أسامة أيوب يكتب : فى صالون أنيس منصور.. كانت لنا أيام
على شاشة قناة «ماسبيرو زمان» التي تعيدنا ونستعيد معها ذكريات زمن جميل استوقفتنى حلقة قديمة بعنوان «فى صالون أنيس منصور» من تقديم المذيعة حنان منصور.. واحدة من أكفأ مذيعات جيل الوسط في التليفزيون المصري والتي أحسنت إدارة الحوار مع صاحب الصالون وضيوفه الذين اختارهم للحضور معه في البرنامج.. الشاعر فاروق جويدة والكاتبة إقبال بركة واللواء محمد فريد حجاج من قيادات القوات المسلحة وأحسبه شقيق زوجته ومحمد المسرى صاحب شركة سياحة وبلديات الأستاذ أنيس كما قدمه.
بهذه الصحبة المتنوعة من المشاركين في هذا الصالون التليفزيونى دار الحوار علي نحو بالغ التشويق بفعل حضور أنيس منصور الطاغى.. متحدثًا وحكاءً وأديبًا ومفكرًا وفيلسوفًا، وقد كان موضوع البرنامج وفكرته وعنوانه كصالون أدبى مناسبة لفتح مناقشة حول الصالونات الأدبية والثقافية وربما السياسية في زمن مضى.. صالون العقاد الأشهر.. نموذجًا متميزًا، وكان السؤال: لماذا اختفت هذه الصالونات بعد ذلك؟
وكان ضروريًا أن يتطرق الحديث إلى صالون العقاد خاصة أن أنيس منصور الذى كان تلميذًا له وضيفًا حاضرًا دائمًا فى ذلك الصالون قد وثّق وسجّل ما كان يجرى فيه من حوارات ومناقشات بين العقاد وتلاميذه وأدباء تلك الفترة وكذلك آراء وتعليقات العقاد الصارخة والصادمة أحيانًا.
<<<
عن هذا الصالون وتلك الحقبة بالغة الثراء الفكرى والأدبى والثقافى أصدر أنيس منصور أشهر مؤلفاته بعنوان «فى صالون العقاد كانت لنا أيام» وهو الكتاب الذى لم يكن فقط توثيقًا لمحاورات العقاد وتلاميذه بقدر ما كان أيضًا توصيفًا ورصدًا مفصلا للحياة الثقافية والفكرية والاجتماعية في خمسينيات القرن الماضى، ولدرجة أن الرئيس السادات الذى لم يكن شغوفًا بقراءة الكتب حرص على قراءة الكتاب كاملا وحسبما قال لنا الأستاذ أنيس إن السادات اندهش كثيرًا، لأنه لم يكن قد اطلَّعَ على مجريات تلك الحقبة كما وثقها الكتاب بحكم انشغاله وقتها بالأمور العامة والسياسية قبل ٢٣ يوليو ١٩٥٢.
ورغم الأعداد الكبيرة من تلاميذ العقاد وأدباء تلك الحقبة الذين حضروا الصالون، فإن أنيس منصور وكما حرص أن يؤكد فى تلك الحلقة التليفزيونية هو الوحيد الذى وثق ذلك الصالون، وهو الأمر الذى يؤكد تفسيره في تقديرى كصحفى عاصره في مجلة أكتوبر بأنه يعكس شغفه الشديد بالفكر والأدب والثقافة بقدر ما يعكس في نفس الوقت امتلاكه لذاكرة حديدية جعلته يستعيد بسهولة ودقة كل ما جرى فى صالون العقاد رغم مرور سنوات طويلة.
وفي هذا السياق من الشغف الثقافي الأدبى من الجدير بالذكر أن أنيس منصور كتب سلسلة مقالات.. أحسبه أصدرها في كتاب عن صاحبة أشهر الصالونات الأدبية وهى الأديبة الشامية مى زيادة بعنوان «مى زيادة عن اللزوم» وإن لم يكتب عن الصالون ذاته الذى لم يعاصره.
ورغم اتفاق ضيوف الصالون على أن السبب في تراجع واختفاء الصالونات الأدبية هو التطور الهائل في وسائل الاتصال والإعلام التليفزيونى والتى صارت بديلا عصريا للصالون الأدبى، وحيث أوضح الشاعر فاروق جويدة واتفق معه الضيوف أن البرنامج الذى يتحدثون فيه بعنوان «صالون أنيس منصور» هو بمثابة صالون أدبى وفكرى أيضًا بل إنه يحظى بانتشار أوسع، حيث يشاهده الملايين بينما كانت الصالونات الأدبية زمان قاصرة على الحضور فقط وبأعداد لا تتجاوز العشرات في أقصى تقدير.
<<<
وبالحديث عن فكرة الصالون الأدبى التليفزيونى تطرق الحوار إلي تلك الحلقة الأشهر من البرنامج التليفزيونى «نجمك المفضل» الذى كانت تقدمه المذيعة ليلى رستم والتي أعدها وحضرها أنيس منصور وحيث كان النجم هو الدكتور طه حسين مع نخبة من الأدباء والفلاسفة والشعراء الذين كانوا يعتبرون أنفسهم تلامذته، وقد أجمع ضيوف صالون أنيس منصور أن تلك الحلقة التليفزيونية الفريدة من نوعها يمكن أن توصف بأنها صالون طه حسين حتى وإن كانت مذاعة على شاشة التليفزيون.
وعن تلك الحلقة التليفزيونية الفريدة تحدث أنيس منصور وكشف الكثير من طرائف كواليسها سواء عند اتفاقه مع طه حسين قبل التسجيل ثم بعد التسجيل، حيث ذكر أن طه حسين سأله عن الأجر الذى تقاضاه العقاد مقابل تسجيله للتليفزيون، ولما أخبره بأنه كان «٢٠٠ جنيه» أصر طه حسين على الحصول علي نفس الأجر قبل التسجيل وهو الأمر الذى تطلّب موافقة الدكتور عبدالقادر حاتم وزير الإعلام وقتها، ثم طرأت مشكلة أخرى عند استلام السيدة سوزان زوجة طه حسين للمبلغ، حيث اتضح أنه ١٩٠ جنيها فقط ولم يبدأ التسجيل إلا بعد اكتمال المبلغ!
ومن الكواليس أيضًا أن السيدة سوزان طه حسين أبدت مخاوفها من إفساد سجاجيد البيت وأعداد الضيوف والذين لم تكن تعرف شخصياتهم وأخبرها أنيس منصور أنهم عمال التليفزيون، ثم إن طه حسين ظل يكرر لأنيس منصور يا أستاذ أنيس لا تضغط بالبيت!
ولأنه كان من المعروف عن ليلى رستم جرأتها فى الحوار مع الضيوف وتعليقاتها الحادة والساخرة أحيانًا، فقد ذكر أنيس منصور أنه نبهها وحذرها بشدة من هذا الأداء مع طه حسين وعليها أن تتذكر جيدًا أنه عميد الأدب العربى وعليها احترام تلك المكانة أثناء الحوار.
<<<
بهذا الحديث عن كواليس حلقة «نجمك المفضل» والتي اعتبرها الضيوف بمثابة صالون طه حسين.. اختلف أنيس منصور معهم على اعتبار مثل هذه الحلقات التليفزيونية «صالون أدبى» إذ إنها تفتقد إلي الاتصال الشخصي على العكس تمامًا من الصالون الحقيقى، غير أنه أقر فى نفس الوقت بصعوبة عقد أى صالون أدبى فى الوقت الراهن مثلما كان يحدث فى الزمن الماضى بالنظر إلى الأسباب والاعتبارات التى ذكرها الشاعر فاروق جديدة وبقية الضيوف.
< < <
لقد أمضيت أكثر من ساعة فى التحليق مع أنيس منصور وحديثه الشيق وعباراته الرشيقة وحكاياته عن أسفاره المتعددة بما فيها من مشاهد ومشاهدات صورها كأننا نراها، فكانت الحلقة أشبه بصالون فكرى وأدبى حتى لو كان على شاشة التليفزيون.
ورغم أن كل ما ذكره أنيس منصور سواء عن صالون العقاد أو كواليس حلقة طه حسين لم يكن جديدًا بالنسبة لى إذ سبق أن سمعته منه شخصيًا مع غيرى من الصحفيين فى مجلة أكتوبر طوال ثمانى سنوات، إلا أننى أعترف بأنى كنت مستمتعًا للغاية وأنا أستمع إليه مجددًا وللمرة الثانية عبر شاشة التليفزيون.
< < <
لقد وجدتنى بعد مشاهدة تلك الحلقة التليفزيونية أستعيد ذكريات تلك السنوات التى عاصرنا فيها أنيس منصور رئيس تحرير مجلة أكتوبر، حيث كنا؛ نحن الصحفيين الشباب في منتصف السبعينيات؛ حاضرين يوميًا فيما يمكن وصفه وبحق صالون أنيس منصور الدائم سواء في اجتماعات التحرير الأسبوعية واليومية أحيانًا وفى اللقاءات في مكتبه أو فى أحد المكاتب بل فى طرقات المجلة أيضًا.
وأحسب أننا كنا محظوظين بهذا الصالون اليومى الدائم والمتحرك وحيث اكتشفت بعد مرور تلك السنوات أن عملنا الصحفي تحت رئاسته وقيادته المهنية الرشيدة المتميزة كان حضورا بالغ الأثر فى صالون لم نكن نُدرك ولا هو يُدرك أو يقصد في أحد أهم وأكبر صالون صحفى وأدبى وفكرى وسياسى وثقافى وفلسفي في الحياة الصحفية فى تلك الفترة.
مع أنيس منصور كنا نحلّق معه ويحلّق بنا في آفاق المعرفة والفكر والأدب والفلسفة والصحافة بالضرورة خاصة صحافة المجلات التى تختلف كثيرًا ونوعيًا عن الصحافة اليومية، والتى كان أنيس منصور لا يشق له غبار في إصدارها وإدارتها وحيث وُلدت مجلة «أكتوبر» على يديه عملاقة من العدد الأول حتى صارت أهم مجلة سياسية في العالم العربى وطوال رئاسته لتحريرها.
<<<
ولعله لا مفر من الاعتراف والإقرار بأنى وجيلى من الصحفيين الذين عملوا تحت رئاسته فى مجلة «أكتوبر» كنا ومازلنا وسنظل مسكونين بأنيس منصور.. تلك الشخصية الفذة الموسوعية المتفردة بعد أن أمضينا معه ثمانى سنوات مبهورين مأخوذين بحضوره الطاغى صحفيا ومفكرا وأديبا.. متحدثًا وحكاءً وكاتبًا فى كافة فروع المعرفة بفعل قراءاته المتعددة الواسعة إذ كان يقرأ فى كل شىء وعن أى شىء، ومنذ شبابه المبكر، وحسبما كان يقول لنا إنه قرأ فى أشهر الصيف في إحدى السنوات الدراسية كل الكتب الموجودة فى مكتبة المنصورة، وكان يقول لنا إنه ليس له أى اهتمام سوى القراءة والكتابة، ولذا فإنه مثلما كانت القراءة الموسوعية هوايته الأولى واهتمامه الأكبر، فقد كانت الكتابة حرفته المتميزة المتفردة.
تفرّد أنيس منصور وموسوعيته الفكرية والثقافية والفلسفية كانت تتبدى لنا حين يتحدث وحين لا يملك من يستمع إليه سوى الإصغاء والاستماع حتى لو ظل يتحدث لساعات، ثم إنه له تفرُّد آخر حيث اكتشفت بطول المعايشة أنه يكتب مثلما يتحدث تمامًا.. بنفس الأسلوب وبنفس المفردات، فكان حديثه مقالا وكانت مقالته حديثا، وهو ملمح يعكس قدرته الفائقة على ترتيب أفكاره الحاضرة فى ذهنه حضورًا متفردًا.
< < <
ملمح آخر فى شخصية أنيس منصور وهو أن حفظه للقرآن الكريم منذ طفولته انعكس بدرجة كبيرة ووضوح شديد على أسلوبه فى الكتابة الصحفية أو الأدبية متمثلا في استشهاداته بآيات القرآن وبالأحاديث النبوية الشريفة حتى في أحاديثه معنا ومع غيرنا.
وأذكر أننى كتبت تقريرًا سياسيًا عن الأوضاع فى اليمن الجنوبى الذى كان يعرف إعلاميا بـ«عدن» قبل اندماجه مع اليمن الشمالى «صنعاء» وحيث كانت «عدن» تحت حكم شمولى يمارس التعذيب ضد المعارضين، وقد أذهلنى أنيس منصور عندما غيَّر عنواني التقليدى وكتب بخط يده ذلك العنوان العبقرى «عدن تجرى من تحتها أنهار الدم»، فكان عنوانًا يعكس ثقافته القرآنية بقدر ما يعكس براعته المتفردة الدائمة في كتابة العناوين والتي أشهد ويشهد الصحفيون أنه لا يجاريه فيها أحد، ولقد كان عنوان كتابه عن أول رحلة عمرة قام بها «طلع البدر علينا».. نموذجًا ومثالا يؤكد نفس المعنى.
<< <
إن استعادة واستدعاء الذكريات مع أنيس منصور طوال ثمانى سنوات تتطلب بالضرورة صفحات مطولة، وقد كانت هذه السطور إطلالة سريعة على الكاتب الصحفي والأديب والمفكر والفيلسوف وأفضل من ترأس تحرير مجلة فى العالم العربى.
< < <
مستعيرًا عنوان كتابه «عن صالون العقاد» أقول ونحن فى مجلة «أكتوبر» فى صالون أنيس منصور كانت لنا أيام.