أسامة أيوب يكتب : الدلالات الدينية والسياسية لتحويل القبلة إلى المسجد الحرام
شعبان.. شهر تحويل القبلة وفيه ترفع الأعمال
لأن شهر شعبان الذى انقضى أسبوعه الأول شهر يغفل عنه كثير من الناس كما قال صلى الله عليه وسلم، إذ إنه يأتى بين عظيمين.. شهر رجب المحرم وشهر رمضان المعظم، الذى يترقب المسلمون قدومه ومن ثمَّ يغفلون عن مكانة شعبان، رغم أنه الشهر الذي تُرفع فيه الأعمال كما قال النبى محمد، ولذا كان يكثر فيه الصوم، حيث كان يقول أحب أن يرفع عملي وأنا صائم.
ولشهر شعبان خصوصية ومكانة أخرى، إذ شهدت ليلة النصف منه نزول التشريع الإلهي بتحويل القبلة من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام في السنة الثانية من الهجرة إلى المدينة المنورة، وهو التشريع الذي نزل ترضية للنبى صلى الله عليه وسلم واستجابة لتشوقه إلى المسجد الحرام بمكة حسبما ذكر القرآن الكريم: «قد نرى تقلُب وجهك فى السماء، فلنولينك قبلة ترضاها».
<<<
تحويل القبلة إلى المسجد الحرام حدث فى السنة الخامسة عشرة من البعثة المحمدية وبعد أن ظل المسلمون يتوجهون فى صلواتهم طوال خمس سنوات بمكة منذ فرضت الصلوات الخمس وطوال ثمانية عشر شهرا بالمدينة تجاه المسجد الأقصى.
ولأن الصلوات الخمس فرضها الله سبحانه وتعالى فى رحلة الإسراء والمعراج حيث تلقى النبى تكليفها وفرضها بالأمر المباشر من الله فى سدرة المنتهى فى ختام رحلة المعراج، وبعد أن كان صلى الله عليه وسلم قد صلى بالأنبياء والرُسل السابقين إمامًا فى المسجد الأقصي وحيث كان ذلك معجزة ثالثة من معجزات الإسراء والمعراج، إذ أتى الله بهم أحياء ليصلوا خلف النبى محمد، لذا كانت القبلة الأولى بمثابة تكريم للمسجد الأقصى الذى أُسرى بالنبى إليه وتوثيق للرحلة ذاتها.
<<<
تحويل القبلة إلى المسجد الحرام بمكة لم ينتقص من مكانة المسجد الأقصى، فهو المسجد الذى بارك الله حوله وهو أيضًا مسرى النبى صلى الله عليه وسلم، ثمَّ إنه لايزال وسوف يظل يوصف بأنه أولى القبلتين وثالث الحرمين.. الحرم المكى والحرم المدنى، وهو أحد المساجد الثلاثة التى لا تشد الرحال إلا إليها كما قال صلي الله عليه وسلم.
<<<
وبحسب ما ورد فى السيرة النبوية.. يُذكر أنه عندما نزلت آية تحويل القبلة كان نفر من المسلمين فى المدينة يؤدون الصلاة فى أحد مساجدها.. متجهين إلى المسجد الأقصى فتحولوا وهم فى صلاتهم إلى المسجد الحرام، وقد سُمىَّ ذلك المسجد مسجد القبلتين ولايزال قائمًا حتى الآن وحيث يُعد من مزارات المدينة، وقد شرف كاتب هذه السطور بالصلاة فيه بعد أداء العمرة منذ ثلاث وأربعين سنة فى شهر مارس ١٩٨١.
من المثير أن يهود المدينة والمنافقين قد أصابهم الغيظ وأثاروا لغطًا كثيرًا بعد تحويل القبلة.. حسدًا من أنفسهم للإسلام ولرسوله وللمسلمين، بينما الأكثر إثارة أن ينضم إليهم مشركو مكة فى سياق عدائهم للنبى ولدعوته وقد كان حرياً بهم أن يسعدوا بتحويل القبلة إلى المسجد الحرام وبلدهم مكة باعتبار أن ذلك تشريف لهم بين العرب على أقل تقدير.
<<<
أما عن رفع الأعمال فى شهر شعبان فإن السؤال الذى قد يتبادر إلى أذهان البعض بحسن نية ويطرحه المتنطعون المشككون بنية سيئة هو: إذا كانت أعمال المسلمين تحسب يومًا بيوم، فكيف يُقال إنها ترفع فى هذا الشهر تحديدًا وفقط، غير أن المعنى المقصود هو أنه شهر الحساب الختامى الذى يتضمن مجمل الأعمال مجمعة سواء الحسنة أم السيئة، مع ملاحظة أن الله قد يغفر للتائبين من بعض الذنوب قبل شهر شعبان، ومن ثمَّ ترفع أعمالهم مخصوصًا منها الأعمال والذنوب التى غفرها الله.
<<<
ولقد كان لتحويل القبلة في شهر شعبان من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام دلالات مهمة سياسيا ودينيا تبدت أهميتها فورا ولاحقا، إذ كان تحويل القبلة تأكيدًا لمكانة المسجد الحرام المقدسة، باعتباره أول مسجد وُضع للناس، وباعتبار أن نبى الله إبراهيم وابنه نبى الله إسماعيل عليهما السلام قد رفعا قواعد هذا البيت الحرام بأمر من الله سبحانه وتعالى، ثم إنه تأكيد لمكانة مكة المكرمة.. مهبط الوحى على النبى محمد والتى شهدت بداية البعثة والرسالة، ثم باعتبارها أحب بلاد الله إلى النبى صلى الله عليه وسلم حسبما قال وهو يغادرها مهاجرًا إلى المدينة المنورة، ولأنها البلد التى شهدت مولده صلى الله عليه وسلم.
<<<
ثم إن ثمة دلالة سياسية بالغة الأهمية لتحويل القبلة إلى المسجد الحرام، إذ كان استشرافا لفتح مكة وعودة النبى إليها فاتحًا منتصرًا وهو ما حدث بالفعل فى السنة الثامنة من الهجرة، حيث فتحها صلى الله عليه وسلم على رأس جيش ضم عشرة آلاف مسلم من سائر أرجاء الجزيرة العربية ودخلها دون قتال بعد استسلام كفار قريش وأهل مكة جميعا للفتح العظيم والذين أمنهم النبى وقال قولته الخالدة: اذهبوا فأنتم الطلقاء بعد أن سألهم ما تظنون أنى فاعل بكم، فأجابوه: أخ كريم وابن أخ كريم.. رهانا على رحمته صلى الله عليه وسلم، وحيث كان فتح مكة ذروة انتصار الإسلام ونهاية الشرك ودخول العرب تحت راية التوحيد، وحيث تدفقت القبائل العربية.. أفواجا.. أفواجا عليه صلى الله عليه وسلم بعد عودته إلى المدينة للدخول فى الإسلام الذى صار الدين الأوحد فى شبه الجزيرة العربية، وحيث ذكر القرآن «إذا جاء نصر الله والفتح ورأيت الناس يدخلون فى دين الله أفواجًا، فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابًا».
وقد بكى الصديق أبوبكر عند نزول هذه السورة وقال إن الله يبغى رسوله إلى نفسه، مثلما بكى فى حجة الوداع عندما نزلت الآية الكريمة: «اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتى ورضيت لكم الإسلام دينا»، حيث أدرك اقتراب انتقال النبى إلى الرفيق الأعلى بعد أن بلّغ الرسالة وأدى الأمانة.
<<<
يبقى أخيرًا التذكير بأن خصوصية ومكانة شهر شعبان والتى يعلمها عموم المسلمين ليست لأنه الشهر الذى شهد تحويل القبلة وليست لأنه الشهر الذى تُرفع فيه الأعمال فحسب، إذ تعددت أسباب خصوصيته ومكانته والتى تغيب عن عموم المسلمين، إذ إنه الشهر الذى فُرض فيه صوم شهر رمضان بعد تحويل القبلة وفى نفس السنة، ثمَّ إنه الشهر الذى فرضت فيه الزكاة فى نفس السنة أيضًا، وهو بذلك الشهر الذي شهد اكتمال أركان الإسلام الخمسة.
<<<
وفى مصر فإن لشهر شعبان وليلة النصف منه مكانة خاصة، إذ إن المصريين الأكثر احتفالا بإحياء تلك الليلة المباركة بقيامها وصوم يومها وقراءة الدعاء المعروف باسم دعاء نصف شعبان، والذى لا يقره البعض ولكنه كان ومازال تقليدا حسنا متواترا وجزءا من التراث الإسلامى المصرى الذى لا يتعارض مع صحيح الدين والشريعة الإسلامية والسُنَّة المشرفة.
تنويه واجب
لأن ما جرى ويجرى فى غزة للشهر الخامس من حرب إبادة وعدوان يهودي صهيونى خسيس على الشعب الفلسطينى الأعزل بدعم وبمشاركة حكومات الغرب الأمريكى الأوروبى الاستعماري.. راح ضحيته مائة ألف شهيد وجريح.. أغلبهم من الأطفال والنساء وسط صمت مخزٍ للمجتمع الدولى وضعف وهوان الحكومات العربية والإسلامية وعجز أممى عن تنفيذ القانون الدولى ومواثيق حقوق الإنسان.. بينما لايزال مليونا فلسطينى فى غزة يواجهون خطر الموت جوعا وعطشا وفقدانا لمقومات الحياة وحيث لم تعد غزة صالحة للحياة الآدمية وحيث يواجه هؤلاء خطر التهجير القسرى لتصفية القضية الفلسطينية.
.. أمام ذلك كله.. وحيث لا توجد كلمات تعبِّر عما جرى ويجرى، فإن اللسان يعجز عن الكلام والقلم يعجز عن الكتابة.
لذا لزم التنويه..