د. محمد فراج يكتب : مصر فى البريكس
قرار قمة البريكس فى جوهانسبرج بقبول طلب مصر للانضمام إلى المجموعة، خبر بالغ الأهمية أثلج قلب كل مصرى.. فهو يعنى اعترافًا بوزن مصر الحضارى والاستراتيجى والاقتصادى، وأهميتها كدولة محورية فى المنطقة من جانب دول بأهمية وحجم الصين وروسيا والهند والبرازيل وجنوب أفريقيا من ناحية. ولابد هنا من ملاحظة أن مصر تم اختيارها للانضمام إلى المجموعة ضمن ست دول «مصر والسعودية والإمارات وإيران والأرجنتين واثيوبيا» من بين حوالى عشرين دولة أبدت رسميًا رغبتها فى الانضمام إلى البريكس.
ومن ناحية أخرى فإن القرار يفتح أمام مصر الباب للاستفادة من المزايا الاقتصادية والسياسية الكبيرة التى يتيحها الانضمام إلى مجموعة البريكس، بما لها من وزن ودور متزايدين فى العلاقات الاقتصادية والسياسية الدولية، ويجب هنا أن نلاحظ أن قرار المجموعة بتوسيع عضويتها «بعد اقتصارها على دولها الخمس منذ انضمام جنوب أفريقيا عام ٢٠١٠ إلى الأعضاء المؤسسين الأربعة» يشير إلى عزم البريكس على توسيع دورها وزيادة تأثيره فى العلاقات الدولية، فى اتجاه بناء عالم متعدد الأقطاب، ووضع حد لهيمنة القطب الواحد الأمريكى - الغربى على العالم.
ويُمثل انضمام الدول الست إلى البريكس إضافة هامة إلى المجموعة «التى تمثل ٢٦٪ من حجم الناتج المحلى الإجمالى العالمى» سواء من الناحية الاقتصادية أو البشرية أو الأهمية الاستراتيجية والتأثير السياسى. وحسب أرقام البنك الدولى لعام ٢٠٢٢ يبلغ الناتج المحلى لمصر (حوالى ٤٧٧ مليار دولار) وللسعودية (١.١٠٨ تريليون دولار/ تريليون ومائة وثمانية مليارات دولار) وللإمارات (٥٠٧ مليار دولار) ولإيران (٣٨٨.٥ مليار دولار) وللأرجنتين (٦٢٢ مليار دولار) وأخيرًا لإثيوبيا (١٢٦ مليار دولار) بما يبلغ مجموعه أكثر من ٣.٢ تريليون دولار/ ثلاثة تريليونات ومائتى مليار دولار وهو ما يرفع مساهمة البريكس فى الناتج المحلى العالمى إلي أكثر من ٢٩٪. ويجب هنا أن نشير إلى الأهمية النسبية لبعض الدول من حيث إنتاج موارد الطاقة «السعودية والإمارات وإيران، بالإضافة إلى روسيا العضو القديم فى المجموعة» أو من حيث تصدير الحبوب «روسيا التى أضيفت إليها الأرجنتين» وإلى تكامل الثروات الطبيعية والمنتجات الصناعية، وإلى عنصر بالغ الأهمية كالموقع والإشراف على طرق التجارة العالمية كحال مصر «قناة السويس» والإطلال على البحرين الأحمر والمتوسط.. وغير ذلك من الاعتبارات التى تجعل من انضمام الدول الست إلى البريكس إضافة مهمة إلى المجموعة، من شأنها أن تعزّز موقعها أكثر فى الاقتصاد العالمى والعلاقات الدولية وسعيها لإنهاء أوضاع الهيمنة الاقتصادية والتجارية والعسكرية الأمريكية والغربية، وبناء عالم متعدد الأقطاب، بما يحقق مصالح مختلف دول العالم بصورة أكثر عدالة وتوازنًا وبصورة أخص مصالح الدول الصغيرة والمتوسطة ودول «الجنوب» ذات الاقتصادات الناشئة.
وقد أكدت كلمات الزعماء المشاركين فى قمة البريكس على هذه المعانى، وعلى ضرورة احترام مبادئ العدالة والقانون الدولى وميثاق الأمم المتحدة وحقوق الشعوب فى التنمية والسلام كمبادئ موجهة للعلاقات الدولية.
لا للعقوبات الفردية العدوانية
وانطلاقا من هذه المبادئ أعلنت قمة البريكس الخامسة عشرة رفضها من حيث المبدأ لسياسة العقوبات العدوانية الفردية التى تستخدمها الولايات المتحدة والدول الغربية الكبرى «دون أن تسميها» كسلاح لحصار الدول التى يعتبرها الغرب «مارقة» وخنق اقتصاداتها وتجويع شعوبها، والانعكاسات السلبية لهذه العقوبات ضد الدول التى لا تلتزم بالعقوبات الغربية على «المارقين»، وهو ما ينطبق على حالة العقوبات الغربية ضد روسيا، بما لها من تأثير على أسعار البترول والغاز وإمدادات الحبوب، تدفع ثمنه الدول النامية، كما ينطبق هذا على سوريا التى تحاصرها الدول الغربية بعقوبات بالغة القسوة، بما فيها قانون قيصر الأمريكى، الذى يفرض عقوبات على أى دولة تنتهك بنوده! الأمر الذى يعنى محاولة غير إنسانية لتجويع الشعب السورى والحيلولة دون إعادة إعمار بلاده وعودة لاجئيه ونازحيه إلى ديارهم.. وتتعدد الحالات من كوريا الشمالية شرقا إلى كوبا غربا دون سند من قانون دولى، فى ظل ازدواجية فاضحة للمعايير.. والحقيقة أن هذا الموقف من جانب قمة البريكس هو لطمة لسياسة الهيمنة، كما أن وجود البريكس نفسه يضعف كثيرا إمكانية تحقيق هذه السياسة العقابية العدوانية لأهدافها.
التبادل التجارى بالعملات الوطنية
معروف أن ما يجمع البريكس منذ تأسيسها عام ٢٠٠٦ (بين الصين وروسيا والهند والبرازيل) هو التوافق على رفض الهيمنة الأمريكية والنظام العالمى أحادى القطبية، والتركيز على التقارب فى المجال الاقتصادى وتعزيز علاقاتها الاقتصادية بالدول الصاعدة والتوسع فى التبادل التجارى فيما بينها، ومع الدول الأخرى، بما يضعف من هيمنة الدولار الأمريكى بالذات على التجارة العالمية، باعتباره أحد أهم أدوات الهيمنة الأمريكية.
وقد تعزز هذا التوجه الأخير بالذات «نعنى التبادل بالعملات الوطنية» بصورة خاصة فى السنوات القليلة الماضية، وأصبح أكثر وضوحًا بصورة خاصة فى التبادل بين روسيا والصين وبين روسيا والهند، كما امتد ليشمل دولا عديدة أو ليتوسع فى التبادل التجارى معها، ومن أهمها مصر وتركيا وإيران والجزائر وفيتنام واندونيسيا. كما أجرت روسيا مفاوضات مع عدد من الشركاء التجاريين للتوصل إلى سعر صرف مرن لعملاتها مقابل الروبل الروسى. وبلغ التبادل التجارى بالعملات الوطنية بين الصين وروسيا مثلا ما قيمته حوالى ١٥٠ مليار دولار عام ٢٠٢٢، ومن المنتظر أن يتجاوز المائتى مليار دولار هذا العام، كما يتزايد التبادل بالعملات الوطنية فيما بين دول البريكس (روسيا والهند مثلا) ومع شركائها التجاريين بصورة كبيرة خلال العامين الأخيرين.
إلاّ أن الاختراق بالغ الدلالة لهيمنة الدولار، وخاصة على أسواق البترول قد عبرت عنه صفقة تم الاتفاق عليها مؤخرا بين الإمارات والهند (درهم مقابل الروبية)، كما تجرى محادثات بين السعودية والصين حول التبادل بالعملة الوطنية (ريال مقابل اليوان)، فيما يتعلق بأجزاء من الصادرات والواردات، الأمر الذى يعنى كسر احتكار الدولار الأمريكى كعملة وحيدة للتداول فى أسواق البترول.
وقد تضمنت مقررات قمة جوهانسبرج الدعوة إلى التوسع فى مجال التبادل بالعملات الوطنية، وإذا وضعنا فى اعتبارنا حجم التبادل التجارى الضخم بين هذه البلدان (أكثر من خمسمائة مليار دولار) ثم التوسع الذى سينشأ عن انضمام الدول الست الجديدة، وخاصة فيما يتصل ببيع وشراء البترول (والصين والهند هما أكبر مستهلكين له خارج الولايات المتحدة) لأمكن أن نتصور الخسائر التى ستصيب الدولار الأمريكى والتى ستتزايد باستمرار.
<<<
غير أن من الضرورى هنا أن نضع فى اعتبارنا حقيقة مهمة للغاية. تلك هى أن نصيب الدولار من الهيمنة على التجارة العالمية قد تراجع خلال العامين أو الثلاثة أعوام الأخيرة من (٨٨٪) إلى (٨٣٪).. أى بنسبة خمسة فى المائة.. وصحيح أنه مع كل ما أشرنا إليه من تطورات وتوجهات فإن نسبة سيطرة الدولار على التجارة الدولية مرشحة لأن تتراجع بمعدلات أكبر.. لكن هذه عملية تاريخية ترتبط بتعديل موازين القوى فى الاقتصاد العالمى والتجارة الدولية.. وهى عملية لا تتم بين يوم وليلة بل تحتاج إلى وقت وجهد.. لكن الأمر الأهم هو أن هذه العملية تسير فى الاتجاه الصحيح، وبخطوات متسارعة.
وهنا لابد أن نشير إلى أن تسريع تطور هذه العملية يرتبط بتطوير اقتصادات البلدان النامية، فأى دولة متقدمة كـ«الصين أو روسيا مثلا» حينما تتلقى مقابل صادراتها إلى دولة أقل نموًا بالعملة الوطنية للدولة الأخيرة، لا تستطيع أن تقبل إلا بمقدار ما يمكنها استيراده من الدولة الأقل نموًا، وإلا فإنها تخاطر بتكديس عملة لا قيمة لها فى الأسواق الدولية.. وهذا ما لا يمكن أن تقبل به أى دولة. وبتعبير آخر فإنك لا تستطيع أن تتبادل بعملتك الوطنية، إلا بقدر ما تستطيع أن تصدر لشريكك. والفائدة المؤكدة هنا هى أنك تقلل من احتياجك للدولارات، ومن ضغطها على عملتك الوطنية وأسعار صرفها، لكنك لابد أن تقدم صادرات «أو عملة صعبة» مقابل ما تستورد.
الجانب الآخر للحرب على الدولار
الجانب الآخر للحرب على هيمنة الدولار، والذى لا يقل أهمية هو التوجه إلى تقليص الاعتماد على الدولار فى تكوين الاحتياطيات الدولية للبنوك المركزية، والاستثمار فى سندات الخزانة الأمريكية وهو توجه بدأته الصين وروسيا منذ عدة سنوات إذ عمدت الدولتان إلى تنويع سلة احتياطياتها بإحلال نسبة أكبر من الذهب والعملات الدولية الأخرى محل الدولار، وتقليص الاستثمارات فى سندات الخزانة الأمريكية. وتمضى الصين فى هذا الاتجاه بمعدلات غير سريعة نظرًا للتشابك الشديد بين اقتصادها والاقتصاد الأمريكى، وتخلصت من نحو مائة مليار دولار من سندات الخزانة الأمريكية، لكنها تظل ثانى مستثمر فيها بعد اليابان، بنصيب يبلغ نحو (١٢٠٠ مليار دولار)، بينما عمدت روسيا للتخلص من السندات الأمريكية بمعدلات حادة لتنخفض من أكثر من (١٢٠ مليار دولار) إلى بضعة مليارات.
وبصورة عامة فإن اتجاها عاما بدأ ينتشر بين دول العالم المالكة للاستثمارات والفوائض المالية، لتنويع محافظها الاستثمارية، والأسواق التى تستثمر فيها فوائضها، لتفادى الأزمات المتكررة فى السوق الأمريكية، وتقلبات واشنطن السياسية التى تقوم فى إطارها بفرض العقوبات الاقتصادية، وتجميد أصول وودائع الدول التى تنقلب عليها، وهو التوجه الذى تشجعه البريكس.
وفى إطار مواجهة سياسات الهيمنة الأمريكية والغربية التى تستخدم مؤسسات التمويل الدولية (مؤسسات بريتون وودز وخاصة البنك الدولى وصندوق النقد الدولى) لجأت دول البريكس إلى تأسيس بنك للاستثمار برأسمال قدره (مائة مليار دولار) مقره شنغهاى كبديل عن البنك الدولى، «كما تسعى لتأسيس بديل عن صندوق النقد» وصحيح أن هذا مبلغ ضئيل بالقياس إلى القروض والاستثمارات التى يستطيع البنك الدولى تقديمها، لكن المهم هنا هو أن الشروط الاستعمارية غير العادلة التى يفرضها البنك والصندوق، غير موجودة فى تجربة البريكس.. والهم هنا هو إبراز نموذج لتعامل عادل وغير تعسفى كتعاملات البنك والصندوق الدوليين، وعلى أسس اقتصادية سليمة بالطبع.. والمهم أيضًا أن «رحلة الألف ميل تبدأ بخطوة»..
<<<
مع بداية العام القادم ٢٠٢٤ تنضم مصر والدول الخمس «السعودية والإمارات وإيران والأرجنتين وأثيوبيا» إلى البريكس، وتبدأ عضويتها الرسمية الفاعلة فى المجموعة، وتشارك فى جهود بناء نظام اقتصادى عالمى جديد، وينفتح أمامها الباب للاستفادة بمزايا عضوية المجموعة، وهى خطوة مهمة للغاية نأمل أن تمثل فاتحة خير لبلادنا، وتستحق أن نهنئ شعبنا بها.
حفظ الله مصر ورعاها..