أسامة أيوب يكتب : فى ختام مونديال قطر.. قراءة سياسية وملاحظات ودلالات
للأسبوع الثالث على التوالى أجدنى مدفوعًا دفعًا للحديث عن مونديال قطر ٢٠٢٢ الذى اختتم فعالياته يوم الأحد الماضى، ورغم أنى لست من المهتمين أو المتابعين لكأس العالم أو كرة القدم بوجه عام منذ عقود، إلا أن دافعى للحديث الأسبوعى الماضيين ثم استئناف الحديث للمرة الثالثة هو ذلك البُعد العربى الذى اتسم به بل تميّز به هذا المونديال وما انطوى عليه من دلالات سياسية أحسب أنها تستوجب التوقف أمامها كثيرًا.
فى بداية الحديث من الضرورى تقديم التهنئة العربية المستحقة لدولة قطر على نجاحها الباهر المبهر فى استضافة وتنظيم مونديال ٢٠٢٢ اللافت لأنظار العالم وغير المسبوق على ذلك النحو فى تاريخ هذه البطولة الكروية الأولى والأكبر.
ثم تبقى التهنئة لمنتخب الأرجنتين على ذلك الفوز المستحق بكأس العالم فى هذه الدورة بعد مباراة بالغة الإثارة كاد منتخب فرنسا أن يخطف قبل نهايتها الفوز بعد صحوة مفاجئة فى أواخر الشوط الثانى لولا ضربات الترجيح التى حفظت لمنتخب الأرجنتين حقه في الفوز لأدائه البطولى والمتميز طوال المباراة التى استحوذ لاعبوه على معظمها.
<<<
ثم إن ثمة ملاحظات على فوز الأرجنتين ومباراة الدور النهائى لعل أولها أن متابعتى لتلك المباراة تحديدًا تجعلنى أعترف أن هذه هى المرة الأولى التى أشاهد فيها مباراة كرة قدم منذ أكثر من ثلاثين سنة وبشغف كبير والفضل فى ذلك لدولة قطر ومونديال ٢٠٢٢ الذى غلبت عليه الصبغة العربية.
ثانيا: إن فوز الأرجنتين بالبطولة أعاد كأس العالم إلى أمريكا اللاتينية مرة أخرى بعد أن ظل أوروبيًا لسنوات طويلة.
ثالثا: إن هذا الجيل الحالى من لاعبى الأرجنتين نجح فى استعادة الكأس للمرة الثالثة بعد ٣٦ عامًا.
رابعا: لقد بدا واضحًا أن العاطفة الجياشة كانت غالبة على لاعبى الأرجنتين، حيث تبدّت فى بكاء الفرح بعد الفوز وهى العاطفة التى يتسم بها الشعب الأرجنتينى.
خامسا: لم يكن هناك مبرر لحالة الحزن الشديد والذهول التى انتابت لاعبى فرنسا بعد خسارة المباراة بركلات الترجيح، إذ أن هزيمتهم كانت هى الأقرب إلى أن تمكنوا من إحراز الهدف الثالث وتهيأوا للفوز حتى أحرز أسطورة الكرة الحديثة ميسى الهدف الثالث في الدقائق الأخيرة.
تبقى ملاحظة أخيرة على مباراة النهائى إذ إن من المفارقات والمصادفات اللافتة أن كلا من الأرجنتين وفرنسا قد هزما فى الأدوار الأولى من منتخبين عربيين.. السعودية التي فازت على الأرجنتين وتونس التى فازت على فرنسا.
وإذا كان منتخبا السعودية وتونس قد خرجا من التصفيات فى الأدوار الأولى، فإن فريقا عربيا آخر هو منتخب المغرب تمكَّنَ بأداء بطولى متميز أن يُحقق سابقة هى الأولى من نوعها فى تاريخ كأس العالم بوصوله إلى الدور قبل النهائى كأول دولة عربية تُحقق هذا الإنجاز، وهو إنجاز لا يُقلل منه خروجه من هذا الدور ولم يحالفه الحظ للمشاركة فى المباراة النهائية والمنافسة على بطولة كأس العالم، وهو الإنجاز الذى استحق عليه ذلك الاستقبال الشعبى الحاشد من عشرات الآلاف من الشعب المغربى وذلك الاستقبال الرسمى من جانب الملك محمد السادس للاعبين ولأمهاتهم أيضًا اللائى دعمّن أبناءهن اللاعبين في مشاهد إنسانية أثارت إعجاب العالم.
وعن منتخب المغرب كان من المصادفات اللافتة والتى يُمكن التندُّر بها على هامش المونديال أنه فاز على كل من إسبانيا والبرتغال باعتبار أن الفوز يستدعى حقبة تاريخية فى الأندلس طوال ٨٠٠ سنة، وهى مصادفة قد يكون لها دلالة سياسية عربية تاريخية.
<<<
فى القراءة السياسية لهذا المونديال يمكن التوقف أمام ملاحظات مهمة ذات دلالات سياسية مهمة أيضًا، بعد أن بات واضحًا الارتباط الوثيق بين السياسة والرياضة خاصة كرة القدم التي تُعد اللعبة الشعبية الأولى فى مختلف دول العالم.
لقد أكسبت بطولة كأس العالم التى نظمتها قطر هذا العام حضورًا وشهرة كبيرة واسعة لها فى أنحاء العالم باستضافتها لمونديال ٢٠٢٢ ونجاحها فى تنظيم البطولة بداية من الافتتاح إلى الختام، وحيث صارت وستبقى بعد المونديال فى بؤرة الاهتمام الدولى، وهو ما يُعد مكسبًا سياسيًا لها كدولة عربية، وهو مكسب سياسى للأمة العربية كلها يستدعى افتخار واعتزاز كل الشعوب العربية بامتداد الخريطة العربية من الشرق في الخليج إلى الغرب فى المغرب وحتى موريتانيا فى أقصى الخريطة.
إن مبعث ذلك الفخر العربى والقطرى بهذا المكسب السياسى التاريخى الذى تحقق هو أن مونديال قطر كان الأفضل فى تاريخ كأس العالم وكان الأكثر بهجة مقارنة بكل الدورات السابقة بشهادة الجميع وباعتراف رئيس الاتحاد الدولى لكرة القدم وفقًا لتصريحاته في اتفتاح وطوال وختام المونديال.
<<<
لقد أكد مونديال قطر ٢٠٢٢ أن كرة القدم اللعبة الشعبية الأولى في العالم والتى تتزايد شعبيتها عامًا بعد عام صارت من بين أهم القوى الناعمة لدى كافة دول العالم على اختلافها وهو أمر لا تخفى دلالته السياسية.
وفى هذا السياق من ارتباط السياسة بالرياضة جاء حرص الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون على حضور مباراة صعود منتخب فرنسا للدور النهائى ثم حرصه على العودة مرة ثانية لحضور المباراة النهائية بين فرنسا والأرجنتين، وحيث وقف متحمسًا يصفق بحرارة تشجيعًا ودعمًا للاعبي المنتخب الفرنسي لدرجة أنه خلع «جاكت بدلته» وشمَّر عن ساعديه رافعًا يديه صائحًا كأى مشجع آخر دون أى جرح باعتباره رئيس جمهورية، ثم كان لافتًا مشهد مواساته للفريق الفرنسي بعد الهزيمة حتى جلس على ركبتيه مواسيًا هداف المنتخب اللاعب الواعد «مبابى» ولاشك أن ما فعله ماكرون إنما يصب لصالح شعبيته لدى الشعب الفرنسي وهو ما يؤكد مرة أخرى ذلك الارتباط الوثيق بين السياسة والرياضة.
ثم إن الحضور السياسى فى المشهد الرياضى في كأس العالم أو الحضور الرياضى في المشهد السياسى قد تبدّى أيضًا فى حرص الرئيس الأمريكى جو بايدن على مشاهدة مباراة فرنسا والمغرب مع بعض القادة الأفارقة خلال انعقاد القمة الأمريكية الافريقية التى تواكب انعقادها مع كأس العالم، وحيث كانت المباراة التي يشارك فيها المغرب مناسبة لمشاهدتها بحضور رئيس وزراء المغرب المشارك فى القمة.
<<<
فى ختام المونديال جاء مشهد تسليم الميداليات وكأس العالم.. مشهدًا حافلا بالملاحظات والمواقف الإنسانية ذات الدلالات السياسية المهمة.
فى هذا المشهد وعلى منصة التتويج، حيث وقف الأمير تميم أمير قطر الدولة المُنظِّمة للمونديال، وإلى جانبه الرئيس ماكرون ورئيس الاتحاد الدولى لكرة القدم لتسليم الميداليات الذهبية والفضية والبرونزية للاعبى المنتخبات الثلاثة.. الأرجنتين وفرنسا وكرواتيا، ظل الأمير تميم مبتسمًا مصافحًا اللاعبين بحميمية وحرارة، وبينما كان رئيس الاتحاد الدولي يُصافح اللاعبين بحرارة وتشجيع ومواساة للاعبى فرنسا، كان الرئيس ماكرون حزينًا رغم محاولاته للتماسك، وهنا تجدر الإشارة إلى أن فوز الأرجنتين وخسارة فرنسا قد أسعدت الجماهير العربية بشكل لافت وهو أمر له دلالته السياسية الواضحة أيضًا.
<<<
أما ذروة مشهد الختام فقد تبدّت فى تلك اللفتة الإنسانية العبقرية بالغة الدلالة السياسية عندما فاجأ الأمير تميم جميع الحاضرين بعد تسليم الكأس لقائد فريق الأرجنتين «ميسى» وأهداه العباءة العربية «البيشت القطرى» وساعده فى ارتدائها، وهى العباءة التى يرتديها المواطن القطرى فى حفل عرسه وهو ما يعنى أن «ميسى» كان عريس مونديال قطر، وقد جاء تعليق رئيس الاتحاد الدولى على ارتداء ميسى لهذه العباءة العربية القطرية بقوله «إنك الآن ملك».. خير تعبير عن لفتة الأمير تميم، ولاشك أن هذه اللقطة النادرة سوف تظل محفورة فى ذاكرة تاريخ كأس العالم وكل الشعوب بل فى ذاكرة ميسى ذاته باعتبارها تتويجًا استثنائيا لمسيرته الكروية التى اختتمها بالفوز بكأس العالم فى مونديال قطر، وحيث ستظل قطر ماثلة في ذاكرة شعب الأرجنتين أيضًا.
<<<
لقد كان ذلك المشهد مسك الختام لمونديال قطر التى دخلت تاريخ كأس العالم والتاريخ الرياضى مثلما أحرزت مكسبًا ونصرًا سياسيًا يستحق فخر الأمة العربية كلها.