أسامة أيوب يكتب : الأيام والأحداث الإسلامية الفارقة فى التاريخ الإنسانى (4)
بعد الانتصار فى غزوة الخندق والتى كانت آخر المعارك بين المسلمين فى المدينة وقريش وحلفائها، وبعد أن دخلت قبائل كثيرة وأحياء في شبه جزيرة العرب الإسلام وحيث صار المسلمون فى المدينة قوة كبرى مُعترفاً بها، جاء قرار الرسول بالتوجه إلى مكة لأداء العمرة إعلانًا وتأكيدا لهذه القوة، ورغم أنه صلى الله عليه وسلم أعلن أنه جاء ومن معه من المسلمين مُعتمرًا مسالمًا، إلا أن قريشًا رفضت دخوله بدافع من الصلف والعناد حتى لا تقول العرب إن (محمدًا) دخل مكة والحرم عنوة.
وفي نفس الوقت أدركت قريش أنها إن منعت (محمداً) والمسلمين من دخول الحرم سالمًا فإنه قد يدخلها بعد ذلك غازيًا مُحاربًا، كما أن منع المسلمين من العُمرة يؤلب على قريش العرب، حيث يشيع في شبه الجزيرة أن قريشًا تحول بين الناس والحرم وهو الأمر الذي سيلحق الأذى بها وبقوافلها التجارية التي تسافر شمالا وجنوبا وهى آمنة، بقدر ما يزعزع مكانتها السياسية بين العرب.
ولذا فقد أسفرت المفاوضات بين وفد قريش والرسول عن عودته والمسلمين هذا العام مع تعهُد قريش بالسماح لهم بأداء العمرة فى العام التالى وحيث سيتم إخلاء مكة لهم حتى ينتهوا من أداء مناسك العمرة، ثم إن وفد قريش طلب عقد صلح مع الرسول والذى عُرف بصلح الحديبية.
<<<
تضمن صُلح الحديبية إضافة إلى عودة الرسول العام التالى لأداء العمرة عقد هدنة بين قريش و”محمد” مُدتها عشر سنوات يأمن فيها الناس، وهو الصلح الذي بدا فى ظاهره خذلانًا للمسلمين سواء من حيث منعهم من العمرة وتأجيلها للعام التالى أو من حيث الهدنة مع المشركين، وهُنا تجدر الإشارة إلى غضب على بن أبى طالب الذي كان يكتب بنود الصلح عندما رفض وفد قريش المفاوض النص الذى يقول فى مقدمته بسم الله الرحمن الرحيم وأن يكتب بدلاً منه بسمك اللهم، ثمَّ عندما رفض الوفد أن يتضمن الصلح “هذا ما تعاهد عليه رسول الله” وأن يكتب بدلاً منه هذا ما تعاهد عليه محمد بن عبدالله، حيث قال رئيس وفد قريش لو كنا نعلم أنك رسول الله ما حاربناك، ولما رفض علي بن أبي طالب ذلك قال له الرسول اكتبها كما قال ولسوف تسام مثلها مستقبلاً، وهو ما تحقق بالفعل بعد توقيع الهدنة بين على ومعاوية، حيث رفض ممثل معاوية فى المفاوضات النص على أن هذا ما تعاهد عليه أمير المؤمنين علي بن أبى طالب، حيث قال لو كنا نعلم أنك أمير المؤمنين ما قاتلناك.
رغم غضب المسلمين إزاء هذا الصلح مع قريش، إلا أنه كان خيرًا كبيرًا، وذلك ما جعل الرسول يوافق عليه، إذ إن سنوات الهدنة العشر سوف تكون فرصة لالتقاط الأنفاس بتوقف الحروب مع قريش والاهتمام بتثبيت دعائم دولة الإسلام فى المدينة وتبليغ الدعوة إلى أرجاء الجزيرة العربية لكسب مزيد من الأرض لصالح الإسلام.
<<<
لم تمر مدة طويلة حتى نقضت قريش وحلفاؤها صُلح الحديبية بالاعتداء على حلفاء النبى بكل غدر لدرجة أنهم ظلوا يطاردون حلفاء الرسول حتى دخلوا الحرم ثم قتلوهم داخل الحرم في انتهاك ليس للصلح فقط ولكن لحُرمة المسجد الحرام أيضًا.
أدركت قريش وزعيمها أبوسفيان أن ما فعله سفاؤها ومن اعتدى معهم ونقض صلح الحديبية سوف يكون له تداعيات خطيرة وأن “محمدًا” سوف ينتقم لمقتل حلفائه وهنا توجه أبوسفيان إلى المدينة محاولاً تدارك الأمر، غير أن محاولاته للاعتذار والإبقاء على الصُلح ساريًا فشلت فشلا ذريعا إذ رفض الرسول مقابلته وكذلك كل الصحابة حتى من جانب خالد بن الوليد وعمرو بن العاص حديثى الإسلام والهجرة، ومن ثمَّ عاد أبوسفيان إلى مكة بخفى حنين وقد تأكد أن رد فعل النبى والمسلمين جراء نقض الهُدنة بات وشيكًا، حيث نبّه قريشًا إلى الخطر القادم.
<<<
وفى المدينة كان قراره صلى الله عليه وسلم بتجهيز جيش لفتح مكة فكان جيشًا يضم عشرة آلاف مقاتل لم تشهد العرب مثله قبل ذلك، ولأنه صلى الله عليه وسلم أراد دخول مكة دون قتال ودون إراقة دماء فى البلد الحرام حفاظًا على صلة الرحم وحق القربى وبما يؤكد أنه نبى الرحمة، لذا جاء أمره ليلة دخول مكة بأن يشعل كل مقاتل نارًا فكانت عشرة آلاف نار أضاءت ليل مكة حتى يعلم المشركون أنه لا قِبل لهم بالتصدى لهذا الجيش وأنه لا مفر من التسليم.
ولأن أبا سفيان زعيم قريش ومكة أدرك بخبرته السياسية هذه الحقيقة وبعد أن تأكد متأخرًا وفى هذه اللحظة الفارقة أن «محمدًا» مؤيد من ربه وأن دعوته حق، كان قراره الحكيم التوجه ليلا إلى الرسول مصطحبًا عمه العباس الذى كان يخفى إسلامه ليستأمنه على قريش وأهل مكة مُعلنًا إسلامه ونطق بالشهادتين أمام الرسول وإن تحفَظَ بعض الوقت فى أن يشهد أن محمدًا رسول الله وقال للعباس: أما هذه فلايزال فى النفس شىء منها ولكنه نطق بها ولم يكن تردده إلا تعبيرًا عن بقايا كُفر وشِرك وكراهية لمحمد بن عبدالله بقدر ما كان تعبيرًا عن تراكمات حسد من بنى أميّة تجاه بنى هاشم الذين جاء منهم نبى.
<<<
ومع بزوغ نهار اليوم كان جيش المسلمين يتقدمهم صلى الله عليه وسلم يدخل مكة من ثلاثة أبواب فاتحًا البلد الحرام دون قتال، حيث خلت مكة من أهلها بعد أن أعلن الرسول أن من أغلق عليه بابه فهو آمن ومن دخل المسجد الحرام فهو آمن ومن دخل بيت أبى سفيان فهو آمن، فهنا تجدر الإشارة إلى أن العباس عم النبى هو الذى اقترح على الرسول أن يعطى شيئًا لأبى سفيان لأنه رجل يحب الزهو والفخر.
<<<
دخل الرسول صلى الله عليه وسلم مكة والمسجد الحرام منتصرًا فاتحًا على فرسه مطاطئ الرأس.. تواضعًا إزاء هذا النصر والفتح المبين الذى جاء تصديقًا لما بشرّه به الله سبحانه وتعالى من قبل الفتح فى قوله تعالى: «إنا فتحنا لك فتحًا مبينًا».
ولطمأنة قريش وأهل مكة تجلّت مشاعر رسول الله باعتباره نبى الرحمة جاء سؤاله لهم بينما كانوا يتوقعون الانتقام لما فعلوه معه ومع المسلمين الضعفاء قبل الهجرة من إيذاء وتعذيب: «ماذا تظنون أنى فاعل بكم؟»، ورهانًا منهم على رحمته وعلى صدقه وأمانته وخُلقه التى عرفوها عنه حتى قبل أن يُبعث جاء ردهم «أخ كريم وابن أخ كريم»، وتصديقًا لرهانهم ولأنه نبى الرحمة كان جوابه «اذهبوا فأنتم الطلقاء».
<<<
الشاهد فى واقعة ذلك الفتح العظيم.. فتح مكة هو أنه مسلك غير مسبوق فى التاريخ الإنسانى باعتبار أن المتوقع والمفترض أن يكون الفاتح منتقمًا ممن آذوه وآذوا أتباعه وعذبوهم طوال ثلاثة عشر عامًا، رغم أنه كان داعيًا لهم للإيمان بالله الواحد وترك الشرك وعبادة أصنام من حجر لا تضر ولا تنفع.
وبدخوله صلى الله عليه وسلم إلى المسجد الحرام وتحطيم الأصنام خارج الكعبة وداخلها كان ذلك الحدث الأعظم فى تاريخ الدعوة الإسلامية إعلانًا بانتهاء الشرك فى مكة وأن يعود المسجد الحرام كما بدأ فى عهد نبى الله إبراهيم وابنه نبى الله إسماعيل، بقدر ما كان إعلانًا بانتصار الإسلام ورفع راية التوحيد فى مكة ثمَّ فى سائر الجزيرة العربية، ولم يغادر الرسول مكة عائدًا إلى المدينة عاصمة الدولة الإسلامية إلا بعد محاربة أهل الطائف شمال مكة وانتصاره عليهم فى غزوة حنين، لتبدأ مرحلة أخرى وأحداثًا أخرى فى تاريخ الدعوة الإسلامية وبعثته صلى الله عليه وسلم كان ذروتها وأهمها على الإطلاق هو فتح مكة.
وللحديث بقية..