د. محمد فراج يكتب : ليس كل ما يلمع ذهبًا.. مشكلات كبرى تواجه «طريق الهند - أوروبا» (٢)
إسرائيل المستفيد الأول من المشروع الأمريكى
تحدثنا فى الجزء الأول من هذا المقال «الأموال - ١ أكتوبر ٢٠٢٣» عن الملامح العامة لمشروع الطريق التجارى «الهند - أوروبا» عبر منطقة الشرق الأوسط وذكرنا أنه يمثل محاولة لإعادة رسم خرائط منطقة الشرق الأوسط بل وأيضًا محاولة لإعادة رسم خرائط جزء كبير من طرق التجارة الدولية بين الشرق الغرب، وخاصة بين الصين وأوروبا مرورًا بالشرق الأوسط، ولإضعاف النفوذ الاقتصادى والسياسى الكبير الذى حققته الصين فى الشرق الأوسط وأفريقيا.
وقد تعمدنا استخدام تعبير «محاولة» فى الحديث عن أهداف هذا المشروع الذى تتبناه الولايات المتحدة الأمريكية والذى أثارت وسائل الإعلام الغربية ضجة هائلة حوله.. لأن المشروع يثير تساؤلات ويواجه مشكلات اقتصادية واستراتيجية وتمويلية كبيرة - إن لم تكن كبرى - تستحق التوقف أمامها بإمعان. ويؤدى بنا التحليل الجدى إلى أن الضجة الهائلة التى أثارتها الولايات المتحدة تنطوى على قدر كبير من الدعاية والمبالغة والتقليد بالتمنى ومن ذلك وصف الرئيس الأمريكى عن المشروع أنه قول «سيغير قواعد اللعبة».
وقد أوضحنا قبل كل شيء أن تعبير التجارة بين الشرق والغرب الذى يستخدمه الداعمون للمشروع ينطبق على تجارة الصين ودول جنوب شرق آسيا الصاعدة «النمور الآسيوية» مع أوروبا «وأمريكا بالطبع» أكثر بكثير جدا مما ينطبق على تجارة الهند لأن الناتج المحلى الإجمالى للصين وحدها يزيد على سبعة عشر تريليون دولار، بينما يبلغ ناتج الهند الإجمالى أقل من أربعة تريليونات دولار ونضيف أن صادرات الصين من السلع والخدمات تبلغ أربعة تريليونات دولار بينما تبلغ صادرات الهند ٧٥٠ مليار فقط منها ٤٢٠ مليار دولار فقط من الصادرات السلعية، والباقى خدمات وبرمجيات «حسب أرقام ٢٠٢٢ الصادرة عن المنظمات الدولية».
كما يشير التحليل الجدى إلي أن قناة السويس تظل هى الطريق الأفضل للتجارة الدولية بين الشرق والغرب سواء من ناحية التكلفة أو اختصار الوقت بما في ذلك للتجارة الهندية نفسها لأن السلع يتم شحنها من الموانئ الهندية إلى الموانئ الأوروبية مباشرة، دون حاجة إلى تفريغها فى دبى ثم نقلها بالقطارات عبر الإمارات والسعودية إلى إسرائيل ليعاد شحنها مرة أخرى بالسفن إلى أوروبا!! فضلا عن ضعف طاقة النقل بالقطارات مقارنة بالسفن، والنفقات الهائلة اللازمة لإشاء شبكة للسكة الحديدة بين الإمارات وإسرائيل مرورا بالسعودية والأردن!
«راجع بالتفصيل - الأموال ١/١٠ / ٢٠٢٣»..
استثمارات هائلة من يدفعها؟
والحقيقة أنهذه المحاولة الأمريكية لهندسة طرق التجارة الدولية وفقا لرغبات واشنطن تماما كما تحاول أمريكا «هندسة» كل شىء في العالم وفقا لمصالحها، هى محاولة يحتاج تنفيذها إلى استثمارات هائلة تبلغ عشرات المليارات من الدولارات إن لم يكن مئات المليارات لإقامة شبكة ضخمة من خطوط السكك الحديدية عبر الجزيرة العربية كلها، وحتى ساحل البحر المتوسط تتحرك عبرها قطارات لا حصر لعددها، ومحطات ونفقات صيانة..الخ، ثم إنشاءات فى الموانئ..الخ، فمن سيدفع هذه المبالغ الهائلة؟ معروف أن الولايات المتحدة ترسم الخطط و«تهتدى» المشروعات ثم تطلب من الآخرين وخاصة الاتحاد الأوروبى ودول الخليج أن تدفع!! فما هو الحافز لدى دول الخليج أو الاتحاد الأوروبى لدفع هذه الأموال الطائلة؟ وماذا تستفيد اقتصاداتها؟ لا شىء اللهم إلا رسوم المرور لجزء من التجارة الهندية مع أوروبا (!) علمًا بأن الدول الأوروبية لا حافز لديها لدفع تكلفة أكبر لنقل السلع من الهند وإليها، بينما الطريق الطبيعى الأسهل والأسرع والأقل تكلفة «نعنى قناة السويس» موجود.. أما دول الخليج فقد تعلمت عبر تجارب مريرة أن تفكر جيدا قبل أن تنفق أموالها فى مشروعات قليلة الجدوى أو لا جدوى منها أصلا.
إسرائيل.. المستفيد الأكبر!
والحقيقة أننا بقليل من التأمل سنكتشف أن المستفيد الأول والمباشر من هذا المشروع ذى التكلفة الباهظة، هى إسرائيل التى تتحول ـ فى حالة تنفيذه ــ إلى مركز إقليمى كبير للتجارة بين الهند وأوروبا بالإضافة إلى جزء كبير من تجارة دول الخليج مع أوروبا ودون أن تدفع بنسًا واحدًا، بينما تجنى مكاسب اقتصادية واستراتيجية ضخمة.
والحقيقة أن الولايات المتحدة تمارس خلال الأعوام الأخيرة ضغوطا هائلة على دول الخليج لتفرض عليها تطبيع العلاقات مع إسرائيل ودون قيد أو شرط، بما لذلك من آثار بالغة الفداحة على علاقات القوى والوضع الاسترايتجى فى المنطقة، وعلى القضية الفلسطينية بالطبع.
ومعروف أن السعودية لديها شروط سياسية وأمنية وغيرها للتجاوب مع هذا الطلب الأمريكى الملح، مما لا يتسع المجال لمناقشته هنا.
ولا يحتاج الأمر إلى ذكاء كبير لاكتشاف أن الولايات المتحدة تريد أن تفتح الباب واسعا أمام التطبيع الخليجى- الإسرائيلى من خلال هذا المشروع «الهند- أوروبا» الذى تحيطه «ببروباجندا» واسعة ومكثفة حول طريق جديد للتجارة الدولية «الهند - أروبا» واختصار طريق النقل بين بومباى والموانئ الأوروبية بنسبة ٤٠% وغير ذلك من الخرافات التى لا تصمد لأى نقاش جدى.
وبما يعنيه هذا التطبيع من فتح الباب واسعا أمام تدفق الاستثمارات الخليجية إلى إسرائيل لتعطى اقتصادها قوة دفع هائلة لطالما حلم بها الزعماء الصهاينة وفى مقدمتهم «شيمون بيريز» الذى تحدث عن «شرق أوسط جديد تبنيه العبقرية اليهودية والأموال الخليجي والأيدى العاملة العربية الرخيصة!!».
هذا هو الهدف الحقيقى الكبير الذى تحاول أمريكا تحقيقه من خلال مشروعها المحاط بدخان البروباجندا حول «الطريق الجديد للتجارة الدولية» والذى يزعم بايدن أنه «سيغير قواعد اللعبة» فى العالم!
والحقيقة أنه سيغير المنطقة إذا ما تم تنفيذه، ولنلاحظ أيضًا ما يقال عن طرق جديدة لكابلات نقل المعلومات «بعيدًا عن مصر» وعن نقل للطاقة الجديدة «وربما التقليدية - أى النفط والغاز» بعيدا عن قناة السويس وبعيدا عن سوريا التى كان مخططًا لإقامة خطوط لنقل البترول وغاز الخليج لو كانت قد نجحت مؤامرة إسقاط الدولة لاوطنية السورية لا سمح الله.
أمريكا ليست مطلقة الإرادة
غير أن هذه الخطط الأمريكية «الحقيقية» تواجه عقبات بالغة الجدية ذات طابع اقتصادى وتمويلى واستراتيجى، فالمشروع وفقا لمذكرة التفاهم الذى تم توقيعها على هامش قمة العشرين الأخيرة فى نيودلهى، هو باهظ التكلفة للغاية، وغير مجدٍ اقتصاديًّا لجميع أطرافه باستثناء إسرائيل، ومن الأهمية بمكان كبير ملاحظة أن الهند التى يحمل المشروع اسمها لم تكن بين الأطراف التى وقعت على «مذكرة التفاهم» فى نيودلهى!! وهو أمر ذو دلالة كبرى لمن يريد المناقشة الجدية لهذا المشروع الأمريكى.
أما بالنسبة للذين وقعوا على المذكرة فهناك فارق كبير بين المسايرة بالحديث والتوقيع المبدئى وبين دفع المليارات، ووقت الجد «الدفع» أو التنفيذ تنفتح أبواب كثيرة للتفاوض حول الأنصبة، وتتفتح معها أبواب كثيرة للمماطلة والتملص والفشل، علما بأن الدراسات الهندسية وحدها سوف تستغرق سنوات وأوروبا تعانى من أزمة اقتصادية، ودول الخليج لم تعد كلمة أمريكا لديها مهمة كما كانت فى الأعوام الخوالى، وهى تفكر جديًا قبل أن تنفق أموالها، وتدرس جدوى المشروعات بعناية.
وأما عن الناحية الاستراتيجية وقطع الطريق على النفوذ الصينى المتنامى فى المنطقة وآمال أمريكا فى مشاركة دول الخليج بفاعلية فى قطع الطريق على الصين «بل ومحاربتها من الناحية العملية» هى آمال تتجاهل كثيراً من الوقائع الجديدة فى المنطقة والعالم وكثيرًا من الخطط والمشروعات والمصالح المناهضة لمشروع «طريق الهند - أوروبا» والمتناقضة معه.
وهذا ما نناقشه فى مقالنا القادم..