د. محمد فراج يكتب : الصهيونية.. بين الخرافات وحقائق التاريخ (٢)
ذكرنا في المقال الأول من هذه السلسلة «الأموال - ١٨ فبراير ٢٠٢٤» أن الكيان الصهيونى ومن قبله الحركة الصهيونية يقومان على أيديولوجية تمتزج فيها الخرافات الغيبية، كالحديث عن «الوعد الإلهى لليهود» بأرض فلسطين والمنطقة الواقعة بين النيل والفرات، بالأكاذيب وتزوير وقائع التاريخ بدءا من تاريخ اليهود أنفسهم وتاريخ فلسطين والمنطقة لتبرير هذا «الوعد الإلهى» المزعوم واختلاق «حق تاريخى» لهم فى فلسطين ومرورا بوقائع إقامة الكيان الصهيونى على الأراضى الفلسطينية والصراع من أجل إقامة هذا الكيان، وإنكار الحقوق التاريخية الثابتة والضاربة فى عمق التاريخ لأكثر من خمسة آلاف سنة، ووصولًا إلى اتهام المقاومة الفلسطينية بالإرهاب والادعاء بأن الكيان الصهيونى هو «دولة ديمقراطية» بل وأنه الدولة الديمقراطية الوحيدة فى الشرق الأوسط!!
وأوضحنا أنه لا يمكن تأسيس حق تاريخى لمجموعة من الناس أو حتى «شعب» على أساس «وعد إلهى مزعوم» جاء فى كتاب مقدس ملىء بالأكاديب والخرافات وضعه الكهنة اليهود بعد قرون من وفاة نبى الله موسى، حينما كان هؤلاء الكهنة فى «السبى البابلى» أو «الأسر البابلى» بعد أن حطم الملوك البابليون والآشوريين كيانا محدود الأهمية لقبيلة بنى إسرائيل العبرانية، بين ما حطموه من كيانات لقبائل وشعوب عديدة على أرض فلسطين كالفلسطينيين والكنعانيين والآراميين وغيرهم من سكان فلسطين التاريخية والمنطقة المحيطة بها، وأن النسخة التى بيد أيدينا من «التوراة» طاغمة بخرافات وأساطير ووقائع مكذوبة عمدا لا يمكن أن يتضمنها كتاب سماوى، لدرجة أن مؤسس الكيان الصهيونى نفسه «ديفيد بن جوريون» يصفه بقوله: أن التوراة هى فولكلور الشعب اليهودى!!
كما أوضحنا أن هذا الوعد التوراتى نفسه لسيدنا إبراهيم الخليل «لك ولنسلك من بعدك أعطى هذه الأرض…إلخ» لا يمكن أن ينطبق على اليهود بل على «العرب» تحديدًا لأنهم يمثلون الأغلبية الساحقة الماحقة من أبناء الخليل إبراهيم، وانتهينا إلى أن وقائع التاريخ والآثار التاريخية تؤكد أن ضربات الإمبراطوريات المتعاقبة لكل الكيانات الصغيرة من مختلف القبائل والتجمعات السكانية فى فلسطين قد قضت على أى وجود ممتد تاريخيا لأى كيان يهودى أو عبرانى فى فلسطين وشردت سكانه «كأقلية دينية صغيرة» بين بلدان المنطقة.
أصل اليهود المعاصرين
كما أوضحنا أن اليهود المحدثين «الحاليين» تعود أصولهم إلى دولة «الخزر» الواقعة بين بحر قزوين والبحر الأسود «بين القرنين الثامن والعاشر الميلاديين» والتى اعتنق ملكها وحاشيته الديانة اليهودية، وأجبروا شعبهم على اعتناقها رغبة فى تمييز أنفسهم وتأكيد استقلالهم عن الإمبراطوريتين الكبيرتين المجاورتين لبلادهم، وهما الدولة العباسية الإسلامية فى المشرق العربى وإيران ومنطقة آسيا الوسطى، والدولة البيزنطية المسيحية فى آسيا الصغرى «تركيا الحالية» وبعض المناطق المجاورة لها فى شمال سوريا والعراق وبلاد البلقان.
كما أوضحنا أن القبائل السلافية الشرقية «الروس والبلغار وغيرهم» قد حطمت دولة «الخزر» تدريجيا فى القرن العاشر الميلادى، مما اضطر سكانها اليهود للانتشار في البلدان المجاورة «روسيا وبلدان أوروبا الشرقية أساسا مثل أوكرانيا وبيلاروسيا وبولندا ورومانيا..إلخ» ووصلت أعداد منهم إلى دول أوروبا الوسطى والغربية، بما فى ذلك ألمانيا وفرنسا وبريطانيا وإسبانيا «الخاضعة للحكم العربى- الإسلامى وقتها، والتى تميزت بمناخ متحضر ومتسامح تجاه الأديان الأخرى»، كما هاجر بعض هؤلاء «اليهود الخزر» إلى بعض البلدان العربية المجاورة كالعراق وسوريا الكبرى ومصر وكذلك إلى تركيا الحالية سواء فى أواخر العهد البيزنطى «المسيحى الأرثوذكسى» أو فى العهد العثمانى الإسلامى بعد انهيار الإمبراطورية البيزنطية.
ومع اندلاع الحروب الصليبية وما صاحبها من سيطرة أجواء من التعصب الدينى «الكاثوليكى» فى أوروبا الغربية والوسطى اضطرت أعداد متزايدة من هؤلاء اليهود الخزر للهجرة مرة أخرى إلى البلدان السابق الإشارة إليها، أو تم إجبارهم على اعتناق المسيحية خوفا من التنكيل بهم بواسطة محاكم التفتيش المرعبة فى عدد من الدول الأوربية، والتى امتد طغيانها لعدة قرون مما لا يتسع المجال للتفصيل فيه.
اليهود الشرقيون والغربيون
وخلاصة القول إن الأغلبية الساحقة من يهود العالم المعاصرين تعود أصولهم إلى اليهود الخزر الذين تشردوا فى معظم البلدان المجاورة لبلادهم المعروفة بهذا الاسم «مملكة الخزر» بينما كان اليهود القدامى «ذوو الأصول العبرانية» قد اندثروا عبر القرون، ولم يتبق منهم إلا جماعات صغيرة للغاية اندمجت في سكان ومجتمعات الدول المجاورة «العربية والإسلامية» التى تميزت بقدر كبير من التسامح وخاصة إذا ما قورنت بأجواء التعصب والتنكيل التى سادت أوربا فى أواخر القرون الوسطى وليس تجاه معتنقى الأديان الأخرى فحسب، بل وأيضا ضد أبناء المذاهب المسيحية المختلفة أو حتى الأفكار المختلفة التى اعتبرتها الكنيسة الكاثولية «هرطقة» وكانت تُحيل معتنقيها إلى محاكم التفتيش ليتم إحراقهم أحياء أو قتلهم بشتى الأشكال الوحشية.
وهؤلاء اليهود الخزر أو الذين اندمجوا بالمجتمعات الأوروبية أو هاجروا منها إلى البلدان المجاورة هم الذين يطلق عليهم «الأشكيناز» أو اليهود الغربيون بينما يطلق على اليهود الشرقيين اسم «السفارديم» ومنهم يهود اليمن واليهود الأثيوبيون «الفلاشا» والهنود وغيرهم من ذوى الأصول الشرقية القديمة والبشرة السمراء وهم يمثلون أقلية صغيرة من مجموع يهود العالم «حوالى ١٥ مليونًا فى الوقت الحالى» ومعروف أن الغاليبة الأشكينازية تتخذ تجاههم مواقف تمييزية «عنصرية» وأنهم يمثلون قاع المجتمع اليهودى فى إسرائيل.
ومعروف كذلك أن الحركة الصهيونية قد ولدت وتطورت أساسًا بين «الأشكيناز» الأوروبيين وتعنى كلمة الصهيونية «العودة إلى صهيون» وهو جبل يقع بالقرب من القدس وإقامة وطن لليهود فى فلسطين باعتبارها كانت مهدًا للديانة اليهودية منذ أكثر من ثلاثة آلاف عام!! وتكمن المفارقة الساخرة أن تعبير العودة إلى صهيون تبناه أناس لم يكونوا ولم يكن أجدادهم يومًا من سكان فلسطين بل ينتمون إلى بلاد أخرى تمامًا!!
كما أن انتماء الأغلبية الساحقة من اليهود المعاصرين إلى أصول خزرية هى حقيقة تاريخية ثابتة ومعروفة على نطاق واسع بين الباحثين الجادين، بمن فيهم اليهود. ومن الضرورى هنا أن نعيد التأكيد على أن قصة مملكة الخزر واعتناق ملكها وحاشيته لليهودية، ثم تدميرها وشتات سكانها معروفة فى الأدبيات التاريخية العالمية بما فيها اليهودية ومن أبرز أمثلتها كتاب «القبيلة الثالثة عشرة» للكاتب والمؤرخ اليهودى الألمانى «آرثر كوستار» وهو كتاب له ترجمات مختلفة إلى اللغة العربية من بينها ترجمة صدرت فى سلسلة الألف كتاب المصرية والمقصود «بالقبيلة الثالثة عشرة» هو تمييز اليهود الخزر عن «الأسباط الاثنى عشر» أبناء النبى يعقوب أو إسرائيل الذين يمثلون بنى إسرائيل أول معتنقى الديانة اليهودية الذين كانوا قد هاجروا إلى مصر «فى هجرة اقتصادية» فى عهد غزو الهكسوس للمنطقة الشمالية الشرقية من البلاد ثم خرجوا منها فى القرن الثالث عشر قبل الميلاد.
ونعتقد أن هذا الكتاب جدير بالقراءة لأنه يكشف كثيرا من الحقائق بالغة الأهمية عن أصل اليهود المعاصرين، وبقلم كاتب ومؤرخ يهودى وهى حقائق تهتم الحركة الصهيونية بالتعتيم عليها لتشيع الأوهام بين اليهود وغيرهم بأن الوجود اليهودى «القديم» متصل بلا انقطاع فى فلسطين، وبأن لهم حقوقًا تاريخية فيها، قائمة على «وعد إلهى» مزعوم بينما الحقيقة أن هذا الوجود «المحدود، والمتجاور مع وجود قبائل وأعراق أخرى» قد اندثر عمليًا منذ العهد الرومانى و«الشتات» التى تسعى الحركة الصهيونية لتجميعه فى فلسطين على حساب شعبها، هو شتات «اليهود الخزر» الغرباء تمامًا عن فلسطين بعد تحطيم دولتهم فى القرن العاشر الميلادى!
اضطهاد الآخر سمة عامة للقرون الوسطى
تملأ الحركة الصهيونية الدنيا ضجيجًا حول ما تسميه اضطهاد اليهود فى القرون الوسطى ومنذ أقدم العصور باعتباره سمة فى العلاقات الاجتماعية اختص بها اليهود وحدهم وكما لو كانوا مستهدفين بالعداء من جانب كل الشعوب يترتب عليه بالضرورة كراهية اليهود للآخرين «الجوييم - الأغيار» كرد فعل طبيعى ويتحدثون فى هذا الصدد عن السبى البابلى قديما، وعن معازل اليهود الجيتو فى أوروبا فى القرون الوسطى وحتى القرن العشرين فى بعض البلدان..إلخ.
ومن الضرورى هنا أن نشير إلى أن أغلب هذه الظواهر كانت سمات عامة لتعامل الغالب مع المغلوب فى العصور القديمة والوسطى وخاصة إذا كان الشعب أو التجمع المغلوب شعبا صغيرا، فتدمير المدن والقرى وسبى النساء واستعباد الرجال أو قتلهم أمور كانت أشبه بالقانون السائد لدى الشعوب القديمة ولاسيما إذا كان هناك اختلاف فى العقائد أو الأصول العرقية، وما فعله البابليون والاشوريون مع اليهود فعلوه مع كل القبائل والأعراق الصغيرة فى المناطق المجاورة، وكان الرجال يستغلون كعبيد «قوى منتجة» بينما تستغل النساء والفتيات للمتعة أو لخدمة البيوت.
والرومان مثلًا لم يكونوا يستعبدون أبناء الشعوب التى يمثلون بلادها فحسب، بل كانت العبودية تمتد إلى بعض الرومانيين الفقراء الذين يعجزون عن سداد ديونهم فى مجتمع كان يعتمد المعاملات الربوية على نطاق واسع، والتمييز على أساس الدين أو العرق كان أمرا شائعا للغاية وعاديا بغض النظر عن رأينا فيه الآن، ويكفى أن نشير إلى ما فعله الرومان مثلا باتباع المسيحية فى القرون الأولى لظهورها «عصر الشهداء فى مصر مثلا» والتوراة نفسها تدعو اليهود إلى تدمير المدن التى يستولون عليها وإبادة جميع سكانها بمن فيهم الأطفال!! «ولا تبقى منهم نسمة»!! وراجع مثلا وصية أشعياء النبى التى تحدث عنها مجرم الحرب بنيامين نتنياهو «فى القرن الحادى والعشرين» كأمر قابل للتطبيق مع الشعب الفلسطينى وراجع المذابح التى ارتكبها ويرتكبها الصهاينة مع الشعب الفلسطينى منذ دير ياسين «مارس ١٩٤٨» حتى كفر قاسم «١٩٥٦» وغيرها ووصولًا إلى مجزرة غزة الهمجية المخيفة وحرب الإبادة ضد سكانها، فهل أرواح اليهود أغلى من أرواح بقية البشر؟! يجيبك «التلمود» نعم.. فـ«الأغيار» هم حيوانات لا روح لها!!
أما بالنسبة للقرون الوسطى فإن الحملات الصليبية الكاثوليكية ارتكبت المذابح ضد المسيحيين الأرثوذكس فى البلقان، وضد المسلمين طبعًا وقد طالت هذه الاعتداءات الهمجية اليهود ضمن من طالتهم، وخاصة العاملين بالأنشطة الربوية الذين رفضوا إقراض الملوك الصليبيين أو الذين رغب هؤلاء الملوك فى التخلص منهم ليتخلصوا أيضًا من ديونهم لهم.. فهل ينبغى إدانة هذه الهمجية البشعة حينما تطال اليهود وحدهم والتغاضى عما لحق بالمسيحيين الارثوذكس والمسلمين؟! أم أن الإدانة ينبغى أن تشمل كل تجليات هذه التصرفات الوحشية أيًا ما كان ضحاياها؟
وهل طالت محاكم التفتيش فى أوروبا اليهود وحدهم أم شملت المسلمين أيضا فى إسبانيا بعد سقوط غرناطة «١٤٩٢» وشملت المتهمين بالهرطقة فى إيطاليا مثلا «إحراق الراهب الكاثوليكى سافونا رولا مثال شهير» وكذلك التهديد بإحراق العالم الكبير جاليليو لأنه قال بكروية الأرض ودورانها حول الشمس لولا أنه تراجع عن رأيه العلمى!!
والحروب الأهلية والمذابح الواسعة بين الكاثوليك والبروتستانت فى فرنسا وألمانيا ومناطق أخرى من أوروبا الغربية أمر معروف للكافة.
وإذن فإن اضطهاد الآخر - المختلف - والتنكيل به وسلب ممتلكاته وصولا إلى قتله أو استعباده كان سلوكا همجيا شائعا فى القرون القديمة وبدرجات أقل فى القرون الوسطى وتظل بقاياه مستمرة حتى الآن، وخاصة فيما ترتكبه الدولة الصهيونية من مجازر ضد الشعب الفلسطينى وهو سلوك وحشى لابد من إدانته أيا كان مرتكبه وأيا ما كان ضحاياه وبدون أى تمييز.
وللحديث بقية