أسامة أيوب يكتب : الأيام والأحداث الإسلامية الفارقة فى التاريخ الإسلامى (3)
كانت هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم من مكة إلى يثرب (المدينة المنورة) بعد ثلاث عشرة سنة من البعثة المحمدية انتقالاً ضروريًا إلى حاضنة للدعوة والرسالة والإسلام والمسلمين من أهل مكة الذين لاقوا الأذى والعنت من قريش وعلى النحو الذى حَالَ بينهم وبين حرية العقيدة، ولذا فإن دار الهجرة وفى المدينة كانت الملاذ الآمن الذى انطلقت منه رسالة الإسلام إلى آفاق أرحب بامتداد الجزيرة العربية، ثم أرجاء المعمورة.
بقدر ما تجلت الآيات والمعجزات الإلهية فى واقعة هجرة الرسول، فقد انطوت أيضًا على دروس دنيوية مستفادة ومهمة من حيث التخطيط والتنفيذ، إذ أعد النبى لرحلة الهجرة إعدادًا دقيقًا بالأخذ بأسباب الحيطة والخداع والحذر، وحيث لم يبدأ الرحلة إلا بعد أن اطمأن على خروج كافة المسلمين من مكة، ثمَّ اصطجب معه الصديق أبابكر الذى أعدّ للرحلة بشراء ناقتين والاستعانة بالدليل الذى يعرف دروب الصحراء لتضليل مشركى قريش.
وبعد الأخذ بالأسباب التى نجحت فى تحقيق سِرية الرحلة، جاء دور المعجزات والعناية الإلهية مُتمثلة فى خروجه صلى الله عليه وسلم من بيته آمنًا، حيث أعمى الله أربعين من أقوى فتيان قريش يمثلون أربعين بيتًا من بيوتها تربصوا به مُستهدفين قتله عند خروجه وبحيث يتفرق دمه بين القبائل ومن ثمَّ لا يقوى بنو هاشم على حرب قريش كلها والثأر لمحمد بن عبدالله، فكانت نجاته من المخطط الشيطانى معجزة إلهية بحسب قوله تعالى: «فأغشيناهم فهم لا يبصرون»، ثمَّ كانت المعجزة الأخرى والفاصلة فى رحلة الهجرة عندما تمكَّن مشركو قريش بالاستعانة بقصاصى الأثر من تحديد مكان الغار «غار ثور» الذى اختبأ فيه الرسول مع صاحبه أبى بكر كآخر نقطة انتهت إليها آثار سيرهما، وبعد أن هَمَّ المشركون باقتحام الغار إذا بالمعجزة تتجلى فى خيوط العنكبوت التي غطت فجأة فتحة الغار إضافة إلى يمامتين تضعان بيضهما على مدخل الغار، وحيث تأكد المشركون استحالة وجود أحد داخل الغار، ورغم أن أبابكر كان يهمس للرسول خائفًا: «لو نظر أحدهم تحت قدميه لرأنا»، فإن النبى الواثق من نصر الله له طمأنه وبحسب ما جاء فى القرآن الكريم «إذ أخرجه الذين كفروا ثانى اثنين إذ هُما فى الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا».
< <<
على الجانب الآخر شمال مكة ظل المهاجرون والأنصار ويثرب كلها ينتظرون بقلق بالغ مقدمه صلى الله عليه وسلم أيامًا كثيرة تزيد على الزمن المفترض لوصولهما حتى وصل بعد الرحلة التى استغرقت زمنًا طويلا بسبب تغيير المسار فى بداية الرحلة من الشمال إلى الجنوب لتضليل المشركين.
وبوصوله صلى الله عليه وسلم كان مشهد استقباله مشهدًا تاريخيًا، حيث استقبله المسلمون بالصياح محمد رسول الله، الله أكبر، وهنا تجدر الإشارة إلى خطأ شائع فى السيرة النبوية بشأن أنشودة «طلع البدر علينا» التى تواتر أن المسلمين استقبلوه بها، إذ لم يكن اسم يثرب تغيَّر إلى المدينة حسبما جاء في الأنشودة، ثم إن ثنيات الوداع ليست فى المدينة ولكنها فى الشام، والصحيح أن هذه الأنشودة ترجع إلى تاريخ لاحق وبعد وفاة الرسول بكثير، ومن ثمَّ فإنها تٌعد استقبالا بأثر رجعى ولكنها صارت من التراث الإسلامى.
< < <
بوصوله صلى الله عليه وسلم واستقراره فى المدينة بدأت مرحلة جديدة نوعية فى الدعوة الإسلامية، ولذا فقد كان البدء بإقامة المسجد أمرًا بالغ الدلالة إذ كان مقر النبوة والرسالة الدائم واجتماع المسلمين لتلقى منهج وتشريعات الإسلام، وحيث اتسم ما نزل من القرآن فى المدينة بالتركيز على التشريعات التى تتعلق بالمعاملات والعبادات، بينما كان قرآن مكة يركِّز على العقيدة والتوحيد والحديث عن يوم القيامة والبعث والجنة والنار.. تبشيرًا للمؤمنين ونذيرًا للمشركين المعاندين الرافضين للإسلام وترك عبادة الأصنام، ومن ثمَّ فقد صارت المدينة.. دار الهجرة عاصمة الدولة الإسلامية بقيادة الرسول وهى قيادة دينية بوصفه النبى لتبليغ منهج الإسلام وهى أيضًا قيادة المسلمين فى حياتهم الدنيوية.
< < <
كانت غزوة بدر وانتصار المسلمين فيها على مشركى قريش أول انتصار أكد قوة المسلمين والإسلام بعد الهجرة، والتى بدأت بتربص المسلمين بقافلة قريش القادمة من الشام للاستيلاء عليها مقابل ما استولت عليه قريش من أموال وأملاك المهاجرين، غير أن أبا سفيان قائد القافلة هرب بها متخذًا طريق الساحل، إلا أن مشركى قريش قادهم صلفهم وعنادهم إلى غزو المدينة، حيث وقفت المعركة غير المتكافئة بين (٣١٣) مسلمًا وأكثر من ألف مشرك والتى انتهت بنصر مؤزر للمسلمين تصديقًا لقوله تعالى: «كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله»، ولذا فإن للذين خاضوا معركة بدر مكانة كبيرة فى الإسلام، وحيث قال الرسول: «إن الله اطلع على أهل لبدر فغفر لهم جميعًا». وحيث كانت غزوة بدر أولى الانتصارات التى حققها المسلمون بعد الهجرة.
<<<
ثم كانت غزوة أحد ثانية غزوات المسلمين بعد عام من نصر بدر، حيث جاء المشركون لغزو المدينة انتقامًا لهزيمتهم فى بدر، وحيث كان النصر حليف المسلمين، إلا أن عصيان الرماة لأمر الرسول بعدم النزول من الجبل لحماية ظهر جيش المسلمين تسبَّب في انكشاف ظهر الجيش المنتصر والتفاف فرقة من جيش المشركين بقيادة خالد بن الوليد «الذى لم يكن قد أسلم وقتها» على المسلمين وإلحاق الهزيمة بهم، ولقد كانت هزيمة أحد درسًا مهمًا للمسلمين الذين خالفوا أمر الرسول مرتين.. مرة لأنه النبى ومرة لأنه قائد الجيش. ورغم هزيمة جيش المسلمين فى أُحد، فقد تبدت قوة إيمانهم جلية بعد المعركة عندما وقف أبوسفيان يصيح متشفيًا: يوم بيوم.. يوم نُساء ويوم نُسر.. قتلانا في بدر بقتلاكم فى أُحد، حيث رد عليه عمر بن الخطاب: قتلانا في الجنة وقتلاكم فى النار.
< < <
ثم كانت غزوة الخندق ثالثة الغزوات فى المدينة، حيث جاء المشركون لغزو المدينة متحالفين مع قبائل كثيرة فى شبه الجزيرة العربية وحيث بلغ حجم الجيش نحو عشرة آلاف مقاتل، وحيث استشعر المسلمون خطرًا كبيرًا، وحيث حفر المسلمون خندقًا حول المدينة باقتراح من سلمان الفارسى للنبى، ومع ذلك ظل المشركون يحاصرون المدينة شهرًا كاملا، وحيث اشتد قلق المسلمين وبلغت قلوبهم الحناجر ويرددون متى نصر الله، حتى جاءت المعجزة الإلهية حين هبت رياح شديدة حطمت خيام المشركين وملأتهم رعبًا، وفروا هاربين يجرون أذيال الهزيمة والخزى.
< < <
وبعد انتهاء غزوة الخندق والتى سُميت أيضًا غزوة الأحزاب بالنظر إلى المتحالفين مع قريش من قبائل أخرى وبعد أن تسامقت قبائل الجزيرة العربية بالنصر الذى حققه المسلمون ضد حِلف المشركين، جاءت كلمات الرسول صلى الله عليه وسلم تُبشِّر المسلمين باقتراب النصر النهائى للإسلام حيث قال: لن نغزى بعد الآن في المدينة، وحيث كان نصر غزوة الخندق بشارة بفتح مكة ونهاية الشرك. وللحديث بقية..