د.محمد فراج يكتب : الصهيونية بين الخرافات وحقائق التاريخ (١)
سيذكر التاريخ أن المجزرة الدائرة ضد الشعب الفلسطينى فى غزة تجرى وقائعها الرهيبة بالصوت والصورة أمام أعين العالم كله، وأنها هزت ضمائر الملايين فى كل مكان وتحركت المظاهرات الغاضبة الحاشدة فى شوارع وميادين الكرة الأرضية، ترفض المجزرة وتطالب بوقفها وبالحرية للفلسطينيين وتدين الهمجية الصهيونية التى فاقت همجية التتار والنازيين، بينما ظلت شوارع أغلب الدول العربية صامتة!! وامتنعت دول عربية عن استخدام أسلحة كان يمكن لاستخدامها أن يمثل ضغطًا فعالًا على العدو الصهيونى وأمريكا لوقف المجزرة، وظل التطبيع العربى مع العدو مستمرا بل ويجرى الاستعداد لاتخاذ خطوات جديدة فيه من جانب بعض الدول العربية!!
وسيذكر التاريخ مشاهد المقاومة الفلسطينية الباسلة ضد العدوان الصهيونى الهمجى، بينما يصف الصهاينة والغرب هذه المقاومة بـ«الإرهاب» وأن بعض الإعلاميين والكتاب «العرب» يرددون هذا الافتراء الحقير، متجاهلين أن أهل المأساة كلها هو اغتصاب فلسطين من أجل إقامة كيان فاشى عنصري توسعى يمثل خطرًا على كل الشعوب والدول العربية المجاورة «من النيل إلى الفرات»!! وجرى ذلك باسم «وعد إلهى» مزعوم يتم الترويج له ضد كل حقائق التاريخ والواقع، ويتم تزوير التاريخ ووقائعه الجارية أمام أعيننا وأعين العالم كله.
والحيقة أنه لا توجد قضية تعرضت وقائعها للتزوير وأحاطت بها الأكاذيب والخرافات مثل القضية الفلسطينية بدءا من الوعد الإلهي المزعوم مرورًا بالحق التاريخى للصهاينة فى فلسطين.. وبوقائع إقامة الكيان الصهيونى ووصولا إلي إنكار حق الشعب الفلسطينى التاريخى الثابت فى أرضه، واتهام المقاومة الفلسطينية بالإرهاب!! والادعاء بأن الكيان الصهيونى هو دولة ديمقراطية!! بل والدولة الديمقراطية الوحيدة فى الشرق الأوسط!!
اختراق العقل العربى
وإذا كانت آلة الدعاية الصهيوني قد نجحت من خلال تغلغلها الكبير فى الإعلام الغربى والعالمى في ترويج خرافاتها وأكاذيبها فى الإعلام الغربى والعالمى، فإن الكارثة الحقيقية هى نجاح تلك الآلة الجهنمية فى اختراق العقل العربى بكثير من أكاذيبها وخرافاتها، وزراعة هذه الأكاذيب فى عقول مثقفين وكتاب وإعلاميين عرب، وتسريبها من خلالهم إلى قطاعات واسعة بين الرأى العام العربى عبر إعلام سطحى متخلف، وتعليم ألحقت «ثقافة السلام» المزعومة ضربات قاسية بمناهج التاريخ والجغرافيا فيه.
والحقيقة أنه من أجل بناء وعى عربى صحيح واستخلاص دروس الصراع العربى- الصهيونى، فلابد من إعادة الاعتبار لحقائقه الأساسية، وخاصة فى هذه المرحلة المصيرية من مراحل الصراع التى تتعرض فيها القضية الفلسطينية لخطر التصفية، ويتعرض الشعب الفلسطينى لخطر الطرد من أرضه، وتستفحل مؤامرات فرض التطبيع مع العدو على الدول العربية وإعادة رسم خرائط المنطقة لتسيطر عليها إسرائيل كشريك أصغر للاستعمار الأمريكى والغربى وذلك بالرغم من المقاومة الباسلة التى يبديها الشعب الفلسطينى ونود أن نشير هنا إلى أننا لم نستخدم تعبير «الصراع العربى- الإسرائيلى» سهوًا بل عمومًا لأن الصراع الواضح الآن إذا كان يحمل عنوانا «فلسطينيا- اسرائيليا» فإن الفلسطينيين يمثلون فيه موقع خط الدفاع الأول عن العالم العربى كله ضد الأطماع الصهيونية غير المحدودة فى ثروات المنطقة، وهى الأطماع المدعومة أمريكيًا وغربيًا وإن غفل أو تغافل البعض عن الأهداف الحقيقية الأبعد للكيان الصهيونى.
لذلك سنحاول فى سلسلة من المقالات تناول الجذور التاريخية للقضية، وصولا لتطوراتها الراهنة بقدر ما تسمح طبيعة الكتابة للصحافة بالطبع.
خرافة الوعد الإلهى
أولى الخرافات التى قامت عليها الحركة الصهيونية ومن ثم الكيان الصهيونى هى الخرافة القائلة بأن هناك وعدا إلهيا لليهود بالسيطرة على المنطقة الممتدة من نهر النيل إلى نهر الفرات وقلبها بالطبع فلسطين!! وكلمة الصهيونية نفسها مشتقة من فكرة العودة إلى جبل صهيون بالقرب من القدس، وهو وعد أشارت إليه التوراة فى نسخها المزيفة التى كتبها الكهنة اليهود بعد عدة قرون من وفاة سيدنا موسى، حيث يقولون إن الله سبحانه وتعالي قد وعد أبا الأنبياء سيدنا ابراهيم الخليل بمنح هذه المنطقة من النيل إلى الفرات له ولنسله من بعده.. علما بأن العرب «أبناء إسماعيل» كانوا ولايزالون يمثلون الأغلبية الساحقة الماحقة من سكان هذه المنطقة.
ولابد من التوقف هنا أمام حقيقة أن الحركة الصهيونية قد ولدت بصورة منظمة فى أواخر القرن التاسع عشر ونتيجة لملابسات حياة اليهود فى الدول الاستعمارية الأوروبية وأنها قد بحثت لسنوات إمكانية إنشاء وطن قومى لليهود في عدة أماكن منها أوغندا والأرجنتين قبل أن تستقر على فلسطين، بدعم من الاستعمار البريطانى وبغض النظر عن الوعود الأسطورية التوراتية.
أما عن التوراة نفسها فمعروف أن النسخة الموجودة منها كتبها الكهنة اليهود أثناء وجودهم فى الأسر البابلي بعد أن دمر الملك نبوخذ نصر دويلة صغيرة لهم فى فلسطين وهذه حقيقة معروفة ولذلك فإنها حافلة بخرافات أبعد ما تكون عن الأديان السماوية.
ولسنا نحن من نقول هذا من عندنا، بل إن مؤسس الكيان الصهيونى دافيد بن جوريون ومعروف أنه كان ملحدًا هو وعدد من أبرز مؤسسى الحركة الصهيونية «إن التوراة هى فولكلور الشعب اليهودى»، والفولكلور هو الأدب والفن الشعبى بما يتضمن من أساطير ومأثورات شعبية.
وعمومًا فإننا لا يمكن أن نتناول التاريخ على أساس أساطير وضعها الكهنة اليهود فى الأسر أو في غير الأسر ولا نريد الدخول فى جدل دينى ونود أن نعرب عن احترامنا لمعتقدات أى فرد أو جماعة مادامت لا تتعارض مع الحقائق التاريخية والقوانين الأخلاقية للإنسانية.. والتاريخ يؤخذ من وقائع ثابتة ومن آثار مراحله المختلفة.
فماذا يقول التاريخ من أجل اليهود وتطور وجودهم في الشرق الأوسط والعالم؟
يقول التاريخ إن الديانة اليهودية قد ظهرت فى فلسطين بين أبناء قبيلة صغيرة من نسل يعقوب «إسرائيل» وهم الأسباط الاثنا عشر، وأن الأغلبية الساحقة من سكان فلسطين وقتها كانوا من أبناء البلد الأصليين ومن القبائل المنتشرة فى المنطقة وأن ملوك الإمبراطوريتين البابلية والآشورية قد اجتاحوا هذه المنطقة أكثر من مرة وأسروا العديد من سكانها كعبيد وخدم لديهم، وشردوا الباقين فى المنطقة المحيط، شبه الجزيرة العربية وغيرها، وأنه لم تكن لهم سيطرة على فلسطين فى أى وقت من الأوقات وأنهم قد انتشروا كجماعات صغيرة في المنطقة وانضم إليهم أعداد ممن اعتنقوا ديانتهم، من غير بنى إسرائيل، وحدث ذلك بعد تدمير كيانين صغيرين لليهود «العبرانيون، ومن انضم إليهم من معتنقى اليهودية» لم تستمرا طويلا ثم جاء الاحتلال الإغريقي ومن بعده الاحتلال الرومانى لمصر وسوريا إلى أن ظهرت المسيحية منذ ألفى عام وانتشرت فى المنطقة ثم ظهر الإسلام وانتشر فيها بعد ستة قرون.
الأصل الحقيقى لليهود المعاصرين
أما الأصل الحقيقى لليهود المعاصرين فيرجع إلى مملكة الخزر التى كانت قائمة فى المنطقة الواقعة بين البحر الأسود وبحر قزوين، وازدهرت بين القرنين الثامن والعاشر الميلاديين، واعتنق أحد ملوكها اليهودية لأنه أراد أن يتميز ويستقل ببلاده عن الإمبراطوريتين الكبيرتين المجاورتين، الإمبراطورية الإسلامية «الدولة العباسية وقتها» فى المشرق العربى فى بلاد فارس وآسيا الوسطى والإمبراطورية البيزنطية فى آسيا الصغرى «تركيا الحالية» بصورة أساسية.
ثم تعرضت مملكة الخزر للتدمير فى القرن العاشر على أيدى القبائل السلافية الشرقية الروسية أساسا» التى كانت قد بدأت تنتشر وتتوسع فى المناطق المجاورة ومع تدمير «مملكة الخزر» تشرد سكانها اليهود فى المناطق المجاورة فى شرق أوروبا بصفة أساسية «روسيا وبيلاروسيا وبولندا والمجر ورومانيا ومولدوفا وبلغاريا» ووصل بعضهم إلى بلدان أوروبا الغربية وخاصة إسبانيا حيث كان الحكم الإسلامى المتميز بتسامحه وحيث ظلوا حتى أواخر القرن الخامس عشر الميلادى حينما سقطت الدولة الإسلامية فى الأندلس وتعرض المسلمون واليهود للاضطهاد على أيدى الحكام الجدد «الكاثوليك المتعصبين» فاضطروا للهجرة إلى المغرب وبلدان الشمال الأفريقي أو إلى بلدان المشرق العربى ليلحقوا بإخوانهم فى الدين الذين سبقوهم إلى العراق وسوريا ولبنان ومصر بعد تدمير مملكة الخزر أو إلى تركيا التى كانت قد تأسست فيها الإمبراطورية العثمانية على أنقاض الإمبراطورية البيزنطية.
إلا أن أغلبية اليهود الخزر قد استقرت فى بلدان الإمبراطورية الروسية وشرق أوروبا وألمانيا الحالية (وبلدان أوروبا الوسطى بدرجة أقل) وهذا هو ما يُفسر الوجود الكبير لليهود فى هذه المنطقة «روسيا وأوروبا الشرقية» وانتشار الصهيونية فيها وكون الهجرات اليهودية الأولى إلى فلسطين قد جاءت من هذه المنطقة، التى جاء منها أيضًا الزعماء الأوائل للحركة الصهيونية فى فلسطين مثل بن جوريون وجولدا مائير ومناحم بيجن وشمعون بيريز وغيرهم.
ويعرف هؤلاء المهاجرون اليهود الأوربيون باسم الأشكيناز وهم العنصر المسيطر على الكيان الصهيونى وكان بعضهم قد هاجر إلى الولايات المتحدة أيضًا فى القرون السابقة، بينما يعرف اليهود ذوو الأصول الشرقية «العراقيون واليمنيون والإثيوبيون..إلخ» باسم «السفارديم».
ويمكن الرجوع إلى كتاب المؤرخ اليهودى الشهير أرثر كوستلر «القبيلة الثالثة عشرة» لمعرفة تفاصيل كثيرة عن اعتناق مملكة الخزر لليهودية ثم تدميرها وانتشار سكانها فى المناطق المجاورة، علمًا بأن اسم القبيلة الثالثة عشرة يشير إلى اليهود المحدثين أو غير القدامى الذين كانت تضمهم (الأسباط الاثنى عشر) من أبناء يعقوب بن إسحق بن إبراهيم والمعروف باسم «إسرائيل» وبناء عليه كانوا يعرفون باسم بني إسرائيل.
والكتاب مترجم إلى العربية وموجود بالأسواق.
وللحديث بقية..