أسامة أيوب يكتب : عن فضل شهر شعبان الذي يغفل عنه الناس بين رجب ورمضان
تحويل القبلة في شعبان تشريع فارق وتعظيم للمسجد الحرام
تشريع القبلة في مكة حفظ للعرب حقهم التاريخي
لأن شهر شعبان الذي طالعنا هلاله قبل أيام يمثل بشارة خير باقتراب حلول شهر رمضان المعظم، لذا يتهيأ المسلمون في أرجاء المعمورة لاستقباله بصيام أيام من شعبان بحسب السُنَّة المشرفة واتباعًا للنبي محمد صلى الله عليه وسلم الذى روى الصحابة عنه أنه كان يكثر فيه الصيام مما أضفى على هذا الشهر مكانة خاصة وأكد ما له من فضل بإجماع الأمة الإسلامية.
ولأن شهر شعبان يأتى بعد رجب الشهر الحرام بما له من مكانة إسلامية شديدة الخصوصية باعتباره الشهر الذى حدثت فيه معجزة الإسراء والمعراج فى ليلة السابع والعشرين في السنة الثامنة من البعثة النبوية، وهي المعجزة التى اختص بها المولى الرسول صلى الله عليه وسلم من بين كل الأنبياء والرسل، والتى بلغت ذروتها القصوى بصعوده إلى السماوات اسبع وحتى سدرة المنتهى، حيث عرش الله سبحانه وتعالى، والتى عندها فرض الله الصلوات فى تفرد لها عن كل العبادات التى فرضت بالوحى، بينما فُرضت الصلوات بالأمر المباشر.
ولذا فإن المسلمين يحتفلون بليلة السابع والعشرين من رجب احتفالاً يليق بها، مثلما يحتفلون طوال رمضان الذي يأتى بعد شعبان بإحياء لياليه وصيام أيامه باعتباره الشهر الذي بدأ فيه نزول القران وحيًا من السماء يتنزل به الروح الأمين جبريل وحيث تصادف أن بدء الوحي كان في ليلة السابع والعشرين من رمضان (ليلة القدر) مثلما كان معجزة الإسراء والمعراج فى ليلة السابع والعشرين من رجب.
...
ولتوسط شعبان بين الشهرين المعظمين رجب الحرام ورمضان المعظم، فإنه اكتسب خصوصيته وفضله، ورغم هذه الخصوصية وذلك الفضل فإن الناس كانت، وأحسبهم مازالوا، يغفلون عنه حسبما قال صلى الله عليه وسلم: «ذلك شهر يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان»، ولذا نبه إلى فضله ومكانته موضحًا فضل صيام بعض أو أغلب أيامه لأنه كما قال: فيه تُرفع الأعمال.. أعمال الناس طوال شهور السنة إلى السماء، ولذا قال صلى الله عليه وسلم: «وأحب أن ترفع أعمالى وأنا صائم»، وفى ذلك إشارة للمسلمين بأن رفع الأعمال أثناء الصيام فيه رحمة وغفران للذنوب.
وإذا كان شهر رمضان قد اشتق العرب اسمه من الرمضاء (أي شدة الحر)، حيث تصادف تسميته فى ذروة الصيف، وكان المثل العربي القديم يقول: «كالمتجبر من الرمضاء بالنار»، فإن اسم شعبان يعنى تشعب الخير.. فى دلالة على أن كله خير، وبهذا الخير والفضل يكتسب مكانته بين الشهرين المعظمين.. رجب بوصفه الشهر الحرام الذي يأتى منفردًا بين الأشهر الحرم الأخرى «ذو القعدة وذو الحجة والمحرم» وبين شهر رمضان أفضل الشهور بوصفه شهر الصوم أحد أركان الإسلام الخمسة والشهر الذى نزل فيه القرآن.
...
ولقد اكتسب شعبان خصوصيته ومكانته بين شهور السنة أيضًا باعتباره الشهر الذي تحولت فيه القبلة من المسجد الأقصى المبارك ببيت المقدس إلى المسجد الحرام بمكة المكرمة فى ليلة النصف من الشهر فى السنة الثانية للهجرة، وحيث جاء تحويل القبلة حدثًا وتشريعًا فارقًا تحقيقًا من الله سبحانه وتعالى لأمنية رسوله وسائر المسلمين لأن يولوا وجوههم شطر المسجد الحرام والكعبة المشرفة.
لقد كانت القبلة الأولى قبل الهجرة ومنذ فرض الصلاة فى رحلة الإسراء والمعراج لها دلالتها التى تعني تعظيم مسرى الرسول ومعجزة الإسراء خاصة أن المسلمين كانوا لايزالون فى مكة، غير أن الأمر اختلف بعد الهجرة إلى المدينة حيث اشتاق الرسول والمهاجرون إلى مكة الوطن والمسجد الحرام والبلد الذى شهد أول نزول للوحى والقرآن.
ومع ذلك فإن تحويل القبلة لم يكن يعنى ولا يعنى انتقاصا أو تقليلا من مكانة المسجد الأقصي الذى يوصف بأنه أولى القبلتين وثالث الحرمين بعد المسجد الحرام بمكة والمسجد النبوي بالمدينة، وحيث قال صلى الله عليه وسلم: «لا تُشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد.. المسجد الحرام بمكة ومسجدى هذا والمسجد الأقصى» وفى ذلك دلالة وتأكيد على المكانة السامية والمقدسة للمساجد الثلاثة.
<<<
إن ملمحًا مهمًا فى واقعة تحويل القبلة بحسبانها تشريعا إسلاميا فارقا ينطوى بحسب اجتهادى الشخصى علي أمر مهم أيضا له دلالته السياسية العربية مع الإقرار بعالمية الإسلام وأنه دين للعالم كله، إذ إن تحويل القبلة إلي المسجد الحرام بمكة كان استشرافًا لمستقبل الإسلام وانتشاره في بقاع الأرض خارج الجزيرة العربية، ومن ثمَّ كان اعتماد المسجد الحرام بمكة ليكون قبلة المسلمين جميعًا في الصلاة تكريسًا لتعظيم المسجد الذي هو أول بيت وضع للناس بمكة وتعظيمًا لنبى الله الخليل إبراهيم وابنه نبى الله إسماعيل جد العرب وفي نفس الوقت فإنه يعنى حفظا لحق العرب الذين سبقوا الناس جميعًا فى دخول الإسلام وفي نشره في بقاع الدنيا وللأمم المختلفة، ولأنهم الأمة الذي جاء منها خاتم الرسل وعلي رأسهم نزل الوحى والقرآن ومنها انطلق إلى الأمم الأخرى، ثم إن تحويل القبلة إلي مكة كان استشرافًا لأن الرسول لن يعود إليها بعد الفتح وأن مستقره ومحياه ومماته سيكون في المدينة وأن قبره سيكون بها حتى تكون زيارته منفصلة عن شعائر الحج أو العمرة والزيارة.
<<<
وفى سياق هذا الاستشراف نتوقف عند غزوة حنين بالطائف قرب مكة والتى وقعت بعد الفتح مباشرة والتي كاد المسلمون أن يهزموا فيها من قبيلة هوازن ثم انتصروا بتأييد وتثبيت من الله وبشجاعة الرسول وخطابه فيهم «أنا النبى لا كذب أنا ابن عبدالمطلب»، فقد حدث أن الرسول أغدق الغنائم على بعض المهاجرين وعلى المؤلفة قلوبهم من طلقاء مكة حديثي الإسلام وفي مقدمتهم أبوسفيان بن حرب وابنه معاوية وغيرهما، وهو الأمر الذى أثار حفيظة بعض الأنصار وظنوا أن الرسول فضل عليهم أهله من قريش.
عندئذ كان حديثه صلي الله عليه وسلم إليهم «ألا يرضيكم أن يرجع الناس بالشاة وبالبعير وترجعون برسول الله»، وبكى الأنصار وقالوا رضينا يا رسول الله، ومثلما بكي الأنصار وقتها فإنى أبكى كل مرة قرأت أو ذكرت تلك الواقعة وكلام الرسول ورد الأنصار.
الأكثر إثارة للبكاء ولدمع العيون بعد هذه الترضية هو عندما استطرد الرسول وقال للأنصار: «إن المحيا محياكم والممات مماتكم، والله لو سلك الأنصار شعبًا وسلك الناس شعبًا لسلكت شعب الأنصار، اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار».
<<<
بتلك الكلمات والعبارات التى أكدت حبه صلى الله عليه وسلم للأنصار وإقراره بفضلهم في إيواء المهاجرين بالمدينة.. مقر الدولة الإسلامية الناشئة التي أسسها الرسول ومنها انطلقت الغزوات حتى تم فتح مكة وتطهير الجزيرة العربية من الشرك ومنها انطلقت الدعوة والفتوحات بعد موته إلى الدنيا كلها.. بهذه الكلمات ولهذه الاعتبارات تأكد استشراف أن المدينة ستكون مستقره الأخير وفيها قبره الشريف تصديقًا لقوله للأنصار «إن المحيا محياكم والممات مماتكم» وبذلك حفظ الله ورسوله للمساجد الثلاثة المقدسة مكانتها.. المسجد الحرام قبلة المسلمين والمسجد الأقصى القبلة الأولى ومسرى الرسول ومسجده بالمدينة المنورة، حيث قبره الشريف وحيث تكون زيارته والسلام عليه مقصدًا خاصًا بمقامه ومنفصلا عن الحج والعمرة وزيارة المسجد الحرام.
<<<
كل تلك الذكريات والأحداث والتحولات الفارقة منذ بواكير التاريخ الإسلامي منذ البعثة النبوية.. استدعاها شهر شعبان الذى نعيش أيامه ولياليه.. استعدادًا لاستقبال شهررمضان المعظم، وأحسب أن ذلك كله يُعد من فضل هذا الشهر الذى يتشعب فيه الخير والذى يتعيّن ألا نغفل عنه كما نبهنا صلى الله عليه وسلم.
<< <
ويبقى أخيرًا أن نردد الدعاء: «اللهم بلغنا شهر رمضان على خير».