتصريحه أنه طلب من الكونجرس مزيدا من الدعم لإسرائيل، ثم بتأكيده أنه يتفق مع إسرائيل على ضرورة القضاء على حماس.
<<<
ولذا وأمام ذلك التحول الأمريكى المفاجئ بالأقوال من خلال تصريحات بايدن وليس بالأفعال حتى الآن، فإن السؤال هو ما هى جدوى ومدى صدقية هذه التصريحات أو ما هى النتائج المتوقعة لذلك التحول؟
أحسب أنه يتعين عدم الإفراط فى التفاؤل ومن ثم عدم التسرع فى توقع حدوث تغيير حقيقى فى النهج الأمريكى تجاه القضية الفلسطينية بوجه عام وتجاه العدوان الصهيونى ضد غزة والذى لم يتوقف بتقديم المزيد من الدعم لإسرائيل ثم تجاه إسرائيل مع حكومتها الحالية المتطرفة أو أى حكومة أخرى.
<<<
واقع الأمر أنه لا جدوى حقيقية مما يمكن اعتباره تحولا فى موقف بايدن من خلال تصريحاته الأخيرة ما لم تتحقق نتائج ملموسة.. أولها وقف دائم للعدوان الصهيونى على غزة ثم التوجه نحو مسار سياسى لإنهاء الاحتلال الإسرائيلي ومن ثم إثبات جدية بايدن فى تنفيذ حل الدولتين الذى تعطل تنفيذه طوال عشرين سنة ومن ثم قدرته على تنفيذ هذا الحل خلال العام المتبقى له فى رئاسته الحالية، مع ملاحظة أن فوزه بولاية رئاسية ثانية فى الانتخابات العام المقبل غير مؤكدة خاصة بعد أن فقد شعبيته بسبب دعمه للعدوان الصهيونى وقتل الأطفال والنساء بحسب آخر استطلاع للرأى والذى أظهر تفوق الرئيس السابق ترامب عليه بأربع نقاط.
<<<
وفى نفس الوقت فإنه لا ضمانة لثبات بايدن على تحوله المفاجئ ضد نتن ياهو وحكومته «الأكثر تطرفا فى تاريخ اسرائيل» إذ من المحتمل بل ربما من المرجح وبحسب التجارب السابقة مع مواقف الإدارات الأمريكية أن يتحول بايدن عن هذا التحول المفاجئ.
<<<
ثم إن التحول الحقيقى والعادل فى الموقف الأمريكى وموقف بايدن وإدارته كان يقتضي بالضرورة الاعتذار للشعب الفلسطينى عن دعم العدوان الصهيونى الوحشى وعن حرب الإبادة وعن الأوضاع المعيشية الكارثية المأساوية اللاإنسانية التى يعيشها الفلسطينيون فى غزة بعد تدميرها وحصارها وتجويع شعبها وأيضا عن قتل المدنيين والأطفال والنساء بكل الخسة والبربرية، وهى جرائم حرب ارتكبها بايدن مع نتن ياهو.
ثم إن التحول الحقيقى والعادل فى موقف أمريكا وبايدن وإدارته والذى يرتضيه العرب والفلسطينيون خاصة هو التراجع عن وصف المقاومة الفلسطينية بالإرهاب وعن تصنيف حركة المقاومة حماس كمنظمة إرهابية، إذ إن المقاومة حركة تحرر وطنى تمارس حقها المشروع بحسب القانون الدولي التى تتشدق به أمريكا وأوروبا ضد الاحتلال غير المشروع لأراضيها والذى صدرت عشرات القرارات الأممية ومن مجلس الأمن بضرورة إنهائه والانسحاب من الأراضى المحتلة، وهو الأمر الذى يتعين على أمريكا احتراه فعلا وقولا والاعتراف بحق المقاومة المشروع ضد الاحتلال الذى يمارس الإرهاب ضد الشعب الرازح تحت الاحتلال، وإذا ظلت أمريكا على هذا النهج غير العادل فإنها ستظل تحظى بكراهية مليارى مسلم وعربى فى أنحاء العالم.
أخيرًا.. فقد جاء الموقف الأمريكى إلى جانب إسرائيل فى الاجتماع الطارئ والاستثنائى للجمعية العامة للأمم المتحدة برفض القرار الصادر بالأغلبية الساحقة الداعى لوقف دائم لإطلاق النار فى غزة وضمان تسهيل دخول المساعدات الإنسانية للفلسطينيين المدنيين فى القطاع.. ليفرغ تصريحات بايدن التى تزامنت مع اجتماع اللجنة العامة من مضمونها بل من صدقيتها وليؤكد أنه لا تحول حقيقيا فى الموقف الأمريكى والرئيس بايدن، ويؤكد أيضًا أن أمريكا فقدت بالفعل مركزها الأخلاقى فى مختلف أنحاء العالم وحيث باتت تواجه مع إسرائيل عزلة دولية.