د. محمد فراج يكتب : فشل «خطة اصطياد الدب الروسى» (2/2)
القطب الشمالى .. وصراع حول عشرات التريليونات من الدولارات
أوكرانيا .. جزء من صراع أوسع بين «نزعة الهيمنة» والعالم متعدد الأقطاب
تحدثنا فى مقالنا السابق (الأموال - 27 مارس) تحت عنوان (فشل خطة اصطياد» الدب الروسى) .. عن الصراع على النفوذ بين القوى الكبرى باعتباره فى جوهره - صراعاً - من أجل السيطرة على الثروات والموارد الاقتصادية والأسواق والمواقع الاستراتيجية التى تتيح تحقيق هذه السيطرة، أو الدفاع عنها، أو انتزاعها من أيدى الآخرين لصالح الأقوى، وضمان الاحتفاظ بها أو توسيعها على القوى الأخرى.. وعن الجيوش والأحلاف العسكرية والتكتلات السياسية والاقتصادية باعتبارها أدوات فى هذا الصراع من أجل السيطرة على الثروات والموارد الاقتصادية والأسواق.
ومن هذا السياق شرحنا استراتيجية «توسيع حلف (الناتو) شرقاً» باعتبارها سياسة أمريكية وغربية تهدف إلى حصار روسيا وإضعافها إلى أقصى حد ممكن سياسياً واقتصادياً وعسكرياً، وعزلها من مجالات نفوذها التاريخية، وصولاً إلى تقسيمها على أسس قومية وعرقية ودينية (واقتصادية) وإلحاقها بالغرب، على النحو الذى شرحه تفصيلاً المنظر الاستراتيجى الكبير، ومستشار الأمن القومى الأمريكى الأسبق (زييجنيو بريجينسكى) فى كتابه الشهير »رقعة الشطرنج الكبرى» والذى دعا فيه إلى تقسيم روسيا لثلاث دول (الجزء الأوروبى وسيبيريا والشرق الأقصى) ليسهل لأمريكا السيطرة عليها، واستغلال ثرواتها الطبيعية الهائلة (صدر الكتاب عام 1997 .. وهو مترجم للعربية).
وقد أوضحنا فى مقالنا السابق (الأموال - 27 مارس) كيف أدت استعادة روسيا لقوتها إلى الإطاحة بهذه «الأحلام» الأمريكية الجامحة، وإلى انتهاج موسكو استراتيجية مضادة «لتوسيع الناتو شرقاً».. وكيف أدى الصراع بين الاستراتيجيتين إلى الصدام العسكرى الذى نشهده الآن على أرض أوكرانيا، بما له من أبعاد وانعكاسات عسكرية واقتصادية وسياسية كبرى.
الصراع على ثروات القطب الشمالى
جانب آخر من جوانب الصراع على الثروات والموارد الاقتصادية والمكاسب الطبيعية، بين كل من روسيا والغرب عموماً والولايات المتحدة بصفة خاصة، نشهده فى السنوات الأخيرة، هو صراع حول موارد هائلة من البترول والغاز الطبيعى والمعادن الثمينة والنادرة والتى تبلغ قيمتها عشرات كثيرة من تريليونات الدولارات.. (نكرر : عشرات كثيرة من تريليونات الدولارات).. فضلاً عن موقع استراتيجى بالغ الأهمية من الناحيتين التجارية والعسكرية.
وقد أثبتت الدراسات والمسوح الجيولوجية فى السنوات الأخيرة أن أراضى المنطقة القطبية الشمالية تحتوى على (ربع) احتياطيات العالم من البترول والغاز الطبيعى، ونسب كبيرة من احتياطيات النحاس والنيكل والكوبالت والكروم والمنجنيز والذهب والألماس.. كانت قيمتها تقدر (بثلاثين تريليون دولار) يمثل البترول والغاز ثلثيها (3/2) عام 2017 - (RT - 30 مارس 2017 - نقلاً عن خطاب رسمي للرئيس بوتين فى منتدى بطرسبورج الاقتصادى).
وقد تضاعفت هذه النتيجة عدة مرات خلال السنوات الخمس الماضية، بسبب تضاعف أسعار البترول والغاز بصفة خاصة، فضلاً عن الارتفاع الكبير فى أسعار المعادن الثمينة كالذهب، والمعادن النادرة المستخدمة فى الصناعة على نطاق واسع ومتزايد.
وتختزن المنظمة حوالى (80٪) من احتياطيات الغاز و(60٪) من احتياطيات البترول الروسيين - كما تختزن أراضى المنطقة التابعة لروسيا (90٪) من احتياطياتها من النيكل والكوبالت والكروم والمنجنيز، و(60٪) من احتياطياتها من النحاس، و(110٪) من الذهب و(100٪) من الألماس النقى (RT - مصدر سابق - 30 مارس 2017- خطاب بوتين).
وتحتل روسيا أكثر من ثلث سواحل المحيط المتجمد الشمالى، بأكبر واجهة عليه وأكبر مساحة من المنطقة القطبية الشمالية تمت من ميناء (مورمانسك) فى الجزء الشمالى الشرقى من أوروبا (شمال غربى روسيا).. وصولاً إلى ميناء (بيتروبا فلوفسك) فى أقصى الشرق الآسيوى الروسى. وهى مأهولة بعدد من الشعوب الروسية الصغيرة - كما أن الروس (الأوروبيين) سبقوا منذ قرون إلى استكشاف هذه المناطق، وممارسة صيد الحيوانات القطبية، وتجارة الفراء الثمين الوارد منها، وتأسيس التجمعات السكانية الحضرية فيها، وتعودوا على احتمال ظروفها المناخية بالغة القسوة (تصل البرودة فيها إلى أقل من خمسين درجة مئوية تحت الصفر فى الشتاء أحياناً).
وبالتالى فقد كانوا سباقين إلى إجراء المسوح البيولوجية فيها، واستكشاف ثرواتها الهائلة، ومن ثم إلى استغلالها.. كما كانوا سباقين إلى بناء كاسحات الجليد، بما فيها الكاسحات العملاقة التى تعمل بالطاقة النووية، التى لا يمكن الاستغناء عنها لمرافقة السفن التجارية، وسفن الأبحاث لحمايتها من الاصطدام بالكتل الثلجية العملاقة ومن ثم التحطم والغرق.
واستناداً إلى هذا كله تمكنت روسيا من بناء عشرات القواعد العسكرية فى منطقة القطب الشمالى ، بما في ذلك المطارات.. كما تمكنت من تطوير أسلحة قادرة على العمل فى مناخ القطب الشمالى قارس البرودة، بما فيها الطائرات المقاتلة ومنظومات الدفع الجوى، والمدرعات وناقلات الجنود وغيرها.
ولهذا كانت روسيا تعبر عن وقائع الأمور حينما قامت بزرع علمها فى أعماق القطب الشمالى، عام (2007) بغض النظر عن الطابع الرمزى لهذه الخطوة، علماً بأن نقطة القطب تقع فى مياهها الإقليمية.
**
أما الولايات المتحدة فتطل على القطب الشمالى من خلال ولاية (ألاسكا) الشمالية الغربية، بساحل طوله (200 ميل بحرى) أى حوالى (320كم). ومعروف أن أمريكا اشترت (ألاسكا) من الإمبراطورية القيصرية الروسية عام (1867) بسبعة ملايين دولار. وليس لديها هناك غير لواء مشاه واحد.. وهى تجرى فيها مناورات للغواصات كل سنتين.. وليس لديها سوى كاسحتين للجليد تابعتين لخفر السواحل. إحداهما معطلة، والثانية قديمة تعود إلى سبعينيات القرن الماضى (RT - 23 / 3 / 2022).
وصحيح أن الولايات المتحدة ترتبط بعلاقات تحالف وطيدة مع كندا - جارتها الشمالية - التى تطول على ساحل عريض على القطب الشمالى .. إلا أن البلدين (الأطلسيين) كليهما ليس لديهما وجود عسكرى، أو استثمارات ذات بال فى المنطقة القطبية الشمالية.. كما أن واشنطن قد تأخرت كثيراً فى بناء قاعدة تكنولوجية مناسبة للعمل فى المنطقة بما يتيح لها دخول منافسة جدية مع روسيا هناك.
الاحتباس الحرارى.. ومتغيراته الاستراتيجية
مع بروز ظاهرة الاحتباس الحرارى، وتزايد ذوبان ثلوج القطب الشمالى ظهر وجه آخر لأهمية المنطقة يتمثل فى إمكانية تسيير خط للملاحة البحرية (الطريق البحرى الشمالى) يربط بين موانىء شرق آسيا (الصين واليابان وكوريا الجنوبية) وموانئ شمال وغرب أوروبا، ليوفر نحو (40٪) من المسافة عبر قناة السويس، وستة أيام من زمن النقل، خلال فصل الصيف (3 شهور).. علماً بأن المدة قابلة للزيادة مع تزايد ظاهرة الاحتباس الحرارى، وهو الأمر الذى يوفر الكثير من تكاليف النقل، فضلاً عن الابتعاد عن مناطق القرصنة مثل (مضيق ملقا) والمحيط الهندى، ومناطق الأزمات (مثل مضيق باب المندب).
وبناء على هذا اكتسب الطريق البحرى الشمالى أهمية استراتيجية بالنسبة للصين بالذات (أكبر مصدرى العالم)، ولروسيا التى يمر الجزء الأكبر من الطريق بالقبر من سواحلها.. ولهذا فإنها تخطط لزيادة نقل البضائع من (20 مليون طن) عام 2019 إلى (80 مليون طن) بحلول عام 2025.. الأمر الذى سيجعل من الطريق البحرى الشمالى شرياناً ملاحياً استراتيجياً ذا أهمية بالغة للتجارة العالمية.. علماً بأن روسيا يمكنها زيادة أوقات استخدام الطريق بفضل أسطولها من كاسحات الجليد الثقيلة الذى يستطيع إزاحة الكتل الجليدية أمام السفن التجارية والعسكرية.. وهذا ضرورى باستمرار حتى فى الصيف.
ولهذا كله فقد كان طبيعياً أن يتزايد اهتمام الولايات المتحدة بالطريق البحرى الشمالى، لأنه يعطى روسيا أوراق قوة جديدة من خلال سيطرتها على هذا الممر الملاحى التجارى بالغ الأهمية، أو من خلال تسهيل الانتقال بين موانئها القطبية من بورمانسك غارباً إلى بيترويا فلوفسك شرقاً.. وهى مسألة ذات أهمية تجارية وعسكرية على السواء.
لهذا وجدنا الولايات المتحدة تشن هجوماً حاداً على روسيا فى اجتماع وزراء خارجية «مجلس القطب الشمالى» - (فنلندا 7/8/2019) على لسان وزير خارجيتها - آنذاك - بومبيو، الذى اتهم موسكو بالرغبة فى فرض سيطرتها على المنطقة القطبية الشمالية، والطريق البحرى الشمالى (بدعم من الصين) - معلنا رفض بلاده لأى صلاحيات خاصة لروسيا فى الطريق الشمالى، كمنح أذون الإيجار، أو وجود مرشدين بحريين روس على متن السفن العابرة، ومطالباً (بتدويل) الطريق الشمالى.. وكلها أمور يصعب تحقيقها فى ظل وجود الطريق المذكور ضمن المياه الإقليمية الروسية من جهة والاحتياج الضرورى لأن تتقدم كاسحات الألغام الروسية قوافل السفن المارة من جهة أخرى، وأن تحصل السفن على الارشاد الضرورى فى طريق جديد لا يخلو من الأمريكيين نوعاً ما (المشاكسة) والتعبير عن الاستياء من التقدم الواضح الذى تحققه روسيا فى القطب الشمالى.
من أوكرانيا إلى القطب الشمالى!
اللافت للنظر بشدة أنه فى ذروة احتدام الحرب فى أوكرانيا، خرجت وزيرة الجيش الأمريكية (كريستين وربوت) التى تعتبر الشخصية الثانية فى البنتاجون لتعلن أن واشنطن تبحث تعزيز وجودها العسكرى في القطب الشمالى، وإجراء مناورات مع الحلفاء في المنطقة (RT - 23 مارس) وذلك بعد أيام قليلة من انتهاء مناورات واسعة «للناتو» فى النرويج، شاركت فيها (27) من دول، وقوات ضخمة تبلع (30 ألف جندى) و (200 طائرة) و (50 سفينة عسكرية) - (الأهرام - والشرق الأوسط - RT - 12 مارس).
وتسعى الولايات المتحدة باستمرار لتعزيز وجودها العسكرى فى دول المنطقة القطبية الشمالية الأعضاء فى «الناتو» - (النرويج والدانيمارك وأيسلندا) وتحرص على إجراء مناورات عسكرية ضخمة مع كل الدول، بما فى ذلك فى أوقات التوتر - كما أوضحنا - كما تحاول بشتى السبل إقناع كل من فنلندا والسويد (المحايدتين) بالانضمام للحلف سعياً إلى إحكام الحصار حول روسيا من ناحية الشمال، ومنفذها المائى فى بحر البلطيق، الذى تطل عليه كل الدول المذكورة، باستثناء آيسلندا.
كما سعت أمريكا منذ عقود إلى توسيع أراضيها فى المنطقة القطبية وسبق أن عرضت على الدانيمارك عام (1946) شراء جزيرة (جرينلاند) التابعة لها والواقعة فى قلب الجزء الشمالى من المحيط الأطلسى، والمطلة على القطب من ناحيتها الشمالية (مساحتها 2 مليون كم2).. وهى جزيرة تحتل موقعاً استراتيجياً بالغ الأهمية فى المسافة بين أوروبا وأمريكا وغنية بالموارد الطبيعية من البترول والغاز والمعادن المختلفة.. لكن الدانيمارك رفضت (BBC - 21 / 8 / 2019) .
ثم عاد الرئيس الأمريكى السابق دونالد ترامب إلى طرح فكرة شراء جرينلاند من الدانيمارك، لكن رئيسة وزراء الدانيمارك (مينى تريد ريكسن) رفضت العرض ووصفته بأنه «سخيف» وأن «جرينلاند ليست للبيع» فألغى ترامب زيارة رسمية إلى الدانيمارك!! (DW - وسكاى نيوز عربية - 16 أغسطس 2019) ورويترز - BBC - 21/ 8 / 2019).
حصار من كل اتجاه !
وخلاصة القول أن أمريكا لا تحاول محاصرة روسيا من ناحية أوروبا الشرقية فحسب (توسيع الناتو شرقاً) ولكن أىضاً من ناحية الجنوب الغربى (جورجيا وأذربيجان وأرمينيا) ومن ناحية الشمال الغربى (النرويج والدانيمارك) مع محاولة ضم السويد وفنلندا إلى الناتو، واضعة نصب عينيها الثروات الهائلة التى تختزنها أراضى المنطقة، والتى سبق أن ذكرناها بالتفصيل.. والتى تساوى بأسعار اليوم ، عشرات التريليونات من الدولارات، فضلاً عن الأهمية الاستراتيجية للسيطرة على أكبر جزء ممكن من موارد الطاقة العالمية من البترول والغاز، ومن المعادن الثمينة والنادرة، فضلاً عن السيطرة على الطريق البحرى الشمالى..
وهى «أحلام» لو قدر لها أن تتحقق لمنحت الولايات المتحدة تفوقاً استراتيجياً ساحقاً (لعدة قرون) فى مواجهة كل القوى الكبرى فى العالم مجتمعة، بما فى ذلك الصين والهند واليابان وكل الحلفاء الغربيين!!
لذلك نقول إن الصراع الدائر حول أوكرانيا اليوم هو جزء من صراع أوسع حول الهيمنة على العالم.. وصحيح أنه جزء كبير. لكنه يظل جزءاً فقط من صراع أوسع، حول ثروات القطب الشمالى الهائلة، وحول ثروات وأسواق وبقية العالم.. وهو صراع خاضته القوى الكبرى عبر التاريخ، بأشكال مختلفة، وعلى مستويات أضيق بكثير.. لكنه اليوم يخاصم بين عظمى مسلحة بالرؤوس النووية والصواريخ العابرة للقارات.. وهو صراع يمكن أن يدمر البشرية كلها إذا أفلتت حساباته من أيدى من يريدونه.
ولذلك فإن توازن القوى، والردع المبادل وتعددية (القطبية وليس هيمنة قوة واحدة) يظل هو الشكل الأكثر أمناً - أو الأقل ضرراً وعنفاً - بالرغم من كل شراسته وخصوصاً بالنسبة لنا نحن شعوب الدول الصغيرة والمتوسطة، التى تجد فى تعدد القطبية هامشاً للحركة والمناورة دفاعاً عن مصالحها ، حتى لا تدهسها صراعات القوى العظمى.