د. محمد فراج يكتب: جريمة غربية جديدة ضد الفلسطينيين.. فهل يتحرك العرب؟
الحملة الضارية التي تشنها إسرائيل وأمريكا وحليفاتها من الدول الغربية هذه الأيام ضد وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين المعروفة اختصارًا باسم «الأونروا» والهادفة إلى خنق وتصفية الوكالة، لا يمكن النظر إليها إلاّ باعتبارها امتدادا لحرب الإبادة التى تشنها الدولة الصهيونية ضد الشعب الفلسطينى فى قطاع غزة، وجزءًا لا يتجزأ من هذه الحرب الهمجية، فضلا عن كونها جريمة ضد الفقراء والفلسطينيين المستفيدين من نشاط «الأونروا» من اللاجئين في الضفة الغربية والأردن وسوريا ولبنان.
فجأة اشتغلت الحملة ضد «الأونروا» حينما أصدرت المخابرات الإسرائيلية منذ أيام بيانًا زعمت فيه أن «١٢ اثنى عشر» من موظفي الوكالة «ضالعون» فى عملية «طوفان الأقصى» دون تحديد لشكل «ضلوعهم»، وعلى الفور أعلنت الولايات المتحدة- أكبر مانح للوكالة- تعليقها لمساهمتها المالية في «الأونروا» داعية الدول المانحة الأخرى لتعليق دعمها للوكالة الدولية، لتتلوها خلال أيام قليلة أكثر من عشر دول غربية فى مقدمتها بريطانيا وكندا وألمانيا واستراليا واليابان وإيطاليا وفرنسا ودول غربية أخرى، ثم المفوضية الأوروبية «حكومة الاتحاد الأوروبى».
وعلى الفور أيضًا تصاعدت الحملة الصهيونية الأمريكية الداعية لقطع مساعدات الدول المانحة عن «الأونروا» باعتبارها منظمة داعمة للإرهاب!! و«ذراعًا لحماس»!! ثم تطورت الحملة لتدعو إلى تصفية الوكالة وإقامة وكالة أخرى غير داعمة للإرهاب!! ومارست الولايات المتحدة ضغوطًا شديدة على المفوض العام للوكالة «فيليب زارينى» لفصل تسعة من الموظفين «المشتبه بهم» وإجراء تحقيق شامل للكشف عن أى موظفين آخرين «مشتبه بهم» وفصلهم، وسط مزاعم إسرائيلية بوجود هؤلاء «المشتبه بهم» ودعوة وزير الخارجية الصهيونى مفوض الوكالة العام للاستقالة، وهكذا أصبحت الوكالة خلال أيام قليلة موضوعًا للاتهامات والدعوة للامتناع عن تمويلها بل ولتصفيتها دون انتظار لنتائج التحقيقات التى أعلن أمين عام الأمم المتحدة أنطونيو جوتيريش تكليف أجهزة الرقابة فى المنظمة الدولية بإجرائها، علمًا بأن جوتيريش نفسه يتعرض لحملة إسرائيلية ضارية بسبب تصريحاته الانتقادية للدولة الصهيونية، ومنها ضرورة النظر إلى عملية «فيضان الأقصى» على ضوء وجود الاحتلال الصهيونى وقمعه للشعب الفلسطينى طوال خمسة وسبعين عامًا، ثم تصريحه بأن غزة قد تحولت إلى «مقبرة مفتوحة» وإلى «مقبرة مفتوحة للأطفال» بما تتضمنه مثل هذه التصريحات من انتقاد للوحشية الإسرائيلية ضد الشعب الفلسطينى.
المجرم هو القاضى والجلاد!
ومن الضرورى بصورة مطلقة هنا أن نشير إلى الملاحظات التالية:
1 - إن وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل لاجئى فلسطين فى الشرق الأدنى «وهذا هو اسمها الرسمى بالكامل تضم فى صفوفها حوالى ثلاثين ألف موظف منهم (١٣ ألفاً ـ ثلاثة عشر ألفاً تقريبًا)» أى قرابة نصفهم يعملون فى قطاع غزة وحده، والباقون ينشطون فى الضفة الغربية والقدس الشرقية والأردن وسوريا ولبنان فهل «الاشتباه» فى تعاون «١٢ فردًا» من (١٣ ألف موظف فى غزة) و(٣٠ ألفا فى بقية الساحات) ويقدمون خدماتهم الضرورية لحوالى ستة ملايين لاجئ فلسطينى فى مخيمات اللجوء وخارجها، هل هذا «الاشتباه» يُبرر قطع الدعم المالى عن «الأونروا» والملايين الستة التى تقدم خدماتها لهم، بل وتصفية الوكالة؟؟!! علمًا بأن هذا «الاشتباه» هو نفسه محاط بشبهات البطلان والزيف كما سنوضح لاحقا، ويكفى أن «التهمة» موجهة من جانب جهاز مخابرات دولة معادية «الموساد الإسرائيلى» المعروفة بتاريخها الإجرامى والتآمرى.
2 - معروف أن قطاع غزة يواجه كارثة إنسانية رهيبة من الأكثر قسوة فى تاريخ الحروب عموما، بسبب حرب الإبادة الهمجية التى تشنها الدولة الصهيونية ضد سكانه، والتى أدت إلى استشهاد (٢٧ ألف) فلسطينى وجرح أكثر من ٦٥ ألفًا وتدمير ثلثى المنازل والغالبية الساحقة من المستشفيات والمرافق الصحية والبنية التحتية، وإلى حالة مجاعة فعلية، ونقص فادح لكل مقومات الحياة مما يعرفه العالم كله فلا نرى حاجة لشرح تفاصيله.
ومعروف أن وكالة إغاثة وتشغيل اللاجئين بموظفيها الثلاثة عشر ألفا هى أكبر منظمات الإغاثة الإنسانية فى القطاع، وأنها تدير عشرات المدارس والملاجئ والعيادات الطبية ومخازن المؤن ومواد الإغاثة الضرورية وغيرها من المرافق، كما تقوم بدور بارز فى توزيع مختلف مواد الإغاثة الضرورية التى تدخل القطاع «مع الصليب الأحمر الدولى والهلال الأحمر الفلسطينى) وتوفِّر مدارسها ومنشآتها الملاذ لأعداد كبيرة من أبناء الشعب الفلسطينى مما جعلها هدفا للقصف الصهيونى!! ونتيجة لهذا ارتقى أكثر من ١٥٠ شهيدا من موظفى الوكالة.
3 - وفى ظل ظروف كهذه فإن قطع التمويل عن وكالة إغاثة وتشغيل اللاجئين ومرافقها فى غزة يعنى زيادة قسوة الكارثة الإنسانية التى يواجهها الشعب الفلسطينى فى القطاع، علمًا بأن الولايات المتحدة هى أكبر ممولى الوكالة، وأن أمريكا والاتحاد الأوروبى وبقية الدول الغربية الغنية التى قررت تعليق تمويل وكالة غوث وتشغيل اللاجئين تقدم أكثر من ثمانين بالمائة (٨٠٪) من مصادر التمويل، الأمر الذى يعنى تقليصًا حادًا لقدرة الوكالة على القيام بمهامها فى ظروف الكارثة الإنسانية الرهيبة التى يواجهها قطاع غزة، ومن ثم جريمة جديدة ضد الإنسانية تقوم بها الدول الغربية ضد الشعب الفلسطينى فى القطاع، تضاف إلى الجرائم الوحشية التى ترتكبها إسرائيل ضد الشعب الفلسطينى، مستندة إلى الدعم العسكرى والاقتصادى والسياسى الذى تقدمه أمريكا والدول الغربية الكبرى. وبتعبير آخر فإن قطع التمويل هو مشاركة مباشرة فى حرب الإبادة التى يواجهها الشعب الفلسطينى فى غزة وفرض العقوبات الجماعية على هذا الشعب، الذى تمثل «الأونروا» العمود الفقرى للمساعدات الإنسانية المقدمة إليه باعتراف كبار المسئولين الدوليين وفى مقدمتهم أنطونيو جوتيريش أمين عام الأمم المتحدة، وتيدروس أوهانوم رئيس منظمة الصحة العالمية وعدد من رؤساء المنظمات الإنسانية التابعة للأمم المتحدة الذين دعوا الدول المانحة لإعادة النظر فى قراراتها بوقف التمويل واعتبروه قرارًا مُسيسًا ومدمرًا لمنظومة الجهود الإنسانية الدولية فى قطاع غزة «انظر: جوجل- مواقع: هيئة الأمم المتحدة- الأونروا- منظمة الصحة العالمية وغيرها من المنظمات الإنسانية التابعة للأمم المتحدة».
وبالمناسبة فإن من الجدير بالذكر أن هذه ليست المرة الأولى التى تقطع فيها أمريكا التمويل عن منظمة «الأونروا»، فقد سبق أن قطعه ترامب عام ٢٠١٨ فى سياق جهوده المحمومة لتصفية القضية الفلسطينية، وظل التمويل الأمريكى للأنروا مقطوعا حتى عام ٢٠٢١ حين أعاده بايدن فى سياق رؤيته لعودة أمريكا للعب دور أكثر نشاطا فى الشرق الأوسط وإدماج الدولة الصهيونية فى المنطقة بدرجة أكبر، وتطبيع علاقاتها بدول الخليج وغيرها من الدول العربية فى إطار ما يسمى بـ«حل الدولتين».
4 - والحقيقة أن التذرع بما تسميه الدولة الصهيونية «ضلوع» أو «تورط» عدد محدود من موظفى الأونروا الفلسطينيين فى عملية «طوفان الأقصى» هو حجة أكثر من داهية، وقد أخطأ المفوض العام للوكالة حين قرر فصل تسعة من موظفى الوكالة تحت ضغوط أمريكية وإسرائيلية، دون إجراء تحقيق معهم، خاصة أن الأمين العام للمنظمة الدولية كان قد أصدر قرارا بتشكيل لجنة رفيعة المستوى من أجهزة التفتيش والرقابة فى الأمم المتحدة للتحقيق فى مدى جدية الاتهام الإسرائيلى لذلك العدد المحدود من موظفى «الأونروا» وهو ما يمثل استباقا لعمل اللجنة المذكورة، وانتهاكا للحقوق القانونية الثابتة لهؤلاء الموظفين، علما بأنهم فلسطينيون، وأن اتهامهم جاء من جانب جهاز مخابرات تابع لدولة محتلة لوطنهم ومعادية لشعبهم، وتشن عليه «حرب إبادة» همجية تنظر محكمة العدل الدولية قضية بشأنها، وهذه الدولة تواصل ارتكاب المجازر الوحشية ضد الشعب الفلسطينى كل يوم أمام العالم كله دون مبالاة بأبسط قواعد القانون الدولى، ويمارس زعماؤها الكذب الوقح طوال تاريخها، وحتى بشأن وقائع تجرى أمام أعين العالم كله.. ومثل هذا الدولة لا يمكن أخذ اتهاماتها لأى طرف فلسطينى بجدية أصلا، فضلا عن معاقبة الناس بدون محاكمة عادلة أو حتى تحقيق أمام لجنة مختصة كان قد صدر قرار بتشكيلها!
ماذا نحن فاعلون؟؟
قرارات أمريكا وحلفائها بقطع التمويل عن وكالة الأونروا هى قرارات إجرامية بحق الشعب الفلسطينى بصورة لا تحتمل اللبس وآثارها الكارثية على هذا الشعب الشقيق كارثية بصورة لا تحتمل السكوت عليها، وبديهى أن كلمات الشجب والإدانة العربية المألوفة لن تجدى نفعًا، والمطلوب هو إثارة هذه القضية أمام جميع المحافل الدولية وفضح الانحياز الأمريكى والغربى المطلق للعدو الصهيونى حتى لو كانت تلك الدول لن تتراجع عن مواقفها المشينة، فمن الضرورى تعزيز التحول الكبير الجارى فى الرأى العام العالمى نحو دعم الشعب الفلسطينى.
>> غير أن الأمر الأهم ـ والذى هو فى مقدور الدول العربية الغنية ولن يكلفها كثيرا ـ هو تعويض النقص الكبير الذى تتعرض له موارد الأونروا وتشير صفحات الوكالة على «جوجل» إلى موازنتها السنوية تدور حول مليار ومائتى مليون دولار فى المتوسط لتغطية أنشطتها فى الساحات الخمس التى يوجد بها لاجئون فلسطينيون من سكان المخيمات (١٫٢ مليار دولار) «غزة، والضفة الغربية والقدس الشرقية والأردن وسوريا ولبنان»، ويحتاج قطاع غزة هذا العام بالذات إلى مساعدات تقتضى زيادة هذا المبلغ، ونعتقد أنه مبلغ تافه بالمقارنة بالموارد الضخمة للدول البترولية العربية، ويمكن تغطيته بسهولة لمواجهة الظرف الكارثى بالغ القسوة الذى يواجهه أشقاؤنا فى غزة، ولعل هذا أقل واجب يمكن للدول العربية القيام به.
>> أما إذا بلغ التقاعس والتخاذل بالدول العربية الغنية إلى درجة القعود عن توفير هذا المبلغ وهو ما لا نستبعده فيجب أن تلجأ القوى الشعبية العربية كالأحزاب والنقابات ومختلف منظمات المجتمع المدنى إلى جمع التبرعات من المواطنين العرب، وفتح حسابات تذهب حصيلتها إلى وكالة الأونروا لتعزيز موازنتها التى أصيبت بضربة قاسية مع إعطاء الأولوية لإغاثة أشقائنا فى غزة، كما يمكن للكتاب والصحفيين والفنانين العرب أن يدعوا زملاءهم فى مختلف أنحاء العالم لتنظيم حملات تبرع تذهب حصيلتها إلى الأونروا وإلى غيرها من منظمات الإغاثة الفلسطينية والدولية الناشطة فى القطاع الباسل ولعل هذا أقل واجب تفرضه العروبة والإنسانية.