أسامة أيوب يكتب : بفعل مؤامرة الفوضى الخلاقة والشرق الأوسط الجديد
العرب من أحلام الوحدة إلى هواجس تفتيت الدولة الواحدة
من المتواتر في أدبيات السياسة الشرق أوسطية نقلا عن الصهيوني المتطرف موشى ديان: إن العرب لا يقرأون وإذا قروا لا يفهمون، ولأن العرب أصحاب إبداع فكرى وثقافى مشهود، فإن المقصود هو القراءة السياسية والفهم الاستراتيجى للمخاطر المحدقة والتحرك الجاد لتجنبها، وسواء كان ديان قد قال هذه العبارة أم لا، إلا أنه يبقي أن التوصيف صحيح وبكل أسف ودون أن يكون ذلك جلدًا للذات، حتى وإن كان قد صدر عن أعداء العرب.
هذا التوصيف التحليلي المؤسف ظل ماثلا في الذاكرة طوال سنوات كثيرة مضت عبر عقود من الزمن من تاريخنا الحديث، حيث أكدت الأحداث المفزعة والتطورات المتلاحقة صحته حسبما تبدى ويتبدى في الواقع العربى، إذ إن قراءة المشهد السياسى بوجه عام وفي أقطار عربية بعينها بوجه خاص تثير الأحزان والمخاوف على الحاضر بقدر ما تثير القلق البالغ والمفزع علي مستقبل الأمة العربية كلها في الإقليم وفي العالم.
إن العرب لم يتوقفوا مليًا حتى أمام وصف الأعداء لهم بأنهم لا يقرأون لدرجة أنهم لم يقرأوا أو يفهموا التوصيف ذاته، ومن ثمَّ فقد غفلوا عن القراءة الواعية للمؤامرة الصهيونية الأمريكية التي كشفت عنها علي الملأ وبكل الوضوح كونداليزا رايس وزيرة الخارجية الأمريكية في عهد جورج بوش الابن عندما تحدثت عن أحداث ما أسمتها الفوضي الخلاقة في المنطقة العربية رغم ما انطوت عليه من تناقض فج بين الفوضى والاضطراب وانهيار مؤسسات الدولة وبين البناء.
ولم تمض سنوات قليلة حتى كان سيناريو تلك الفوضى الخلاقة «الهدامة» قد جرى تنفيذه فى أقطار عربية وبأيدى أبنائها بكل أسف، حيث انزلقت تلك الأقطار إلى الوقوع فى فخ المؤامرة في غيبة القراءة والفهم لما جرى من تأجيج الصراعات الأيديولوجية والطائفية والعرقية والجهوية بين أبناء البلد الواحد.
<<<
وبالتوازى مع أحداث سيناريو «الفوضى الخلاقة» بل استبقها شمعون بيريس بدعوته الصهيونية التآمرية لإقامة ما أسماه الشرق الأوسط الجديد أو الكبير، ولم يكن خافيًا ذلك الارتباط الوثيق بين المؤامرتين، إذ إن المقصود بدعوة بيريس هو دمج إسرائيل في المنطقة العربية تحت اسم الشرق الأوسط الجديد وهو أمر لا يتحقق إلا بإضعاف الدول العربية عبر الفوضي ومن ثمَّ الإجهاز علي المشروع القومى العربى حتى يتسيد الكيان الصهيونى على المنطقة.
المثير للدهشة والأسف معًا أن العرب المستهدفين بالمؤامرة هم الذين نفذوا حرفيًا سيناريو الفوضى الخلاقة في أقطار عربية بداية من الدولتين المحوريتين فى المشرق.. سوريا والعراق ثم اليمن وليبيا ولبنان والسودان مع ملاحظة ما جرى ويجرى في الصومال بموقعه الاستراتيجى والمهم عربيًا رغم الإغفال غير المبرر لهذا البلد العربى الأفريقى، ولاتزال دول عربية أخرى مهددة بنفس المصير وبالفوضي، ومن ثمَّ يمكن القول إن المنطقة العربية تشهد إرهاصات الشرق الأوسط الجديد على أنقاض النظام العربى الذى أصابه الترهل والتشرذم وحيث باتت منظمة الجامعة العربية تكاد تكون نصبًا تذكاريًا متحفيًا للمشروع القومى العربى المنهار.
<<<
لقد كان أحلام المشروع القومى والوحدة الشاملة هى السائدة بين شعو بالعالم العربى عندما كانت غالبية أقطاره ترزح تحت الاحتلال الأجنبى، ثم صارت أقرب إلى التحقيق مع توالى استقلال تلك الأقطار وبعد امتلاك الأمة العربية للثروات النفطية الهائلة منذ سبعينيات القرن الماضى مضافًا إليها الثروات البشرية والعلمية، غير الذى حدث أن تراجعت تلك الأحلام وتبددت علي واقع الخلافات والفرقة والصراعات البينية وبفعل الانكفاء القطرى، ولذا تحولت أحلام الوحدة إلى هواجس تفتيت وتقسيم كل قطر حتى تحولت الهواجس إلى واقع مؤسف حسبما شهدنا ونشهد، وحيث باتت الدولة الوطنية مهددة بالسقوط الوشيك إن لم تسقط بالفعل عمليا فى أقطار بعينها.
<<<
لقد نجح سيناريو مؤامرة «الفوضى الخلاقة» عبر الصراعات الطائفية والعرقية والمذهبية والأيديولوجية بل الجهوية أيضًا وحيث انزلقت أقطار عربية إلى نفق مظلم لا يبدو ضوء فى آخره، ولعل الخطير في تلك الصراعات الداخلية والتى تحولت إلى احتراب أهلي مروع هو التدخلات الإقليمية على خلفيات دينية مذهبية والدولية في حروب بالوكالة، وحيث توزعت ولاءات الأطراف المتحاربة والمتصارعة بين تلك القوى الإقليمية والدولية.
< <<
وفي هذا الصدد تبدو سوريا نموذجًا صارخًا «للفوضي الخلاقة» والصراعات المذهبية العرقية وكذلك للتدخلات الإقليمية والدولية، وحيث أسفرت الأزمة عن نزوح ولجوء نحو نصف السوريين، وكذلك يبدو العراق نموذجاً آخر والذى بدأت أزمته منذ الغزو الأمريكى البريطانى وما جرى بعد ذلك من انهيار الجيش والقضاء على قوة العراق العسكرية وإخراجه من المعادلة الاستراتيجية العربية، وحيث لايزال العراق عاجزًا حتى الآن وبعد عقدين من الزمن عن استعادة الدولة ومؤسساتها التى يضرب الفساد المستشرى أوصالها.
< <<
ومن المثير بالفعل أن الصراع الطائفي في العراق لم يعد بين طائفة وأخرى.. بين السُنَّة والشيعة والأكراد، بل إنه صار صراعًا أشد عنفًا داخل كل طائفة.. حسبما يحدث حاليًا بين تيار الشيعة الصدرى ذي التوجه الوطنى العربى وبين تيار الشيعة الإيرانى ذي التبعية لطهران، وحسبما نشهد بين حزبى طائفة الأكراد اللذين فشلا فى الاتفاق حتي كتابة هذه السطور علي تسمية رئيس الجمهورية وهو المنصب المخصص للأكراد وفقًا للتقسيم الدستوري الذى ينص علي أن يكون رئيس الجمهورية كرديًا ورئيس البرلمان سُنيًا ورئيس الوزراء شيعيا، وهكذا أوصل الصراع الطائفي و«الفوضي الخلاقة» العراق إلى نفق مسدود منذ أكثر من عام.
<<<
وفي ليبيا التي غابت فيها الدولة الواحدة بفعل الاحتراب الأهلى والصراع الجهوى بين جناحيها الشرقى والغربى، وحيث توجد حكومتان.. واحدة في طرابلس العاصمة في الغرب منتهية الولاية ولاتزال تحكم قبضتها علي العاصمة والثانية منتخبة من البرلمان عاجزة عن دخول العاصمة، وحيث توزعت ولاءات الجناحين الشرقى والغربى بين قوى إقليمية ودولية، وفي هذا الواقع المؤسف فإنه من غير الممكن توقع حل الأزمة وتوحيد الدولة في المدى القريب، وتظل ليبيا مقسَّمة مفتتة عمليًا ومهددة بالتقسيم في المستقبل.. سبيلا لإنهاء الصراع.
<<<
أما اليمن الذى كان يُوصف في زمن مضى بالسعيد، فقد صار تعيسًا بائسًا خارج التاريخ فعليًا بفعل الاحتراب الأهلي الذى قسَّم الدولة حتى أسقطها وحيث بات الشعب يعيش تحت أسوأ أوضاع معيشية وأمنية وصحية كارثية، ولعله ليس سرًا أن الحرب الأهلية في اليمن هي حرب بالوكالة بين أطراف إقليمية في المنطقة، وهو الأمر الذى يعنى أن إنهاء الحرب لن يتم إلا عبر تسويات سياسية بين الأطراف الإقليمية المتحاربة والمتصارعة على النفوذ علي أرض اليمن، وهو أمر لايزال مستبعدًا في الوقت القريب وفي ضوء الظروف الدولية الراهنة، لكن يبقي أن الدولة في اليمن قد سقطت وحتى إشعار آخر.
وفي لبنان الذى يعيش شعبه منذ سنوات حالة غير مسبوقة من الانهيار السياسى والاقتصادى والأمنى والاجتماعي بفعل احتكار الطبقة السياسية للحكم وتناوب السلطة بين طوائفها المختلفة والتي يتهمها جميعا اللبنانيون بالفساد، ثم بفعل الصراعات والخلافات الطائفية والمذهبية، والأهم والأخطر بفعل حزب الله التابع لإيران والذى بات دولة داخل الدولة بل أقوى من الدولة ذاتها والذى تسبب بولائه الأعمى لإيران في إساءة العلاقة بين لبنان ودول الخليج العربية والتي رفعت يدها عن دعم لبنان.
وطوال سنوات ظل لبنان يدور في حلقة مفرغة ما بين الأزمة السياسية والاقتصادية من جهة والأمنية من جهة أخرى، وقد كان انفجار مرفأ بيروت المروع الذى راح ضحيته المئات من اللبنانيين تجسيدًا للأزمة اللبنانية في أوضح مظاهرها، وحيث مازال المسئول عن الانفجار مجهولا حتى الآن بعد أن فشلت الدولة اللبنانية في إنجاز تحقيق يكشف حقيقة وأسباب ذلك الانفجار.
تراجع حضور الدولة ومؤسساتها أوصل لبنان إلي حافة الإفلاس والمجاعة مع انهيار قيمة الليرة إلى مستويات غير مسبوقة، وحيث يعانى اللبنانيون من تردى الخدمات علي اختلافها بداية من انقطاع الكهرباء والارتفاع المفجع في أسعار الوقود، حتى وصل الأمر إلى أزمة طاحنة فى رغيف الخبز.
ولقد كانت أحداث اقتحام البنوك اللبنانية من جانب بعض المودعين لاسترداد ودائعهم بالقوة هى ذروة التعبير عن الأزمة اللبنانية بعد عجز البنوك عن إيجاد سيولة لصرف أموال اللبنانيين المودعة لديها، وهو أمر له دلالته المفزعة بشأن حاضر لبنان ومستقبله الغامض خاصة في ضوء فشل البرلمان في انتخاب رئيس جديد للجمهورية خلفا لميشيل عون المنتهية ولايته بقدر الفشل في نفس الوقت في التوافق علي رئيس حكومة جديد، ويبقى لبنان مرشحًا لمزيد من الفوضى بحسب المؤامرة الأمريكية الصهيونية وبفعل الطبقة السياسية وصراعاتها الطائفية والتدخلات الإقليمية والدولية.
<><<
وفى السودان الذي شهد قبل أكثر من عقد انفصال جنوبه عن الدولة، فإن قراءة المشهد السياسى والاقتصادى والأمنى المأزوم سواء فى المركز أو في مناطق الهامش تشير إلى احتمالات المزيد من الانفصالات، وحيث لايزال السودان مرشحًا لمزيد من الاضطرابات وعدم الاستقرار رغم المحاولات الجارية حاليًا من جانب بعض الأحزاب والقوى السياسية للتوصل إلى تسويات سياسية ودستورية لإنهاء الفوضى الراهنة في المرحلة الانتقالية والانتقال إلى وضع سياسى مستقر.
< <<
فى كل ما جرى ويجرى من صراعات طائفية واحتراب أهلى داخل القُطر العربى الواحد، فإنه لا يخفي الدور الذى تلعبه قوى إقليمية ودولية، حيث الحضور الإيرانى الطاغى والمتحكم فى السياسة الخارجية والداخلية في أربع عواصم عربية.. دمشق وبغداد وصنعاء وبيروت، وحيث الحضور التركى والروسى والأمريكى والفرنسى والإيطالي فى ليبيا بجناحيها الشرقي والغربى وفي نفس الوقت لا يخفي الدور الصهيونى التآمرى خاصة فى دول الجوار.. سوريا ولبنان والعراق.
<<<
إن حاصل جمع تلك الصراعات والحروب الأهلية والفوضى وبوادر التقسيم والتفتت داخل الدولة في تلك الأقطار قد انعكس وكان من المؤكد أن ينعكس على قوة ومتانة النظام العربي في مجمله، وحيث لم تستطع الأمة العربية التي جرى تصنيفها في أعقاب نصر أكتوبر ١٩٧٣ بأنها القوة السادسة في العالم بحسبانها تمتلك كل مقومات ومعايير القوة علي اختلافها.. لم تستطع أن تحافظ على هذه المكانة وذلك الترتيب المتقدم بين القوى العالمية، بل لقد كان من الممكن أن تعلو فوق هذه المكانة العالمية إن هى أحسنت إدارة مواردها وثرواتها وسياساتها الخارجية والداخلية عبر صياغة آليات تكامل وتعاون مشترك وتنسيق المواقف وتوحيدها، وفي نفس الوقت حل النزاعات والصراعات الداخلية في كل قُطر عربيا بدلا من تدويلها وتداولها خارج المنظومة العربية، وهو الأمر الذى كان من شأنه إجهاض مؤامرات «الفوضى الخلاقة» والشرق الأوسط الجديد.
<<<
في هذا الواقع العربي المؤسف.. تراجعت القضية الفلسطينية إلى هامش الاهتمامات العربية، بينما يواجه الشعب الفلسطينى أبشع وأقسى مظاهر القمع الصهيونى الوحش، وحيث تراجعت بل تكاد تتلاشى أى فرصة للحل والتوصل إلى إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة على حدود الرابع من يونيو ١٩٦٧ وعاصمتها القدس الشرقية خاصة بعد التوسع الاستيطانى الفج الذى يلتهم يومًا بعد يوم الأراضى الفلسطينية بحيث لم يبق منها خارج الاحتلال الإسرائيلى سوى نقاط متناثرة غير مترابطة غير صالحة لإقامة دولة بافتراض التوصل إلى إقامتها بالفعل، وهو الأمر الذى قد يُسفر عن موت قضية فلسطين وضياع حقوق شعبها على مرأى ومسمع من المجتمع الدولي والقانون الدولي والمنظمة الأممية، بينما العرب غافلون.
<<<
فى واقع الأمر.. لقد تحققت مؤامرة «الفوضي الخلاقة» وجرى تنفيذ السيناريو كما أعده المتآمرون تماما فى عدة أقطار عربية وبأيدى أبنائها الذين خربوا ويخرِّبون أوطانهم بأيديهم وعلي مرأى ومسمع من العرب جميعًا، بينما بدا سيناريو الشرق الأوسط الجديد الصهيونى جاهزًا للتنفيذ، وهكذا تحولت أحلام الوحدة العربية الشاملة إلى هواجس تقسيم وتفتيت الدولة الواحدة بل تكاد الهواجس أن تصير واقعًا ملموسا على الأرض، فهل يفيق العرب قبل فوات الأوان.. سؤال قد تطول الإجابة عنه أو لعله يبقى بلا إجابة!