د. محمد فراج يكتب : مطلوب جهد عربى جماعى لمواجهة آثار الزلزال وإنهاض الاقتصاد السورى
لم يكن السوريون بحاجة إلى اعتراف أنطونيو جوتيريش - أمين عام الأمم المتحدة - بأن المنظمة الدولية تأخرت فى توجيه جهودها وحشد جهود المنظمات التابعة لها ومختلف الجهود الدولية لنجدة أبناء سوريا من منكوبى الزلزال.. ولا إلى اعترافه بأن هذه الجهود «المتأخرة» حينما جاءت لم تكن على المستوى المطلوب.. لم يكن السوريون بحاجة إلى اعتراف جوتيريش أو غيره ليعرفوا مدى التقصير الإجرامى في حق بلادهم ومنكوبي الزلزال فيها من جانب ما يُسمى بالمجتمع الدولى، وبصورة أخص من جانب الدول الغربية الكبرى، وفى مقدمتها الولايات المتحدة وألمانيا وبريطانيا وفرنسا وكندا واليابان، فضلا عن دول غنية ومتقدمة أخرى.
بينما كانت كل ساعة تمر تعرف أن مزيدًا من البشر يموتون تحت أنقاض المبانى المنهارة، بسبب النقص الفادح في معدات الإنقاذ.. والذين يتم انتشالهم لا يجدون ما يكفي لإسعافهم وعلاج جراحهم وكسورهم.. وبينما عشرات ومئات الآلاف من الذين فقدوا بيوتهم لا يجدون حتى خيامًا يأوون إليها ولا ملابس دافئة ولا مصادر للتدفئة فى جو تنخفض حرارته إلى ما تحت الصفر.. ولا يجدون ما يقتاتون به أو يسدون به جوع أطفالهم الصغار والرُضع.
المتاجرة بالكارثة.
المشين والمثير للاشمئزاز أن الدول الغربية الكبرى، وفي مقدمتها الولايات المتحدة، أغمضت عيونها عن هذه المعاناة الإنسانية المروّعة، ووجدت فى كارثة الزلزال فرصة مناسبة لتصفية حساباتها مع النظام الشرعى في سوريا، فانطلقت أبواقها الإعلامية بالحديث عن «تقصير» الحكومة السورية فى إغاثة المنكوبين، متجاهلة حقيقة النقص الفادح فى إمكانيات البلاد، بعد اثنى عشر عامًا تعرض خلالها سوريا لحرب إرهابية كونية شارك فيها أكثر من مائة ألف مقاتل إرهابى من مختلف أنحاء العالم، وأنفق عليها الغرب وحلفاؤه حوالى (مائة وأربعين مليار دولار) من أجل تدمير سوريا وتقسيمها وجعلها نقطة انطلاق لتنفيذ مخطط «الفوضى الخلاقة» الأمريكية فى المنطقة وتمزيقها إلى كانتونات طائفية وعرقية متناحرة تهيمن عليها كلها إسرائيل وكيلا عن الولايات المتحدة والدول الغربية الكبري.
وهى حرب تعرضت فيها مدن وبلدات سورية كثيرة للتدمير وتم نهب ثروات البلاد من البترول والغاز وحتى الحبوب والمحاصيل الزراعية، وتفكيك المصانع وسرقتها في مدينة حلب كبري المدن الصناعية السورية.. وصاحبت الحرب عقوبات اقتصادية غربية قاسية وصلت إلى حد الحصار الاقتصادى الشامل الخانق بمقتضى «قانون قيصر الأمريكى».
وبدلا من المسارعة بنجدة ضحايا الكارثة كان أول رد فعل من جانب أمريكا والدول الغربية الكبرى هو مطالبة سوريا بفتح جميع معابرها الحدودية مع تركيا وخاصة مع محافظة إدلب السورية المحتلة، التي يسيطر عليها الإرهابيون التابعون لما يُسمى (جبهة تحرير الشام) والتى كانت تحمل سابقًا اسم «جبهة النصرة» فرع تنظيم القاعدة الإرهابى فى سوريا.. وذلك دون أى مراعاة لسيادة الدولة أو اعتبارات أمنها القومى، بل وسارعت أمريكا لإعداد مشروع قرار بهذا المعنى لعرضه على مجلس الأمن لإجبار سوريا على فتح حدودها أو تحميلها مسئولية إعاقة جهود الإغاثة فى إدلب!
وللعلم فإنه حتى كتابة هذه السطور (وظهر الخميس ١٦ فبراير) لم تصل إعانات إضافية تستحق الذِّكر من تركيا إلى منطقة إدلب، علاوة علي تلك التى كانت موجودة في مخازن المنظمات الإغاثية الدولية في تركيا، والتى كانت تمر عبر منفذ «باب الهوى» وبالرغم من موافقة دمشق على فتح معبرين إضافيين لتفويت الفرصة على المناورات الأمريكية والغربية في مجلس الأمن، ولم يتم إرسال معدات رفع الأنقاض.
والغريب أن جبهة النُصرة الإرهابية المُسيطرة فى إدلب رفضت عرضًا من الحكومة السورية لتقديم المساعدات لمنكوبى إدلب ــ بالرغم من إمكانيات دمشق المحدودة ــ وأبلغت رفضها إلى ممثل الأمم المتحدة للإغاثة مارتن جريفيث الذى أعلنه لوسائل الإعلام، لكن نشره تم على أضيق نطاق حتى لا تحقق منه دمشق مكسبًا سياسيًا!! بينما تتسابق القنوات الفضائية الغربية وبعض «العربية» فى إفساح المجال لممثلى «النصرة» وما يُسمى بـ«المعارضة السورية» ليُعربوا عن رفضهم لإعلان الحكومة السورية استعدادها لتمرير المساعدات الدولية ـ التى بدأت تصل أخيرًا ــ لكى لا تحقق دمشق مكسبًا سياسيًا! ويُعلن هؤلاء أنهم «لن يسمحوا بإضفاء الشرعية على النظام السورى»! من خلال مشاركته فى عملية الإغاثة! وكأن سوريا ليست دولة تتمتع بعضوية الأمم المتحدة، وكأن حكومتها تنتظر الشرعية من حفنة من مرتزقة (المعارضة) المقيمين في فنادق الخمس نجوم في تركيا وغيرها!!
والأهم من ذلك كله أن حرمان دمشق من هذه «الشرعية» المزعومة أهم لدى هؤلاء من إنقاذ حياة المنكوبين وإغاثة الضحايا!!
والغريب والمشين أن تفسح بعض الفضائيات «العربية» المجال واسعًا لمثل هذه السخافات بدلاً من التركيز على حاجة سوريا ومدنها المنكوبة للمساعدات الإغاثية العاجلة.
أما الأكثر إثارة للاشمئزاز فهى حقيقة أن الدول الغربية الكبرى تمتنع عن تقديم أى مساعدة للشعب السورى في مناطق سيطرة الحكومة والاستثناء الوحيد من هذا الموقف الغربى المشين هى إيطاليا، التي قدمت بعض المساعدات مؤخرًا لدمشق، بينما تقدم تلك الدول المساعدات بسخاء لتركيا، سواء من المعدات وفرق الإنقاذ، أو المساعدات الطبية والغذائية وغيرها.
وبديهى أنه لا يمكن الاعتراض على تقديم كل مساعدة ممكنة إلى تركيا باعتبار أن مركز الزلزال يقع فيها، وبالتالى فإن الدمار والكارثة الإنسانية أكبر مما لدى سوريا، لكن لابد من ملاحظة أن إمكانيات تركيا الاقتصادية والتنظيمية أكبر بكثير جدًا من إمكانيات سوريا، ويكفى أن نشير إلى أن الناتج المحلي الإجمالى لتركيا أكبر من نظيره التركى بأكثر من خمسين مرة.. نكرّر: بأكثر من خمسين مرة.. ومع ذلك يُصر الغرب علي معاقبة الشعب السورى فى ظل هذه النكبة، لأن العواصم الغربية غير راضية عن سياسة دمشق.
كارثة سورية أكبر من الزلزال!
والحقيقة أن أغلب الدول العربية سارع إلى تقديم مساعدات إلى الأشقاء السوريين وإلى تركيا، لكن المشكلة أن حجم الكارثة فى سوريا أكثر بكثير مما تم تقديمه، ويرجع ذلك إلى أن الزلزال المدمّر جاء على أرضية دمار شامل للاقتصاد السورى ومختلف مرافق البلاد بسبب الحرب الإرهابية الطويلة والحصار الاقتصادي الغربى.. وهذا هو السبب الأساسى فى قصور إمكانيات مكافحة كارثة الزلزال، وقد أشرنا فى مقالنا السابق بالأموال (١٢ فبراير) إلى أن الناتج المحلي والإجمالى السورى قد تراجع من ٥٧ مليار دولار عام ٢٠١٠ السابق مباشرة على الحرب إلى ١٥.٥ مليار دولار عام ٢٠٢٢ أى إلى حوالى الربع، كما تشير أرقام البنك الدولي إلى أن خسائر سوريا بسبب الحرب والعقوبات الغربية قد بلغت ٤٤٢ مليار دولار (أربعمائة واثنين وأربعين مليارًا) حتى عام ٢٠٢٠.. وأشارت إحصاءات منظمة جنوب غرب آسيا (الأسكوا) التابعة للأمم المتحدة ٢٠٢٠ إلى أن احتياجات إعادة إعمار سوريا تبلغ نحو (٤٥٠ ملياراً/ أربعمائة وخمسين مليار دولار) لا شك فى أنها قد زادت بسبب التضخم العالمى.. ثم جاءت كارثة الزلزال وضرورة إزالة آثارها لترفع الرقم أكثر.. بينما تبلغ موازنة الحكومة السورية للعام الحالى (٥،٤ مليار دولار) فقط (فرنسا ٢٤ - نقلا عن البنك الدولى).
وباختصار فإن مواجهة كارثة الزلزال تحتاج إلى مشاركات عربية ودولية أكبر بكثير مما تم تقديمه حتى الآن والجهود العربية في هذا المجال مشكورة بلا أدنى جدال.. لكن الحقيقة أن كارثة الزلزال نفسها قد سلطت الضوء بقوة على الكارثة الشاملة الأكبر التى يواجهها الاقتصاد السورى منذ عقد من الزمان.. وإذا كانت مواجهة آثار زلزال (٦ فبراير) تحتاج إلى جهد عاجل لا يحتمل أدنى انتظار، فإن مأساة سوريا تحتاج إلى جهود أوسع وأشمل كما أوضحنا.
والمأمول أن تكون الصحوة التضامنية التى أبدتها الدول والشعوب العربية مع الشعب السورى الشقيق فى محنته، نقطة انطلاق لمواجهة الكارثة الاقتصادية التى ترزح سوريا تحت وطأتها، مطلوب جهد عربى جماعى للمطالبة برفع العقوبات الغربية عن سوريا بما فيها ــ وفى مقدمتها «قانون قيصر» الأمريكى.. وإلى أن يتحقق ذلك مطلوب توظيف الزخم الناتج عن الزلزال لتقديم كل مساعدات عربية ممكنة إلى سوريا وشعبها الشقيق، وقبل كل شىء مطلوب عودة سوريا إلي مقعدها فى جامعة الدول العربية، واستئناف العلاقات الدبلوماسية الكاملة بين دمشق وجميع العواصم العربية.