أسامة أيوب يكتب : ليلة تنحى مبارك.. استدعاء تاريخى لما جرى
فى مثل هذا اليوم منذ ثلاثة عشر عامًا والذى كان يوم الجمعة الموافق ١١ فبراير ٢٠١١، خرج اللواء عمر سليمان نائب رئيس الجمهورية الذي شغل منصبه قبل أيام على شاشة التليفزيون المصرى ليُعلن: «فى هذه الظروف العصيبة التى تمر بها البلاد قرر الرئيس محمد حسنى مبارك تخليه عن منصب رئيس الجمهورية وكلف المجلس الأعلى للقوات المسلحة بإدارة شئون البلاد والله الموفق والمستعان».
بيان التنحى المقتضب الذى ألقاه اللواء عمر سليمان بصوت حزين وإن بدا متماسكًا كان معبّرًا بدقة عما جرى فى الساعات الحرجة القليلة التى سبقت إذاعته وسط حالة الغموض فى المشهد السياسى وترقب الشارع المصرى بقدر ما عكس أجواء القلق والتوتر فى كواليس قصر الاتحادية والمجلس الأعلى للقوات المسلحة والذى كان قد أعلن أنه فى حالة انعقاد دائم برئاسة المشير طنطاوى فى إشارة واضحة إلى أن قرارًا مهمًا وشيكًا سيتم إعلانه لإنهاء غليان ميدان التحرير، وحيث بدا مؤكدًا أن رصاصة الثورة التى انطلقت فى طريقها لإسقاط النظام ورحيل مبارك عن الحكم.
قرار الرئيس مبارك بالتنحى والذى جاء متأخرًا كان فى واقع الأمر هو الحل الضرورى الذى لا مفر منه للحيلولة دون وقوع خطر داهم يهدّد الدولة كلها ومن ثمَّ فقد أطفأ نيران ثورة الغضب المستعرة فى ميدان التحرير وميادين مصر، خاصة بعد أن اعتزم المتظاهرون اقتحام قصر الاتحادية إذا لم يرحل مبارك فى ذلك اليوم، وهو الأمر الذى كان من شأنه تهديد حياة مبارك شخصيًا حسبما حذّره الدكتور حسام بدراوى أمين عام الحزب الوطنى الجديد بأنه قد يلقي مصير شاوشيسكو رئيس رومانيا الذى قتله الجنود رميًا بالرصاص دون محاكمة، وهو التحذير الذى قابله مبارك بأنه لا يخاف الموت.
<<<
اللافت أن بيان التنحى الذى ألقاه اللواء عمر سليمان وأذاعه التليفزيون كان مسجلًا فى إحدى طرقات قصر الاتحادية حسبما بدا من الفيديو الـمُذاع، وأن مدير الشئون المعنوية بالقوات المسلحة ذهب بالتسجيل إلى مبنى الإذاعة والتليفزيون والذى كان فى استقباله رئيس التليفزيون وتسلَّم شريط التسجيل لإذاعته في حضور مدير الشئون المعنوية الذى لم يغادر الاستوديو إلا بعد أن تمت إذاعة البيان.
ذهاب مدير الشئون المعنوية بنفسه إلى مبنى الإذاعة والتليفزيون حاملا التسجيل كان له دلالته وقتها وهى أن المجلس الأعلى للقوات المسلحة تسلَّم السلطة بالفعل وأنه يدير شئون البلاد، وفى نفس الوقت فإن عدم ذهاب اللواء عمر سليمان إلى مبنى التليفزيون لإلقاء البيان على الهواء من داخل استوديوهاته كان ينطوى على دلالة أخرى وهى أنه بتنحى مبارك لم يعد نائبًا للرئيس ولم تعد له أى صفة رسمية تخوله دخول المبنى وإلقاء البيان على الهواء، غير أن المجلس الأعلى للقوات المسلحة حرص على أن يأتى قرار مبارك بالتنحى على لسان نائبه حتى اللحظة الأخيرة، وألا يأتى على لسان وزير الدفاع أو أى من أعضاء المجلس العسكرى خاصة «فى تلك الظروف العصيبة» بالغة الحساسية بحيث لا يبدو التنحى مفروضًا على مبارك وعلى غير إرادته المطلقة، وقد كان ذلك التصرف بالغ الحِكمة واللياقة السياسية والنُبل أيضًا تجاه من كان رئيسًا للجمهورية وقائدًا أعلى للقوات المسلحة.
<<<
بعد ثلاثة عشر عامًا.. يتجدد السؤال: لماذا لم يستطع الرئيس مبارك التعاطي سياسيا مع تلك الحالة الثورية فى أيامها الأولى للحيلولة دون تصعيدها إلى ثورة بدأت بالاحتجاج والغضب وتواصلت وتحولت إلى ثورة شعبية لم تهدأ إلا بإسقاط النظام.
الإجابة المتجددة أيضا هى أن الرئيس مبارك لم يتفهم منذ البداية أن اعتصام بضع مئات أو حتى بضعة آلاف من الشباب الأنقياء في ميدان التحرير من الممكن أن تحيلها أجهزة الشرطة بتعاملها العنيف والقوة المفرطة تحت إدارة حبيب العادلى وزير الداخلية فى ذلك الوقت إلى حالة ثورية وثورة مشتعلة متأججة.
الأمر الآخر هو أن كل الخطابات والقرارات والإجراءات التى أقدم عليها مبارك خلال أيام الثورة جاءت كلها متأخرة عن توقيتها المناسب والتى كان من الممكن أن تنزع فتيل الأزمة والحالة الثورية مبكرًا.
حتى قراره بتعيين اللواء عمر سليمان مدير المخابرات العامة فى منصب نائب رئيس الجمهورية وهو المنصب الذى ظل شاغرًا طوال ثلاثين سنة ثم تفويضه فى ممارسة مهام الرئيس، حيث استهدف الإعلان صراحة عن تخليه عمليًا عن ممارسة سلطة الرئيس لحين انتهاء مدته الرئاسية الخامسة بعد أشهر قليلة، خاصة أنه أكد صراحة فى خطابه الأخير أنه لن يترشح لولاية رئاسية جديدة.. حتى هذا القرار الذى جاء متأخرًا أيضًا رفضه المتظاهرون والثوار فى ميدان التحرير الذين كانوا مصرين على رحيله فورا، إذ إن بقاء عمر سليمان مفوضًا عن مبارك كان يعنى أن النظام باق ولم يسقط، ولعله تجدر الإشارة إلى ثمة معلومة مهمة وهى أن مبارك ظل يرفض تعيين نائب له على خلفية نبوءة عرافة فرنسية حذرته من أنه سيغيب عن منصبه إذا عين نائبًا له، ومن المفارقات أنه رحل عن الحكم بعد أيام قليلة من تعيين عمر سليمان فى منصب النائب، مع ملاحظة «صدق المنجمون ولو صدقوا».
<<<
ورغم أن خطابه العاطفي الأخير الذى سبق التنحى والذى كان الورقة الأخيرة لديه لإنهاء الثورة وتحدث فيه عن أنه خدم مصر طوال ستين عامًا وأنه سيموت على أرضها ويُدفن فى ترابها وأن التاريخ سوف يحكم عليه بما له وما عليه.. رغم أن خطابه العاطفى قد أثار تعاطف بعض الثوار والمتظاهرين وانسحبوا بالفعل من الميدان بقدر ما أثار تعاطف كثير من المصريين من غير الشباب والمعتصمين فى ميدان التحرير، والذين أرادوا أن يكمّل مدته الرئاسية التى تنتهى بعد أشهر قليلة، إلا أن هذا الخطاب لم يفلح فى إنهاء الثورة والتخلى عن مطلب إسقاط النظام باعتباره جاء متأخرًا أيضًا.
لقد بدا واضحًا وفى الأسبوع الثانى من الثورة أن نظام مبارك فقد الرضاء والهيبة والشرعية والمشروعية بحسب تعبير محمد حسنين هيكل وقتها وهو المعروف بخصومته بل بعدائه لمبارك، ومن ثمَّ لم يعد هناك مفر من رحيله، وذلك ما تفهمه وأدركه مبارك فى اليوم الثامن عشر والأخير من اندلاع الثورة.
<<<
لكن لماذا لم يُعلن مبارك تنحيه بنفسه فى بيان يذيعه التليفزيون.. قياسًا على بيان تنحى الرئيس عبدالناصر بعد نكسة يونيو ١٩٦٧؟ وحيث أثار إعلان اللواء عمر سليمان تنحيه الكثير من التساؤلات، حقيقة الأمر أن مبارك كان قد غادر القاهرة إلى شرم الشيخ ولم يكن قد حسم أمر تنحيه، حتى أسفرت المشاورات مع المجلس العسكرى عن ضرورة التنحى وهو ما وافق عليه بالفعل من مقر إقامته فى شرم الشيخ، ونظرًا لضيق الوقت ومن ثمَّ ضرورة الإسراع بإعلان التنحى ومع صعوبة إرسال كاميرات التليفزيون إليه ليُلقى بيان تنحيه، فإنه وافق على صيغة البيان الذى يُلقيه اللواء عمر سليمان نيابة عنه وحيث طلب استبدال كلمة «تنحيه» بكلمة «تخليه» ثم اشترط عدم إذاعة البيان قبل مغادرة السيدة سوزان حرمه للقاهرة وتوجهها إلى شرم الشيخ، وذلك ما استجاب إليه المشير طنطاوى والمجلس الأعلى للقوات المسلحة.
<<<
بحسب رواية الدكتور حسام بدراوى فى لقاء تليفزيونى قبل أسبوعين فإن الرئيس مبارك كان قد وافق على اقتراحه بالمبادرة بالإعلان عن إجراء انتخابات رئاسية مبكرة فورًا وإرجاء التنحى لحين انتخاب رئيس جديد حيث اجتمع مع اللواء عمر سليمان للإعداد لهذا الإجراء المقترح وإعلانه، وبينما كان الدكتور بدراوى ينتظر انتهاء الاجتماع فى إحدى غرف قصر الاتحادية تم طرده من القصر- بحسب تعبيره- حيث طلب منه أحد ضباط الحرس الرئاسى المغادرة فورًا وعبثا حاول الوصول للدكتور زكريا عزمى رئيس ديوان الرئاسة فلم يتمكن وغادر القصر غاضبًا متعجبًا، حيث ألمح فى حديثه التليفزيونى إلى أن جمال نجل الرئيس رفض الاقتراح بشدة وأيده زكريا عزمى.
<<<
وبحسب رواية الدكتور بدراوى أيضًا فقد كان اللواء عمر سليمان مؤيدًا لاقتراحه، غير أن مبارك رضخ لضغط جمال وزكريا عزمى، بينما كانت الأمور قد خرجت عن السيطرة وسط اعتزام المتظاهرين القدوم من ميدان التحرير واقتحام قصر الاتحادية مما دفع المجلس الأعلى للقوات المسلحة إلى إقناع الرئيس مبارك بإعلان تنحيه عن السلطة.
ولذا فإن ما بين بيان التنحى مساء يوم الجمعة ١١ فبراير ٢٠١١ وبين ما جرى فى كواليس الرئاسة بقصر الاتحادية وما جرى فى المجلس الأعلى للقوات المسلحة الذى كان فى حالة انعقاد دائم، فإن ثمة حلقة مفقودة كشفها الدكتور حسام بدراوى لأول مرة.
<<<
إن الحقيقة المؤكدة التى غابت عن الرئيس مبارك بينما أدركها المصريون مبكرًا هى أن النظام فى السنوات الخمس الأخيرة كان آيلا للسقوط فى أى لحظة بعد ثلاثين عامًا أمضاها مبارك فى السلطة وهى مدة كبيرة جدا فى النظام الجمهورى جعلته يتماهى مع كرسى الحكم وحيث بدا له أنه لن يغادر منصبه حتى آخر يوم فى حياته.
<<<
لقد تعددت أسباب وعوامل سقوط النظام فى السنوات الخمس الأخيرة والتى كان من بينها سن الرئيس مبارك الكبيرة (٨٢ سنة) والتى لم تكن تتيح له بالضرورة ممارسة مهام منصبه على النحو المفترض وحيث تراخت قبضته عن إحكام سيطرته على كل شئون الحكم خاصة بعد موت حفيده المفاجئ، حيث لجأ إلى الاستعانة بنجله جمال فى إدارة شئون البلاد حسبما قال فى حوار صحفى مع رئيس تحرير الأهرام «إنه يساعدنى» وهو الأمر الذى أكد نيته فى توريث الحكم لابنه وهى النية التى تحولت إلي سيناريو جرى إعداده وتنفيذه على مرأى من المصريين جميعًا وحيث تعامل الوزراء مع جمال على أنه الرئيس القادم حسبما أكد الدكتور مصطفى الفقى وقتها فى لقاء تليفزيونى، ومن ثمَّ فقد تزايد نفوذ الوريث المرتقب بقوة فى المشهد السياسى وبدأ فى إلقاء التعليمات والأوامر على الوزراء والمسئولين إلى جانب سيطرته على شئون الحزب الوطني الحاكم من خلال رئاسته لأمانة السياسات التى تم استحداثها من أجل هذا الهدف، ولذا فإنه يمكن القول إن سيناريو التوريث كان القشة الأخيرة التى قصمت ظهر النظام.
<<<<
الخطير أيضا كان ظهور من عرفوا بالحرس الجديد وأصحاب الفكر الجديد فى الحزب الوطني وفى مقدمتهم أحمد عز أمين التنظيم وأنس الفقى وزير الإعلام المقرب من الرئيس والسيدة سوزان والذين التفوا حول جمال مبارك وحيث بدا أنهم رجاله بعد توليه الرئاسة وفقا للسيناريو المعتمد ولأنهم كانوا عديمى الخبرة السياسية والكفاءة وعلى درجة كبيرة من الغرور والعنجهية فإنهم كانوا من بين أهم أسباب وعوامل سقوط النظام.
ثم كان التزوير الفج لنتائج انتخابات آخر برلمان النظام والذى قام به أحمد عز بغباء سياسى منقطع النظير وإلى درجة حصول الحزب الوطني على ٩٨٪ من المقاعد.. آخر أهم أسباب الثورة وسقوط النظام.
ثمة حقيقة أخرى وهى أن أحدًا فى مصر كان يتوقع أن يتحول اعتصام بضعة آلاف من الشباب الأنقياء فى ميدان التحرير احتجاجًا على مقتل الشاب خالد سعيد على يدى الشرطة وحيث اختاروا يوم ٢٥ يناير تحديدًا لبدء الاعتصام باعتباره يوافق عيد الشرطة.. أن يتحول الاعتصام إلى اعتصام دائم ويتزايد أعداد المعتصمين ثم يتصاعد الغضب بفعل التعامل العنيف من جانب الشرطة مع هؤلاء الشباب ثم تنضم أعداد كبيرة أخرى من عموم المصريين ليتحول اعتصام الشباب ويتصاعد إلى ثورة حقيقية ارتفع سقف مطالبها إلى إسقاط النظام ورحيل مبارك.
بعد ١٣ عامًا من تنحى مبارك فإن حقيقة ما جرى فى ٢٥ يناير مازال خافيًا، إذ يبقى السؤال هل كانت ثورة شعبية بالفعل أم هى كانت مؤامرة داخلية وخارجية نفذتها أجهزة مخابرات أجنبية لإسقاط الدولة أو إسقاط مبارك فى سياق توجه أمريكى غربى لتمكين جماعة الإخوان من السلطة وفق تصور خاطئ بأنهم يمثلون الإسلام المعتدل في المنطقة وحيث امتدت المؤامرة تحت عنوان الربيع العربى لإسقاط أنظمة عربية أخرى، وذلك ما يفسِّر انضمام الإخوان إلى المعتصمين فى التحرير بعد أن كانوا أعلنوا رفضهم المشاركة، حيث تمكنوا من حشد أعضاء الجماعة بفعل قدراتهم التنظيمية وركوب الثورة وإحداث الفوضى والعنف قبل وبعد رحيل مبارك حتى وصلوا إلى حُكم مصر لمدة سنة واحدة تبدى خلالها فشلهم السياسى مثلما تبدى توجههم نحو إقصاء جميع القوى السياسية وأخونة الدولة.
<<<
بعد ١٣ عامًا من تنحى مبارك فإن دواعى الانصاف والموضوعية تقتضى الإشارة والتأكيد على أنه لم يكن فاسدًا وأن سنوات حكمه الثلاثين لم تكن كلها فسادًا باستثناء السنوات الخمس الأخيرة للأسباب والعوامل السابق ذكرها فى هذه السطور، ثم إنه كان وبحق رئيسًا وطنيًا مخلصًا مثلما كان قائدًا من قادة نصر أكتوبر وقد حافظ بحنكة سياسية على استقرار مصر وصان أمنها القومى وحافظ على سلامة أراضيها ورعى مصالح الشعب رعاية كامل التزامًا بالقسم الذى أقسمه.
<<<
من المفارقات أنه تنحى فى شهر فبراير وتوفى فى نفس الشهر عام ٢٠٢٠ وحيث تصادف رحيله عن السلطة فى نفس شهر رحيله عن الدنيا.
<<<
هذه السطور استدعتها ذكري تنحى مبارك فى مثل هذا اليوم منذ ١٣ عامًا، ويبقى الحكم له وعليه للتاريخ.