أسامة أيوب يكتب : الأيام والأحداث الإسلامية الفارقة فى التاريخ الإنسانى (٢)
مع نفحات رمضان المباركة ونحن فى أيام الشهر المُعظَّم الأولى، ومع إحياء لياليه بالقيام والقرآن والدعاء، فإنه ليس أفضل بعد ذلك إلا إحياء سُنَّة الرسول صلى الله عليه وسلم الشريفة وسيرته العطرة التى بدأت بمولده الكريم بل قبل مولده حسبما تبدّى من إشراقات واستشرافات وإشارات تحدثنا عنها فى المقال السابق، وحيث كان مولده أعظم الأحداث الفارقة فى التاريخ الإنسانى، إذ كان بِشارة بمجىء نبى آخر الزمان بآخر الرسالات والكتب السماوية.
كانت سنوات الصِبا والشباب هى المرحلة الثانية فى حياة محمد بن عبدالله والتى قضاها فى رعاية وكفالة عمه أبى طالب بعد وفاة جده عبدالمطلب، وهو فى الثامنة من عمره المبارك، وطوال تلك السنوات ظل يحظى بحب واحترام وتوقير قريش وأهل مكة كلها، وحيث اشتهر بالصادق الأمين.
ظل الشاب محمد بن عبدالله مُحتفظًا بهذا السمت وبتلك الاستقامة طوال سنوات عمله راعيًا للغنم، حتى حدث التحول المهم فى حياته بزواجه من السيدة خديجة بنت خويلد إحدى أشرف وأطهر وأغنى نساء قريش والتى سعت إلى الزواج به بعد أن أدركت بفطرتها السوية المستقيمة أنه رجل مختلف تنطوى شخصيته المتفردة على شىء غامض ومبارك، خاصة بعد أن ربحت تجارتها التى أوكلتها إليه فى رحلة الشام ربحًا غير مسبوق وبعد أن روى لها خادمها ميسرة الذى رافقه فى رحلة التجارة عن شواهد ومشاهد وعلامات تُؤكد أنه رجل مبارك من السماء.
كان فى زواجه من السيدة خديجة حِكمة إلهية فى سياق تلك الحِكم الإهية التى لازمته منذ أن كان نُطفة فى صُلب أبيه ثم جنينًا فى رحم أمه ثم وليدًا يتيم الأب ثم يتيم الأم ثم فى كفالة جده ومن بعده عمه ثم راعيًا للغنم فى بطحاء مكة، وحيث أتاح له رعى الغنم التأمل والتدبر في الكون من حوله، وهو ما أبعده عن السجود للأصنام وعن لهو الشباب، ومن ثمَّ اتسمت شخصيته بالوقار وتبدّت عليه ملامح حِكمة الشيوخ.
ولقد كان زواجه من السيدة خديجة بمثابة نقلة نوعية وتحول اجتماعى كبير بعد أن احترف التجارة وأجاد فنونها وصارت مصدر الرزق الوفير، وحيث صار رب أسرة مسئولا عن رعاية الزوجة والأبناء، بعد أن شاءت القدرة الإلهية أن تنجب السيدة خديجة بعد سن الأربعين ثلاث بنات هن «زينب ورقية وأم كلثوم» وولدًا ذكرًا هو القاسم، وحيث ظلت كنية محمد بن عبدالله بين عشيرته وقريش هى أبوالقاسم.
واستشرافًا للمهمة المقدسة التى تعدّها له السماء.. شاءت الحِكمة الإلهية أيضًا أن تُـحبب إليه الخلوة فى تهيئة له ليكون نبى آخر الزمان وخاتم الرسل والنبيين المبعوث برسالة الإسلام وبآخر الكتب السماوية وهو القرآن، حيث كان يخلو بنفسه في غار حراء على أطراف مكة متعبدًا متحنثًا وكأنه فى انتظار حدث ما لم يكن يعلم ما هو ولا متى ولا كيف سيحدث، ولكن من المؤكد أن خاطرًا مباركًا فى داخله كان دافعه إلى الاستمرار فى الخلوة بالغار والتى تنطوى على مسلك صوفى، وبحسب آراء أقطاب الصوفية السنية فإنه صلى الله عليه وسلم كان أول متصوِّف فى الإسلام بل قبل الإسلام.
وبينما محمد بن عبدالله على هذه الحال، وإذ هو بالغار ذات يوم بعد أن بلغ سن الأربعين أتاه جبريل عليه السلام بأول وحى من الله وبأولى آيات القرآن بعد أن تمثَّل له وهزّه هزًا عنيفًا «ولعله أول تدريب له على تحمُّل جسده البشرى للوحى» قائلا له إقرأ، ولأنه كان أميًا لا يقرأ ولا يكتب أجابه: ما أنا بقارئ، فلما أعاد عليه جبريل الكلام قال: ماذا أقرأ، فرد جبريل «اقرأ باسم ربك الذى خلق، خلق الإنسان من علق، اقرأ وربك الأكرم الذى علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم»، وقبل أن يتركه جبريل أخبره بالحدث الأعظم قائلا: أنا جبريل وأنت رسول الله، وبعدها يهرول محمد بن عبدالله عائدًا إلى بيته يرتعد خوفًا ويتصب عرقًا ويُخبر خديجة بما حدث.. متخوّفًا أن يكون من أتاه فى الغار هو الشيطان وأن ما سمعه منه هو مس من الشيطان.
هنا تتجلى فِطرة السيدة خديجة السليمة السويَّة المؤمِنة وتطمئن زوجها بأن الشيطان لا يستطيع الوصول إليه، فهو كما عرفته وعاشرته يتسم بمكارم الأخلاق والفضائل ولذا فإن السماء لا تخزيه أبدًا، ثم تتجلى فِطرتها السويَّة عندما يُخبرها بأن جبريل عاد مرة أخرى وأنه يراه، فإذا بها تكشف عن ساقيها عندها يُخبرها أنه اختفى، ومن ثمَّ تتأكد وتؤكد له أنه ملك استحى أن يبقى بعد أن كشفت عن ساقيها.
<<<
فى ذلك اليوم بدأت آخر الرسالات السماوية، وبدأت البعثة النبوية المحمدية لهداية قريش وعشيرته الأقربين ثمَّ الهداية البشرية كلها، وإذا كان أول ما نزل من القرآن هو آية اقرأ، فإن فى ذلك الأمر الإلهى للأمة الإسلامية دلالته التى تؤكد أن الإسلام هو دين العلم والتعلُّم ومن ثمَّ العمل وبحسب قوله صلى الله عليه وسلم «طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة».
<<<
فى تلك البيئة التى يسودها الشِرك بالله وعبادة الأصنام خاصة فى مكة مهبط الوحى، فإنه يمكن تصوُّر صعوبة المهمة التى أُوكلت إليه صلي الله عليه وسلم مع قوم ارتبطت مصالحهم الاقتصادية التجارية بتلك الأصنام، بينما تعرضت سلطتهم الزمنية ونفوذهم لتهديد الدين الجديد بعد أن باعدت السنون بينهم وبين دين إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام وبين عبادة الله الواحد فأقاموا الأصنام حول الكعبة فى البيت الحرام وعبدوها.
طوال ثلاثة عشر عامًا ظل صلى الله عليه وسلم يدعو عشيرته الأقربين وقريش وأهل مكة للإسلام وترك عبادة الأصنام، بينما لم يسلم ويدخل في الدين الإسلامى سوى بعض أشراف مكة وقريش وكثير من الفقراء والضعفاء والعبيد الذين تعرضوا للتعذيب والإيذاء دون رحمة.
بل إنه صلى الله عليه وسلم شخصيًا لم يسلم من الإيذاء والاتهام بالسِّحر والكذب وهو ما كان معروفًا بالصادق الأمين، ورغم أن القرآن نزل عربيًا وأهل مكة قوم فصاحة ويعلمون أنه ليس من قول بشر، إلا أن عنادهم واستكبارهم حال بينهم وبين الدخول فى الإسلام.
<<<
ولرفع الأذى عن المسلمين أمرهم الرسول بالهجرة الأولى إلى الحبشة، ثم الهجرة الثانية، إذ إن ملكهم «النجاشى» لا يُظلَّم عنده أحد بحسب وصفه صلى الله عليه وسلم، وهو ما تحقق بالفعل بعد أن رفض النجاشى تسليم المهاجرين المسلمين إلى وفد قريش بقيادة عمرو بن العاص «قبل إسلامه».. إدراكًا منه لأن ما جاء به محمد هو من عند الله، فقد كان مسيحيًا من أهل الكتاب.
كان العام الثامن من البعثة المحمدية هو عام الحزن كما وصفه صلى الله وسلم بعد أن ماتت فيه زوجته السيدة خديجة ثم عمه أبوطالب، ثم تعرضه للإيذاء فى الطائف شمال مكة عندما ذهب يعرض الإسلام علي أهلها، لذا كانت رحلة أو بالأحرى معجزة الإسراء والمعراج بمثابة تسرية من الله عن رسوله ومواساة له غير مسبوقة لغيره من الرسل السابقين.
<<<
بعد ثلاثة عشر عامًا قضاها صلى الله عليه وسلم فى مكة داعيًا إلى الإسلام والتوحيد، ولـمَّا بدا أنه لن يؤمن من أهلها إلا من قد آمن، بدأت مرحلة جديدة فى سيرته العطرة وفى الدعوة الإسلامية بهجرته إلى يثرب «المدينة» والتى كانت عاصمة دولة الإسلام الناشئة ومنها حدث فتح مكة، وحيث كانت الهِجرة أحد أهم الأحداث الإسلامية الفارقة، بعد يوم نزول الوحى وبدء البعثة المحمدية.