د.محمد فراج يكتب: تمزيق سوريا.. لمصلحة من؟ (2)

أشرنا فى نهاية الجزء الأول من هذا المقال إلى المذابح الطائفية التى ارتكبتها قوات الجيش والأمن والفصائل المسلحة التابعة للنظام الجديد فى منطقة الساحل السورى ضد الطائفة العلوية، التى تُمثل أغلبية سكان تلك المنطقة، بدعوى ملاحقة فلول نظام الأسد، وما تسببت فيه تلك المذابح من شرخ مجتمعى خطير، وكذلك إلى إدانة الأمم المتحدة والمنظمات الحقوقية الدولية لتلك المذابح ولكل أشكال الملاحقة الطائفية بذريعة ملاحقة عناصر النظام القديم.
السياسات الطائفية والمتعصبة مذهبيا صفة ملازمة للفصائل الإرهابية التكفيرية مثل "النصرة" و"الجيش التركستانى/ الأويجور" و"الأفريك" و"الشيشان" وغيرها ولذلك فإن مخاطر الانقسامات والصدامات الطائفية والمذهبية تتزايد فى ظل وجود هذه المنظمات الإرهابية المتطرفة فى أجهزة السلطة وخاصة فى الجيش وقوى الأمن.
وعلى سبيل المثال فإن العلاقات بين هذه المنظمات وبين "الدروز" تظل منطوية على احتمالات كبيرة للصدام، وقد رأينا كيف حاولت المنظمات المذكورة منع احتفالات إحدى الكنائس المسيحية بأعياد الميلاد فى أواخر ديسمبر الماضى لولا أن "الجولانى/ الشرع" سارع بالتدخل لأن التعامل مع الأقليات المسيحية يتسم بحساسية خاصة بالنسبة لأوروبا، التى تحاول جبهة النصرة "هيئة تحرير الشام" استرضاءها بكافة السبل سعيا للحصول على اعترافها بالسلطة الجديدة ورفع العقوبات الدولية عن دمشق، وهذه أمور لا تفهم فيها المنظمات الإرهابية شديدة التطرف عادة، بالرغم من أهميتها البالغة وانعكاساتها الخطيرة المحتملة داخليًا وخارجيًا بصفة أخص.
فالمجتمع السورى يضم فسيفساء واسعة من المذاهب الإسلامية والمسيحية المختلفة، والتطور الحضارى والاجتماعى للشعب السورى العريق حقق درجات عالية من الانسجام والتآخى بين هذه الجماعات على مدى القرون، حتى جاءت داعش والنصرة وأخواتها لتهدد وحدة هذا النسيج المجتمعى الفريد والعريق، ولتخلق عوامل خطيرة للتوتر الاجتماعى والطائفى والمذهبى.
المشكلة الكردية بين الحقائق والمخالطات
تعتمد المشكلة الكردية أحد أهم العوامل التى تهدد وحدة سوريا، إن لم تكن أخطرها على الإطلاق ومعروف أن الأكراد ينتشرون فى أربع دول متجاورة هى تركيا والعراق وإيران وسوريا، وأكبر تجمع لهم يقع فى جنوب شرقى تركيا، حيث يمثلون ما يتراوح بين 20 – 25% من تعداد الشعب التركى، ولابد من الإشارة هنا إلى أن تعداد الأكراد هو دائما محل اختلاف، حيث لا يوجد إحصاء سكانى موثوق تمامًا، وتتدخل العوامل السياسية للمبالغة فى عددهم أو محاولة التقليل منه، بما يترتب على ذلك من نتائج سياسية.
وبالنسبة لسوريا فإن الأكراد يمثلون عشرة بالمائة تقريبا من الشعب السورى، ويتركزون فى المناطق الشمالية والشمالية الشرقية من البلاد، إلا أنهم يتداخلون مع الأغلبية السكانية العربية فى هذه المناطق وكذلك مع الأقليات القومية من الآشوريين والأرمن والشركس وغيرهم، ولا يمثلون أغلبية إلا فى مناطق ونقاط محددة، ومن ناحية أخرى فإن جنسية الكثيرين منهم كانت دائمًا محل جدال نظرا لأن أعدادا كبيرة من الأكراد المقيمين فى سوريا جاءت إليها من تركيا ومن الصراعات المسلحة بين الحركة القومية الكردية والجيش التركى، أى بطريق الهجرة غير الشرعية، ولم يحصل كثيرون من هؤلاء على الجنسية السورية، كما أنهم ظلوا مرتبطين بدرجة كبيرة بالأحزاب والحركات القومية الكردية فى تركيا "مثل حزب العمال الكردستانى وغيره".
وكما سبق القول فإن أكراد سوريا لا يمثلون أغلبية فى مناطق انتشارهم، بل يعيشون متداخلين مع الأغلبية العربية والأقليات القومية الأخرى فى شمال وشرقى سوريا، وهذه نقطة بالغة الأهمية لأنه إذا كانت الأدبيات السياسية تتداول تسميات مثل كردستان تركيا وكردستان العراق أو إيران، فإن الحديث عن كردستان سوريا – أى أرض الأكراد هو مغالطة واضحة – أو خطأ كبير إذا افترضنا حسن النية – لكل الاعتبارات التى ذكرناها، وكانت مطالب الأكراد السوريين تتركز فى "تجنيس" المهاجرين القدامى منهم، أو السماح بتعليم اللغة الكردية أو إطلاق أسماء كردية على بعض أماكن تجمعهم، وما إلى ذلك من "حقوق ثقافية"، ولم يكن أحد يتجرأ على الحديث عن "منطقة حكم ذاتى" أو "نظام فيدرالى" فى سوريا.
إلا أنه مع بدء الحرب الإرهابية الكونية على سوريا 2011 وتراخى قبضة النظام ثم مع قيام دولة داعش فى غرب العراق وشمال سوريا 2014 واحتلالها لمنطقة شرقى الفرات أخذ الأكراد فى تنظيم أنفسهم عسكريا مستفيدين من الخبرات القتالية للأحزاب القومية الكردية فى تركيا، وخاصة حزب العمال الكردستانى، ثم من الخبرات والمساعدات العسكرية والمالية الكبيرة من جانب التحالف الغربى لمكافحة الإرهاب، وتم إنشاء قوات سورية الديمقراطية "قسد" بقيادة دعوات قيادية كردية ويضم مقاتلين من العرب والأقليات القومية الضعيفة فى شرقى الفرات، وبالرغم من أن هؤلاء كانوا – ولايزالون حتى الآن – يدعون الأغلبية الكبرى فى "قسد" إلا أن قائدها العام "الجنرال "مظلوم عبدى" وأغلب ضباطها الكبار من الأكراد.
ومع دخول القوات الأمريكية إلى الأراضى السورية وحمايتها لقوات "قسد" قامت الأخيرة بالسيطرة على مجمل منطقة الجزيرة "شرقى الفرات" وبعض مناطق شمالى حلب، وفرضت سيطرتها على ثروات هذه المنطقة التى تمثل حوالى 30% (ثلاثين بالمائة) من مساحة سوريا، إلا أنها تضم ثلثى ثروة البلاد تقريبا من النفط والغاز، وثلثى الأراضى الخصبة والمياه العذبة.
وبدأت مواقف "قسد" تتغير مستفيدة من الحماية الأمريكية، بالرغم من قلة عدد قوات الولايات المتحدة فبدأت القيادة الكردية تتصرف كأنها تمثل كل سكان شرقى الفرات "وليس ربعهم فحسب"! وتنتهج سياسة استبدادية تجاه الأغلبية العربية والأقليات القومية الصغيرة وتُسيطر على ثروات البترول وتتصرف فى عوائدها والأهم أنها شكلت مجلسا للإمارة الذاتية لمنطقة شرقى الفرات رافضة الخضوع لسلطة دمشق المنهكة بسبب الحرب الطويلة، كما بدأت تُطالب بإقامة "نظام فيدرالى" فى البلاد تتمتع فيه بسلطات واسعة أشبه بوضع الكونفيدرالية وأقرب إلى الاستقلال أو أن تكون اللغة الكردية لغة رسمية ثانية فى البلاد! كما قلت لسنوات تصدر بترول المنطقة إلى الخارج عبر كردستان العراق وتركيا، وتصدر جزءا منه عبر الصهاريج إلى اسرائيل، وتحرم منه المناطق الواقعة تحت سلطة دمشق باستثناءات قليلة.
والحقيقة أن ما كان يمنع "قسد" من تنفيذ سياساتها الانفصالية بالصورة التى تريدها، هو التهديدات التركية بغزو المنطقة طوال الوقت، واحتلال أنقرة الفعلى لمساحات غير قليلة "أكثر من أربعة آلاف كم2" بحذاء الجزء الأوسط من حدود سوريا الشمالية مع تركيا، فضلا عن المعارضة الأمريكية والروسية.
وجهًا لوجه مع أردوغان!
وبسقوط نظام الأسد على يد "النصرة" وحلفائها من المنظمات الإرهابية تحت إشراف تركيا المباشر، وجدت القيادات الكردية السورية نفسها وجهًا لوجه مع أردوغان، وتهديداته للأكراد بغزو منطقة سيطرة "قسد" ونزع سلاحها بالقوة و"دفنها" فى تلك المنطقة، تصادف هذا مع وصول ترامب للسلطة فى أمريكا وإعلانه أن "مفاتيح سوريا فى أيدى تركيا"!! واضطرت "قسد" للقيام بمناورة مع السلطة الجديدة فى دمشق حيث اجتمع الجنرال "مظلوم عبدى" بـ"الجولانى/ الشرع" واتفقا على توحيد قوات "قسد" مع الجيش السورى الجديد، ولكن بدون تفاصيل واضحة ومحددة، غير أن الأكراد ظلوا يتحدثون عن أن الاتفاق حول الجانب السياسى لم يتم، ويطالبون بإقامة نظام فيدرالى واعتماد اللغة الكردية كلغة ثانية.. إلخ وهو ما ترفضه تركيا قطعيا.
والحقيقة أن هامش المناورة يضيق كثيرا أمام النزعات الانفصالية الكردية ليس بسبب الأثرياء وكبر النفوذ التركى فى سوريا فحسب، ولكن أيضا بسبب إعلان أمريكا مؤخرا عزمها على سحب نصف قواتها الموجودة فى سوريا، بالإضافة إلى ما ذكرناه من إعلان ترامب أن "مفاتيح سوريا فى يد تركيا".
وللحديث بقية