د. محمد فراج يكتب : النيجر.. ضربة قاصمة للإمبراطورية الاستعمارية الفرنسية فى إفريقيا
لم تأخذ الأحداث الأخيرة فى النيجر ما تستحقه من اهتمام مختلف وسائل الإعلام المصرية، مع أن ما يحدث فى هذا البلد الإفريقى القريب يهمنا كثيرًا وينعكس على مصالح مصر ودول الشمال الإفريقى العربية، وخاصة ليبيا والجزائر بصورة مباشرة. فالنيجر مجاورة لليبيا مباشرة من ناحية الجنوب الغربى، ومجاورة للجزائر بامتداد كل حدودها الجنوبية. وهى أكبر بلدان غرب إفريقيا «منطقة الساحل والصحراء تحديدًا» بمساحة تبلغ مليونا ومائتين وخمسة وسبعين كم٢/ ١.٢٧٥كم٢ وتعداد سكانى يبلغ أكثر من (٢٦/ ستة وعشرين مليونا) وهى واحدة من البلدان القريبة التى يتحرك فيها الإرهاب «داعش والقاعدة» بقدر كبير من الحرية، وينتقل منها إلى ليبيا ــ المجاورة مباشرة لنا ــ كما ينتقل إليها من ليبيا، والواقع أن انتشار الإرهاب فى ليبيا، بعد تدمير الدولة على يد العدوان الأطلسى، كان مقدمة لانتشاره فى دول الساحل والصحراء الواقعة مباشرة إلى الجنوب من الشمال الإفريقى، وهذا الانتشار فى بلد تمثل عمقًا استراتيجيًا لمصر والسودان وبلدان الشمال الإفريقى العربية هو خطر لا يمكن لنا تجاهله، خاصة على ضوء الأوضاع الخطيرة فى السودان، وتفكك الدولة فى ليبيا، والوجود القوى لـ«داعش والقاعدة» فى مناطقها الغربية.
وهذه كلها أوضاع تهمنا كثيرًا لأن لها انعكاساتها على أمننا القومى، وقد سبق أن عانت مصر من جرائم الإرهاب حينما كان متمركزًا فى شرق ليبيا، قبل أن يقوم الجيش الوطنى الليبى بتطهير المنطقة من الوجود الإرهابى، وخاصة ما كان يُعرف بـ«إمارة درنة».
خرائط جديدة للنفوذ
ومن ناحية أخرى فإن الانقلاب العسكرى الذى شهدته النيجر أواخر شهر يوليو المنقضى، يدخل فى إطار عملية إعادة رسم خرائط القوة والنفوذ فى منطقة شمال إفريقيا والساحل والصحراء (ونكرّر: القريبة من حدودنا).. إذ إن الانقلاب الأخير أطاح بالرئيس «محمد بازوم» الموالي للغرب، وبالأخص للولايات المتحدة الأمريكية ولفرنسا بالدرجة الثانية، وقد قام بالانقلاب ـ فى مرحلته الأولى ـ الحرس الرئاسى، ثم أعلن الجيش دعمه للانقلاب، وتم تشكيل مجلس عسكرى مؤقت لحكم البلاد، ثم الإعلان مؤخرا عن إحالة الرئيس المعزول قريبا إلى المحاكمة بتهمة الخيانة العظمى.
اللافت للنظر بشدة هو انطلاق مظاهرات جماهيرية فى العاصمة النيجيرية ميامى، تحمل الأعلام الروسية «نعم: الروسية) وتطالب بتعزيز الصداقة مع روسيا وتهتف ضد فرنسا، وتطالب بطرد القوات الفرنسية الموجودة فى البلاد (ألف جندى) والتى يفترض أنها كانت قد جاءت لمساعدة النيجر فى مكافحة الإرهاب، لكنها لم تحقق أى إنجاز ملموس فى هذا الصدد، وتركز اهتمامها فى حماية المصالح الفرنسية، وخاصة «مناجم اليورانيوم» التى تملكها شركة «أدرينا» الفرنسية.. ومعروف أن فرنسا تشغل مناجم اليورانيوم فى البلاد منذ سبعينيات القرن الماضى، حيث إن النيجر من كبار منتجى اليورانيوم فى العالم.. وبالرغم من نضوب منجمين كبيرين استغلتهما فرنسا لعقود، فمازال منجم كبير باقيًا، ويزوّدها «بعشرين فى المائة- ٢٠٪» من احتياجاتها من اليورانيوم الضرورى لصنع الوقود لمحطاتها النووية، التي تنتج أكثر من «سبعين بالمائة» من الطاقة الكهربائية فى فرنسا (٥٦ محطة نووية).
ويشعر النيجريون بالغضب من استمرار الدولة الاستعمارية (السابقة) فى نهب ثروات بلادهم، حتى بعد مرور أكثر من ستين عامًا على الاستقلال (عام ١٩٦٠) ولا يقتصر الأمر على الاستمرار فى استغلال اليورانيوم وفق شروط غير عادلة، بل يمتد إلى ثروات أخرى كالذهب (صادراته تزيد على مليارى دولار سنويا)، كما يرتبط اقتصاد النيجر بروابط تبعية غليظة بالاقتصاد الفرنسى، بينما ترزح البلاد تحت وطأة تخلف شديد.
ويكفى أن نشير إلى أن النيجر هى واحدة من أفقر دول العالم على الإطلاق، حيث يبلغ ناتجها المحلى الإجمالى (١٤ مليار/ أربعة عشر مليار دولار) فقط حسب أرقام البنك الدولى لعام ٢٠٢٢ بمتوسط نصيب يبلغ ٥٣٣ دولارا فقط سنويًا، وهو رقم يضع النيجر بين أشد البلاد فقرًا وتخلفا فى العالم، ولا شك أن هذا الفقر والتخلف هما من أسباب الانتشار الواسع للإرهاب فى البلاد.
الولايات المتحدة بدورها كانت قد أرسلت نحو «ألف وخمسمائة جندى» للمساعدة فى مكافحة الإرهاب فى النيجر، وأنفقت حوالى «خمسمائة مليون دولار» خلال السنوات العشر الماضية على تطوير وتسليح الجيش النيجرى، بمتوسط قدره خمسون مليون دولار سنويا، وهو مبلغ هزيل بالقياس إلى اتساع مساحة البلاد (١.٢٧٥ مليون كم٢) وجسامة المهام المطلوب القيام بها لحماية حدودها مع دول (تشغى) بالإرهاب مثل نيجيريا الجارة الجنوبية للنيجر، حيث توجد منظمة «بوكو حرام» القوية والمتجذّرة، ومالى من الغرب، وتشاد من الشرق، وليبيا من الشمال الشرقي..إلخ.
وكانت النتيجة الواضحة هي أن الوجود العسكرى الأمريكى لم يحقق نتيجة ملموسة فى مكافحة الإرهاب، بالرغم من امتلاك الأمريكيين لقاعدة للطائرات المسيرة يفترض أنها تقوم بأغراض الاستطلاع وضرب الإرهاب وغنى عن البيان أن الأمريكيين لم يبذلوا أى جهد فى مجال تنمية البلاد اقتصاديا.
والأمر الذى لا يمكن غض النظر عنه هو أنه بالرغم من الوجود العسكرى الأمريكى والفرنسى ومن التغلغل الأمريكى فى الجيش، فقد وقع الانقلاب ضد الرئيس الموالي لأمريكا والغرب، وهو انقلاب لا يمكن نسبته للحرس الرئاسى وحده، الذى لم يكن ليجرؤ على القيام بانقلاب دون التنسيق مع قيادة الجيش، وهو ما اتضح جليًا فيما بعد. وهذه مسألة تستحق التأمل فى الموقف الحقيقى للشعوب والجيوش من الدول الاستعمارية الغربية.. ولابد هنا من التأمل أيضا فى حقيقة أن الوجود العسكرى للدول الغربية الكبرى لم يكن موجهًا بصورة جدية لمكافحة الإرهاب، ولم يحقق نتائج ملموسة فى ضربه، وإنما ينصب تركيزه على تحقيق مصالح تلك الدول الكبرى، وهذا من أهم أسباب كراهية الشعوب له.
الروس قريبون!!
ذكرنا فيما سبق من مقالنا أن جماهير كبيرة فى العاصمة النيجرية «نيامى» قد قامت بمظاهرة أمام السفارة الفرنسية عقب وقوع الانقلاب ورفعت الأعلام الروسية مطالبة بتعزيز الصداقة مع موسكو، ونضيف هنا أن هذه الجماهير نزعت لافتة السفارة، وطالبت بطرد القوات الفرنسية من البلاد ورفعت أعلام النيجر وروسيا على أبواب السفارة.. وقتها تحدثت وسائل إعلام غربية عن وجود لقوات «فاجنر» الروسية فى النيجر، وإشرافها على الانقلاب، لكن الحقيقة أن «فاجنر» لا وجود لها فى النيجر- حتى الآن على الأقل- وأن المتظاهرين كانوا يعبّرون عن موقف سياسى، أما قوات «فاجنر» فهى موجودة بالفعل فى «مالى» غرب النيجر، وفى بوركينا فاسو جنوبها، حيث حدث انقلابان عسكريان العام الماضى وتم طرد القوات الفرنسية احتجاجًا على عدم قيامها بدور جدى فى مكافحة الإرهاب، كما تم استدعاء قوات «فاجنر» لمساعدة الجيشين فى مكافحة الإرهاب، والقيام بمهام التدريب.
وبديهى أن هذه الخطوة ارتبطت بتوجه لتعزيز العلاقات العسكرية وغير العسكرية مع روسيا، واعتبر المتظاهرون فى النيجر هذه الخطوة مثالا ينبغى اتباعه، وأشارت التقارير الإعلامية بالفعل إلى اجتماع حدث بين أحد قادة فاجنر فى النيجر وأحد أعضاء المجلس العسكرى الانتقالى بعد الانقلاب على «محمد بازوم» وهو ما يشير إلى إمكانية للاتفاق مع قوات «فاجنر» على القيام بدور فى النيجر مماثل لدورها فى مالى وبوركينا فاسو، وبالتالى إلى إقامة وتعزيز علاقات عسكرية وغير عسكرية مع روسيا. ومعروف أن روسيا حينما تدخل فى علاقات مثل هذه تمدها إلى مجالات التعاون الاقتصادى وإقامة مشروعات تنموية وتدريب الكوادر العسكرية والفنية وتقديم منح دراسية للطلاب..إلخ، وتتسم المشروعات الاقتصادية التى تقيمها فى الدول النامية بطابع الاستفادة المتبادلة وتقديم التيسيرات والمساعدات، وهذه خبرة تاريخية معروفة فى عديد من البلدان الإفريقية، ومهم جدا أن روسيا غير محملة بأوزار الإرث الاستعمارى الغربي البغيض.
لهذا ثارت ثائرة فرنسا، ودعا الرئيس ماكرون إلى التدخل العسكرى ضد الانقلاب من خلال منظمة التعاون الاقتصادى لدول غرب إفريقيا، الخاضعة لسيطرة فرنسا. غير أن مالى وبوركينا فاسو سارعتا إلى إعلان رفضهما لأى تدخل عسكرى فى النيجر، وأنهما ستعتبرانه عدوانا عليهما، كما رفض مجلس الشيوخ النيجيرى «نيجيريا» ما أعلنته حكومة «أبوجا» من عزمها على التدخل العسكرى فى النيجر. ولم تبد الولايات المتحدة حماسا لخطوة التدخل العسكرى.
والحقيقة أن خيار التدخل العسكرى تحيط به صعوبات كبيرة، فنحن نتحدث عن دولة مساحتها أكثر بكثير من مليون كم٢، وسكانها أكثر من ٢٦ مليون نسمة، ومنظمة الإيسكوا التى تنتمى إليها غير موحدة حول فكرة التدخل «بسبب الرفض الحاسم من جانب مالى وبوركينا فاسو»، والأهم من ذلك أن الجارة الشمالية للنيجر، نعنى الجزائر بكل ما لها من وزن سياسى وعسكرى أعلنت رفضها القاطع التدخل العسكرى الخارجى.
ويؤدى بنا إلى أن القول بأن فرص نجاح التدخل العسكرى- بفرض حدوثه- تبدو فى حكم المستحيلة، كما أن من شأنه أن يؤدى إلى حالة من الفوضى الشاملة فى منطقة شديدة الحساسية، تكون النيجر مركزًا لها، وتمتد انعكاساتها السلبية لكل دول الجوار، وتفتح الباب على مصراعيه أمام الإرهاب فى المنطقة، وأمام موجة نزوح عارمة يعانى الجميع من آثارها، وفى مقدمتهم أوروبا، وهو ما لا تحتمل أى دولة فى منطقة الساحل والصحراء ولا فى الشمال الإفريقى ولا أوروبا.
وهكذا يبدو أن فرنسا سيتعين عليها أن تبتلع خسارة ثالث دولة «وأهم دولة» فى إمبراطوريتها الإفريقية فى غضون عام واحد.. وأن هذه الإمبراطورية الاستعمارية في طريقها للانهيار أخيرًا.. ولا عزاء للمستعمرين الفرنسيين.