أسامة أيوب يكتب : ريشى سوناك.. أوباما بريطانيا.. فى مواجهة التحديات الصعبة
بانتخابه زعيما لحزب المحافظين قبل أسبوع وبتكليف الملك تشارلز الثالث له رسميًا بتشكيل الحكومة الجديدة يوم الثلاثاء الماضى وقت كتابة هذه السطور فإن ريشي سوناك يكون أول رئيس حكومة ملون من أصول هندية فى التاريخ البريطانى، وهو أمر له دلالته المهمة التى تعنى تحولا سياسيا واجتماعيا ليس فى بريطانيا فقط ولكن فى أوروبا كلها.
وإذا كان استقبال الملك تشارلز لزعيم حزب المحافظين الجديد لتكليفه رسميًا برئاسة الحكومة الجديدة هو أول ممارسة رسمية لمهامه الملكية الدستورية منذ اعتلائه العرش البريطانى خلفًا لوالدته الملكة اليزابيث الثانية التى توفيت قبل أسابيع؛ فإنه من المفارقات أن آخر ظهور للملكة كان عند استقبالها ليز تراس لتكليفها برئاسة حكومة جديدة خلفًا لحكومة بوريس جونسون المستقيل، وبعد يوم واحد تم الإعلان عن وفاتها، ومن المعلوم أن ليز تراس اسمها الحقيقى هو اليزابيث والذى اختزلته إلى «ليز» حتى لا يتصادم مع اسم الملكة.
المثير أن سوناك الذى كان يشغل منصب وزير المالية فى حكومة جونسون واستقال اعتراضا على أدائه كان الأوفر حظًا فى الفوز بزعامة حزب المحافظين بعد اضطرار جونسون إلى الاستقالة فى مواجهة منافسته ليز تراس حتى اليوم السابق على التصويت وذلك وفقًا للمعايير الموضوعية ولمصلحة الحزب ذاته باعتباره الأكثر كفاءة بالنظر إلى خبرته الاقتصادية الكبيرة التي يحظى بها، غير أن الجناح الأكثر يمينية فى الحزب هو الذى رجحّ كفة ليز تراس في اللحظات الأخيرة لأسباب واعتبارات عنصرية، حيث رفض هذا الجناح إسناد زعامته ورئاسة الحكومة لشخص ملون من أصول هندية ينحدر من أبوين مهاجرين، وهو الأمر الذى أشرت إليه فى مقال سابق غداة تكليف ليز تراس برئاسة الحكومة.
<<<
ليز تراس التي تعد ثالث امرأة ترأس الحكومة البريطانية بعد ليزا ماى ومارجريت تاتشر مع ملاحظة أنه من غير الممكن مقارنتها بـ«تاتشر» على الإطلاق.. كانت كل التوقعات منذ الأسبوع الأول لتوليها منصبها ترجح بل تؤكد فشلها وإن لم يكن بهذه السرعة، إذ لم تستمر في منصبها سوى ٤٤ يومًا فقط واضطرت إلى تقديم استقالتها بعد أداء مرتبك وأخطاء اقتصادية أغضبت البريطانيين بقدر ما أحرجت حزب المحافظين ذاته أمام ناخبيه والمعارضة على حد سواد، وهي بذلك قد حققت رقمًا قياسيًا غير مسبوق في التاريخ السياسى البريطانى لأقصر حكومة عمرًآ لم تستمر سوى ستة أسابيع.
< <<
لذا فقد جاء انتخاب ريشى سوناك زعيما لحزب المحافظين ومن ثمَّ توليه رئاسة الحكومة تصحيحا استراتيجيًا لخطأ وقع فيه الحزب باعتبار أن فشل «ليز تراس» والأخطاء التى ارتكبتها خلال أيام قليلة من رئاستها للحكومة ألحق ضررًا كبيرا بالحزب الذى يحظى بالأغلبية البرلمانية، وذلك هو الوتر السياسى الحساس الذى تلعب عليه أحزاب المعارضة وفى مقدمتها حزب العمال المنافس التقليدى للمحافظين حيث يطالب بإجراء انتخابات تشريعية مبكرة بعد ما يعتبره فشلا لحكومتى المحافظين المتعاقبة.. جونسون وليز في نفس الوقت الذى يُشكك فيه حزب العمال فى قدرة ريشي سوناك على خروج بريطانيا من أزمتها الاقتصادية غير المسبوقة منذ عقود.
<<<
تصحيح الخطأ بانتخاب سوناك زعيما لحزب المحافظين وتوليه رئاسة الحكومة حتى لو جاء متأخرًا.. له دلالاته المهمة حسبما أشرت فى المقدمة.. سياسيا واجتماعيًا بل أوروبيًا أيضًا، إذ إنه بداية جديدة نحو تغليب مصلحة البريطانيين وبريطانيا بل حزب المحافظين وبقية الأحزاب فوق الاعتبارات العنصرية المتوارثة والمتعلقة بلون البشرة والأصول العرقية.
هذا التوجه السياسى والحزبى الذى بدأه حزب المحافظين من شأنه لو استمر أن يفتح الباب على مرحلة جديدة من الاندماج المجتمعى بين البريطانيين على اختلاف الأصول العرقية وألوان البشرة طالما أنهم مواطنون بريطانيون وُلدوا وعاشوا معًا، ثمَّ إن هذا التوجه الجديد الذى بدأه حزب المحافظين البريطانى قد يمتد إلى بقية الدول الأوروبية بحيث تتخلى القارة عن عنصريتها القديمة تدريجيًا فى مستقبل قريب.
<<<
وبوصول ريشى سوناك الملون ذى الأصول الهندية إلى رئاسة الحكومة لأول مرة فى بريطانيا، فإنه بدا تكرارًا لوصول باراك أوباما إلى البيت الأبيض لأول مرة فى أمريكا كرئيس أسود من أصول أفريقية حتى مع اختلاف البيئة السياسية والاجتماعية في كل من بريطانيا وأمريكا، فقد بدا سوناك النسخة البريطانية من التجربة الأمريكية، وعلى النحو الذى يمكن معه وصف سوناك بأنه أوباما بريطانيا حسبما بدأ البعض يُردد.
لكن تبقى ثمة فوارق بين حالة أوباما وحالة سوناك، إذ إن أوباما فاز فى الانتخابات الرئاسية كمرشح عن الحزب الديمقراطى والمنحاز للأقليات خاصة السود المؤيدين التقليديين للحزب، بينما جاء سوناك إلى رئاسة الحكومة عبر انتخابه زعيما لحزب المحافظين المعروف بانحيازاته العنصرية، ومن ثمَّ فإن وصول سوناك لرئاسة الحكومة كان أصعب بكثير من فوز أوباما، ثم إن فارقاً آخر يركز عليه البعض وهو أن أوباما منتخب من الشعب الأمريكى بينما جاء سوناك عبر الحزب وليس بانتخاب الشعب البريطانى، غير أن أهمية هذا الفارق تتبدد بالنظر إلى النظام السياسى فى بريطانيا، إذ إن حزب المحافظين هو الحزب الحاكم الفائز بأغلبية الأصوات والأغلبية البرلمانية، ومن ثم فإن من يختاره لرئاسته ورئاسة الحكومة يكون ضمنا منتخباً أيضا.
<<<
قراءة السيرة الذاتية لـ«ريشى سوناك» تُشير إلى أنه أصغر رئيس حكومة سنًا فى التاريخ البريطانى، إذ يبلغ من العمر ٤٤ سنة، وهو من مواليد بريطانيا لأبوين مهاجرين من الهند وأسرته بالغة الثراء فضلا عن ثرائه الشخصى وهو متزوّج من امرأة هندية بالغة الثراء أيضًا، إذ تُعد عائلتها واحدة من أغنى العائلات فى الهند، وقد شغل منصب وزير المالية لمدة شهرين فى حكومة جونسون المستقيلة بعد أن استقال أولا.
<<<
ريشى سوناك الذى بدأ الأسبوع الماضى فى ممارسة مهام منصبه يستند على ما تواتر فى أروقة السياسة والاقتصاد البريطانية عن الخبرة الاقتصادية الكبيرة التى يحظى بها ومن ثمَّ قدرته على الخروج من الأزمة الطاحنة التى تواجهها بريطانيا خاصة بعد الأخطاء التى ارتكبتها «ليز تراس» رئيسة الحكومة السابقة المستقيلة، حيث تعهد بتصحيحها رغم أنه وفى مسلك سياسى إنسانى ودبلوماسى راق التمس لها العُذر فى أول خطاب له مشيرا إلى أنها أخطأت بحسن نية.
ورغم خبرة سوناك الاقتصادية إلا أنه يواجه تحديات صعبة خلال الفترة القريبة المقبلة للخروج من الأزمة الطاحنة فى مقدمتها استقرار ثم إنعاش الأسواق وتخفيف معاناة البريطانيين الاقتصادية والمعيشية والاجتماعية خاصة فيما يتعلق بأسعار الطاقة والمواد الغذائية، وهى المهمة الصعبة فى مواجهة أكبر ارتفاع تشهده بريطانيا بل أوروبا كلها فى معدلات التضخم الذى وصل إلى أكثر من ١٠٪ ورغم الرهان الحذّر على نجاحه فى إنجاز هذه المهمة الصعبة باعتبار أنه جاء إلى الحكم من السوق بوصفه من رجال المال والأعمال، إلا أن هذا الرهان يبقى على المحك.
غير أن مواجهة سوناك لتلك التحديات وفقًا لخطته الاقتصادية وسط أسوأ أزمة تواجهها بريطانيا منذ عقود.. قد تُسفِّر عن غضب شعبى كبير خاصة أنه حذر في خطابه الأول من أن خطة الإصلاحات التى تعهد بتحقيقها قد تضطره إلى اتخاذ قرارات وإجراءات صعبة.
<<<
وبينما لم تمض سوى أيام على تولى سوناك رئاسة الحكومة فإن حزب العمال المعارض والمنافس التقليدى لحزب المحافظين يؤكد أنه لن ينجح فى مهمته خاصة أن خبرته في العمل الوزارى لا تزيد على شهرين فقط كوزير للمالية فى حكومة جونسون، كما أنه لا يتمتع بأى خبرة سياسية تؤهله لرئاسة الحكومة إذ إن عمره البرلمانى سبع سنوات فقط، أما أعجب اعتراض على سوناك فهو أنه لا يتمتع بأى «كاريزما» سياسية ثمَّ إنه لا يُجيد التحدث، وهو ما ردّ عليه بأنه يفضّل الأفعال على الكلام.
المثير أن رغم حرص سوناك على تمثيل كل أجنحة الحزب فى تشكيل حكومته، فإن تيارًا داخل الحزب لايزال ضد اختياره.
<<<
تبقى ثمة مهمة سياسية وحزبية أخرى أمام سوناك غير مهمة إخراج بريطانيا من الأزمة الاقتصادية الطاحنة، وهى توحيد أجنحة حزب المحافظين الذى يشهد انقسامات حادة داخل صفوفه، وهى مهمة معقدة ويتوقف على نجاحه فى إنجازها استمرار دعم الحزب بكامل تياراته له بل استمرار الحزب في الحكم وتجنب اللجوء إلى إجراء انتخابات تشريعية مبكرة حسبما يطالب حزب العمال وبإلحاح شديد بإجرائها.
<<<
فى كل الأحوال فإن بريطانيا تواجه أيامًا صعبة ريثما تخرج من أزمتها الطاحنة وتحظى بالاستقرار السياسى والاقتصادى، فهل تنجح وفق خطة ريشى سوناك أو أوباما البريطانى.