أسامة أيوب يكتب : عن اللت والعجن!
بقلم: أسامة أيوب
رغم أن الأصل في تعبير اللت والعجن هو وصف عملية إعداد الطحين بعد خلطه بالماء حتى يكون صالحًا لخبزه، فإن التعبير امتد إلى وصف الحديث المطوّل الممطوط والذى كان يمكن أن يكون أكثر تركيزًا وبكلمات قليلة، وهو نفس الوصف الذى ينطبق أيضًا على الكلام المكتوب حين يلجأ كاتبه إلى الاستطرادات الكثيرة دون داع ومط العبارات، بل إن صناعة الورق لا تخلو أيضًا من اللت والعجن بحسب ما جاء فى مقال شهير للأستاذ أنيس منصور متحدثًا عن واقعة طريفة.
الذين عاشوا فى الريف حتى سنوات مضت هم فقط دون غيرهم من الأجيال الحديثة من عرفوا وشاهدوا عملية اللت والعجن قبل أن كادت تختفى صناعة الخبز والفطائر وغيرهما في البيوت فى أفران الطين وحيث صارت «فولكلور» ولم يبق منها إلا التعبير المتداول.
اللت والعجن عرفته الشعوب والأمم والحضارات على اختلافها منذ بدأت حياة الإنسان فى الأرض، وفى هذا السياق يُذكر أن الصنم الذى صنعته وعبدته قريش بوصفه إلهًا من بين مئات الأصنام المعبودة قبل الإسلام الذى أنهى الشرك ورفع راية التوحيد.. كان يسمى «اللات» والذى ورد ذِكره فى القرآن الكريم، وبحسب الخرافة فإن «اللات» هو من كان يساعد النساء فى لت العجين ثم تحوَّل إلى إله من آلهة الشرك في صورة صنم.
< < <
تعبير اللت والعجن استطرق وصار وصفًا لحالات أخرى غير لت العجين منها في وصف الثرثرة «الرغى غير المفيد» حين يتحدث شخص بكلام ليس له بداية ونهاية منطقية، وحيث ينطوى حديثه على مط وتطويل ويوصف بأنه «لت» ويوصف المتحدث بأنه «لتات».
والشخص اللتات هو الذى يعجز عن طرح أفكاره بكلمات محددة إما لأن مفرداته اللغوية محدودة جدًا فيظل يلّف ويدور حول المعنى الذى يريد توصيله وإما لحرصه على التحدث لأطول مدة ممكنة فيكون حديثه وكلامه ممطوطًا مثل لت العجين وحيث يوصف حديثه باللت والعجن.
هذا اللت والعجن يتبدى كثيرًا في بعض البرامج التليفزيونية وخاصة البرامج الحوارية عندما يتحدث المذيع وعندما يحاوّر ضيوفه، حيث يظل يطرح السؤال على ضيوفه بعبارات وكلمات ممطوطة مطولة إما ليبدو ملمًا إلمامًا كاملًا بموضوع الحوار وإما لعجزه عن طول السؤال بكلمات موجزة واضحة، وهو نفس الخطأ الذى قد يقع فيه بعض الضيوف المتحدثين عندما لا يجيبون على السؤال إجابة واضحة مباشرة محددة، ولذا توصف مثل هذه البرامج بـ«اللت والعجن» الذى يصيب المشاهد المتلقى بالملل والضجر ويتحول إلى قناة أخرى.
<<<
وفى الثقافة الشعبية المصرية اتهام السيدات بالثرثرة فى أحاديثهن الخاصة المطولة، حيث تتسم المرأة بالاهتمام بالتفاصيل الدقيقة التي تجعل حديثها ممطوطا مطولا أى «لت وعجن»، ولذا توصف مثل هذه المرأة بأنها «لتاتة».
<<<
وفى الثقافة الشعبية المصرية القديمة وفي زمن ما قبل التليفزيون وحيث كانت الحكايات المتواترة جيلا بعد جيل هى مصدر الثقافة والترفيه للأطفال كانت الأمهات والجدات يختتمن الحكاية بعبارة «حلوة ولا ملتوتة» والمعنى هل كانت ممتعة وأسعدت الأطفال أم أنها كانت ممطوطة ومملة أى كانت «لت وعجن» وهى نفس العبارة أو السؤال الذى كانت الإعلامية القديرة فضيلة توفيق «أبلة فضيلة» تنهى بها حكاياتها التي كانت ترويها للأطفال بصوتها الرخيم المميز عبر برنامجها الشهير فى الإذاعة المصرية طوال عقود من الزمن، إذ ظل برنامجها محافظًا على بريقه ونجاحه حتى بعد ظهور التليفزيون بسنوات.
<<<<
وإذا كان لت العجين عملا ضروريا في صنع الخبز فإنه يصبح في غير ذلك أمرا ممجوجًا، والأسوأ في اللت والعجن يكون فى الكتابة كما في كتابة المقالات فى الصحف على سبيل المثال عندما يطول المقال بمط عباراته وكلماته دون مبرر ودون فائدة من الإطالة، وحيث توه القارئ بين العبارات الطويلة ومن ثمَّ لا تصل الرسالة المستهدفة إلى القارئ «المرسل إليه» وهو خطأ فادح بحسب نظريات الصحافة والإعلام.
والكاتب اللات أو اللتات هو فى حقيقة الأمر إما أنه لا يمتلك ما يكفي من المعلومات عن موضوع مقاله أو ليس له قدرة لغوية ومهارة حرفية للاختصار وقول ما يريد بالقدر المناسب من الكلمات ومن ثمَّ فإنه يكشف عن فقر قاموسه اللغوى بحيث لا تتيح له قلة مخزونه من مفردات اللغة الوصول إلى ما يستهدفه من مقاله.
<<<
وقد يكون ضيق الوقت أحيانًا لدى الكاتب السبب فى اللت، فمن المعلوم والمتواتر تاريخيًا أن الزعيم سعد زغلول عندما أرسل خطابًا لأحد أصدقائه وكان مطولا، فإنه اعتذر فى ختامه لأنه لم يكن لديه وقت كاف لاختصار الخطاب، وهو اعتذار له دلالته المهمة التى تعنى أن تجنب تطويل كلام «اللت» يتطلب التأنى والتدبر ومن ثمَّ الوقت الكافى حتى يقول الكاتب ما يريد قوله بأقل عدد من الكلمات تيسيرًا على المتلقى وتجنبًا لتململه.
< < <
وعن اللت والعجن فى صناعة الورق فلذلك واقعة طريفة تحدث عنها الأستاذ أنيس منصور الذى استشهر بأسلوبه المتميز.. متحدثًا وكاتبًا فى مقال له فى ستينيات القرن الماضى وحدثنا عنه نحن الصحفيين من جيل الشباب مع بداية عملنا تحت رئاسته لتحرير مجلة أكتوبر فى منتصف سبعينيات القرن الماضى.
ففى تعليقه على خبر منشور في الصحف عن قيام هيئة الكتاب بإعدام المخزون المتراكم والمتهالك من الكتب تمهيدًا لإعادة طبخ ورق تلك الكتب وعجنه لإعادة تدويره في صناعة ورق طباعة جديد.. كتب مقالا بعنوان «اللت والعجن في هيئة الكتاب» وهو عنوان يعكس بقدر ما يؤكد أنه أفضل من كتب عناوين الكتب والمقالات الصحفية حسبما تشهد له عناوين كتبه ومقالاته.
هذا العنوان الذى انطوى على صورة بلاغية تشير إلى وجه الشبه بين إعادة طبخ وعجن ورق الكتب وبين لت العجن وربط فى نفس الوقت بين اللت أيضًا وبين محتوى الكتب التى تم إعدامها والذى قد يكون كلامًا ملتوتًا أى أنه لت.
<<<
إن استطراق تعبير اللت من لت العجين إلى لت الكلام وتشبيه مط الكلام بمط العجين فى واحدة من الصور البلاغية إنما يؤكد تميّز اللغة العربية عن غيرها من اللغات.
<<<
بهذه السطور اختتم حديثى عن اللت والعجن راجيًا ألا يكون فيه لت وعجن.