أسامة أيوب يكتب : الحرب الروسية الأوكرانية وإرهاصات نظام عالمي جديد
رغم مرور ما يقرب من عام كامل على اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية دون أن تلوح فى الأفق أى بوادر لإنهائها.. حسمًا عسكريًا أو حلا سياسيًا دبلوماسيًا عبر مفاوضات.. ترحب بها موسكو وترفضها كييف حتى الآن، فقد بدا واضحًا أن التحالف الغربى الأمريكى الأوروبى مُصمم على المضى قُدمًا فى إطالة أمد الحرب لاستنزاف روسيا تمامًا اقتصاديًا وعسكريًا.. مستهدفًا تركيعها حتى لا تبقى واحدة من أكبر القوى العالمية، وهُنا مكمن الخطر الذى يتهدد العالم بأسره.
لقد كان الاعتقاد السائد عندما اتخذ الرئيس الروسى فلاديمير بوتين قرار بدء ما أسماه العملية العسكرية فى أوكرانيا لضم مناطقها التى يعتبرها جزءًا من الأراضى الروسية وبهدف حماية الأمن القومى الروسى من التهديدات المرتقبة لحلف الناتو.. كان الاعتقاد ألا تستمر العملية أكثر من أسابيع قليلة إن لم يكن أسبوعين فقط فى بعض التوقعات.
غير أن ما جرى فى ميدان العمليات العسكرية جاء على العكس من التوقعات ومن الخطة الروسية ذاتها، إذ إنه رغم الانتصارات السريعة الأولى التى أحرزتها روسيا ورغم الإعلان عن ضم أربع مقاطعات بعد الاستفتاءات التى جرت بين سكانها، فإن الصمود الأوكرانى على ذلك النحو غير المتوقع بفعل الدعم العسكرى والمالى غير المحدود من جانب الغرب الامريكي الأوروبي المتحالف ضد روسيا كان السبب الحقيقي والوحيد فى إطالة الحرب حتى الآن بل إلى أجل غير مسمى.
...
واقع الأمر أن روسيا وإن لم تُحقق أهدافها بالكامل وحسم الحرب لصالحها تمامًا حتى الآن، إلا أنها فى نفس الوقت لم تنهزم ولاتزال توصل ضرباتها العسكرية ضد الأهداف الأوكرانية رغم خسائرها البشرية بعشرات الآلاف وخسائرها فى معداتها الحربية ورغم خسائرها الاقتصادية بسبب العقوبات الأمريكية والأوروبية، وهي الخسائر التى يستطيع الاقتصاد الروسي تحمُّلها مع تجنب تداعيات العقوبات.
...
وفى نفس الوقت وبحسابات المكسب والخسارة فإن أوكرانيا هى الخاسر الوحيد والأكبر جراء استمرار الحرب التى دمرت كثيراً من مناطقها وكثيراً من بنيتها التحتية وعلى النحو تسبب فى معاناة شديدة لمن بقيَّ من الشعب فى الداخل من انقطاع الكهرباء وتداعياته على نقص التدفئة فى هذا الشتاء، إضافة إلى الهلع والخوف أثناء القصف الروسي وما أسفر عنه من خسائر فى قواته المسلحة، مع ملاحظة أن أكثر من تسعة ملايين أوكرانى اضطروا إلى النزوح واللجوء إلى الدول المجاورة وقى مقدمتها بولندا، ومن ثمَّ فإنه يمكن القول إن الرئيس الأوكرانى زيليسنكى الذى يأتمر بأوامر واشنطن يضحى بشعبه وأوكرانيا ذاتها- التى لم تعد صالحة للحياة الطبيعية بعد انتهاء الحرب وتحتاج لمئات المليارات لإعادة إعمارها – على المذبح الغربى لخدمة الأهداف الأمريكية!
...
ثم إن ثمة خسائر أخرى داخلية تواجهها أوكرانيا فى مفاصل الدولة وبنيتها الوطنية والسياسية والعسكرية متمثلة فى تفشى الفساد بفعل فوضى بيع وتصدير الحبوب وغيرها، ثم بفعل الدعم العسكرى الغربى اللامحدود وتدفق الأسلحة والمعدات الحربية بغير حساب، وهو الأمر الذى كشفت عنه أكبر حركة تغييرات وإقالات واستقالات فى مناصب الدولة العليا فى مقدمتها نائب وزير الدفاع ونائب المدعى العام ونائب مدير مكتب الرئيس، إضافة إلى حكام خمس مقاطعات، ولعل أخطر فساد تواجهه أوكرانيا هو نها صارت أكبر سوق لتهريب الأسلحة وتلك كارثة أوكرانية وعقوبة للتحالف الأمريكى الأوروبى ومصدرًا لحصول الجماعات الإرهابية على السلاح.
وبحسابات المكسب والخسارة أيضًا فإن دول أوروبا التى ورطت أمريكا حكوماتها وجرتها تحت قيادتها إلى هذه الحرب هى التى تتكبد التكلفة الباهظة والأكبر فى دعم أوكرانيا ماليًأ وعسكريًا، بينما أمريكا ذاتها لا تتحمل إلا القليل حيث تنوب عنها أوروبا فى دفع تكاليف تحقيق هدفها، وفى نفس الوقت فإن الشعوب الأوروبية هى التى تدفع الثمن الأكبر جراء تردى الأوضاع المعيشية والاقتصادية بسبب التضخم وارتفاع أسعار المواد الغذائية والطاقة وغيرها، وحيث تحتشد المظاهرات فى العواصم حسبما شاهدنا فى لندن لمطالب فئوية تتعلق بزيادة المرتبات، وفى باريس اعتراضًا على قانون يمد سن التقاعد إلى 64 سنة.
...
الجديد المثير فى هذه الحرب هو ذلك الخلاف الذى دبّ بين الأوروبيين بسبب طلب الرئيس زيليسنكى الحصول على الدبابات الألمانية “ليوبارد” لمواجهة الهجمات الروسية، وحيث ظلت ألمانيا ترفض الاستجابة للمطلب الأوكرانى نظرا لأن هذه النوعية من الدبابات متطورة جدا تكنولوجيًا ومن ثمَّ فإنها تخشى من وقوعها فى أيدى الروس، لكنها وافقت مؤخرًا وقت كتابة هذه السطور على تسليم أوكرانيا عدد من هذه الدبابات وفى نفس الوقت سمحت لبولندا التى تمتلك نفس هذه النوعية بتسليم أوكرانيا عدد منها، وهو الأمر الذى أثار حفيظة موسكو التى اعتبرت ذلك تصعيدا ضدها بعد أن كانت قد أشادت برفض ألمانيا تسليم هذه الدبابات لأوكرانيا معتبرة أن ذلك يعنى أن ثمة أصواتا عاقلة فى الكتلة الأوروبية فى إشارة إلى ألمانيا.
وكان خلافا آخر قد حدث بين أمريكا وألمانيا بسبب طلب تسليم الدبابات لأوكرانيا بحسب طلب واشنطن، إذ إن برلين تعللت برفض تسليم الدبابات إلا بعد أن تقوم أمريكا بتسليم أوكرانيا دفعة من الدبابات الأمريكية “أبرامز” والتى تفضّل أوكرانيا الدبابات الألمانية باعتبارها أكثر تطرًأ وأقل تكلفة من حيث الطاقة المستخدمة، ورغم أن واشنطن أبدت مؤخرا استعدادها لتسليم الدبابات “أبرامز” لأوكرانيا إلا أنها لاتزال حتى كتابة هذه السطور تتحفظ فى الإعلان عن ذلك رسميًا.
...
يبقى فى كل الأحوال أن استمرار تدفق الدعم المالى والعسكري اللامحدود لأوكرانيا وبما يعنى انخراط التحالف الأمريكى الأوروبى فى الحرب يؤكد أن هذه الحرب ليست حربًا روسية أوكرانية ولكنها فى الحقيقة حرب شبه عالمية يشنها الغرب ضد روسيا بحسب وصف موسكو، وهو أمر من شأنه أن روسيا تواجه خطرًا داهمًا يهدّد أمنها القومى بل وجودها، ومن ثمَّ فإنها إذا ما تعرضت للهزيمة فى هذه الحرب غير المتكافئة مع حلف الناتو والغرب كله فإنها ستلجأ بحسب تحذيرات ميدفيديف الرجل الثانى فى موسكو إلى استخدام السلاح النووى كخيار أخير ووقتها ستكون بصدد حرب عالمية نووية تُدمر البشرية والكوكب، غير أنه مع امتلاك الطرفين للسلاح النووى كرادع تظل هذه الحرب النووية أمرًا مستبعدًا.
...
رغم أن أمريكا تستهدف القضاء على قوة روسيا وإخراجها من المعادلة العالمية ثم تتفرغ للصين منافسها الاقتصادى الأكبر حتى تتفرد بإدارة العالم وتظل القطب الأوحد، إلا أن الأمر المؤكد هو أن نظامًا عالميًا جديدًا متعدد الأقطاب سوف يتشكل بعد انتهاء الحرب الدائرة فى أوكرانيا أو بالأحرى الحرب شبه العالمية، وهو النظام العالمى الذى تبدى إرهاصاته بالنظر إلى الصين المتحفّزة لتكون أحد الأقطاب وبالنظر أيضًا إلى روسيا التى ستظل قوة عالمية حتى بعد انتهاء الحرب، وحيث سيكون عالم ما قبل الحرب غير العالم بعد الحرب.