د.محمد فراج يكتب : شرارة الحرب العالمية الثالثة.. انطلقت من أوكرانيا
«عالم متعدد الأقطاب» فى نهاية الحرب.. وأوربا أكبر الخاسرين
الحرب العالمية الثالثة انطلقت شرارتها بالفعل من أوكرانيا.. وهذا أمر لا يمكن قياسه بحجم العمليات العسكرية المحدودة فى ذلك البلد، ولكن بأجواء المواجهة الشاملة السياسية والاقتصادية والإعلامية الضارية بين الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين من ناحية، وروسيا من ناحية أخرى .. تدعمها الصين وإن تكن فى خلفية الصورة.. علاوة بالطبع على أجواء المواجهة العسكرية على الأراضى الأوكرانية نفسها، من خلال الدعم الذى تقدمه كل دول «الناتو» تقريباً بسخاء للجيش الأوكرانى، ومن خلال تصعيد الوجود العسكرى الأمريكى والأطلسى فى دول شرق أوروبا المحيطة بأوكرانيا، ومن خلال الريادة الكبيرة فى الموازنات العسكرية والقدرات التسليحية لبلدان «الناتو» بما فى ذلك اعتماد ألمانيا لمبلغ مائة مليار دولار لتسليح جيشها، بعد أن كانت - حتى سنة واحدة مضت تساوم طويلاً قبل إضافة أى مبلغ- مهما يكن محدداً لموازنتها العسكرية.
وإذا كان امتلاك الأطراف المتصارعة لترسانات نووية هائلة تكفى لتدمير العالم كله عدة مرات ويفرض قيوداً صارمة على مستويات وأشكال التصعيد العسكرى، فإن احتدام أجواء المواجهة والعداء يجعل الأخطاء فى الحسابات واردة.. وهذا فى حد ذاته احتمال مخيف، خاصة أن وجود الأسلحة النووية التكتيكية، يمكن أن يغرى هذا الطرف أو ذاك بالتصرف بدون مسئولية، الأمر الذى قد يدفع الطرف الآخر بالرد بصورة أكبر، وهذا الاحتمال المخيف لا يمكن استبعاده ولو بصورة نظرية.. فى ظل أجواء العداء المحتدم والتصعيد الذى تشهده العلاقات الدولية هذه الأيام.
وحتى يغض النظر عن هذا الاحتمال فإن النتائج المرجحة للمواجهة الجارية تشير إلى إعادة رسم خرائط القوة والتوازنات الدولية بصورة لا شك فيها، وبما يشبه ما حدث فى أعقاب الحربين العالميتين الأولى والثانية. فبعد انتهاء الحرب العالمية الأولى (1914 - 1918) شهد العالم اختفاء الإمبراطوريات العثمانية والنمساوية والمجرية والروسية، وبداية ضعف الإمبراطويتين البريطانية والفرنسية، وبروز الاتحاد السوفيتى والولايات المتحدة كقوتين صاعتين على المسرح الدولى، مع الاختلاف بين قوة كل منهما.
وبعد الحرب العالمية الثانية (1939 - 1945) شهد العالم أفول الإمبراطوريتين الاستعماريتين الكبيرين البريطانية والفرنسية، وتدمير ألمانيا النازية والعسكرية الغاشمة اليابانية.. وبروز النظام العالمى ثنائى القطبية (الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتى) وانتصار الثورة الصينية وحركات التحرر الوطنى على النطاق العالمى.
وإذا كانت «الحرب الباردة» شكلاً خاصاً من أشكال الحروب العالمية، فإن تفكك وانهيار الاتحاد السوفيتى وحلف وارسو (والمعسكر الاشتراكى) فى شرق أوروبا، والهيمنة المؤقتة للولايات المتحدة على العالم (كقطب واحد) بين انهيار نظام القطبية الثنائية، كان نتيجة الحرب الباردة.. وهى النتيجة التى أصبحت محلاً للتحدى من جانب العملاق الصينى الصاعد، وروسيا التى استعادت قوتها على الساحة الدولية، فضلاً عن الأسواق الناشئة الكبيرة كالهند والبرازيل وكوريا الجنوبية، والنمور الآسيوية.. وأصبح شعار رفض الهيمنة الأمريكية شعاراً سائداً فى العالم، خاصة من جانب الصين وروسيا اللتين بدأتا فى الدعوة إلى عالم متعدد الأقطاب، يضمهما إلى جانب الولايات المتحدة كاعتراف بالمتغيرات التى شهدتها علاقات القوى الدولية.. كما أعلنت روسيا رفضها لتوسع «الناتو» باعتباره استراتيجية أمريكية وغربية تهدف إلى حصارها وإضعافها، ومن ثم تقسيمها والاستيلاء على ثرواتها فى نهاية المطاف . وقد تحدثنا عن هذا بالتفصيل فى مقالات سابقة (انظر مثلاً الأموال - 27 مارس و 3 أبريل) فلا نرى ضرورة للغوص فيها هنا.
أوكرانيا.. نقطة الصدام والتحول
أوكرانيا، بما لها من أهمية استراتيجية كبرى وملاصقتها للحدود الروسية، ومساحتها ومستوى تقدمها الاقتصادى، وتعدادها السكانى الكبير، والترابط بين شعبها والشعب الروسى، ظلت دائماً «الجائزة الكبرى» أو «جوهرة التاج» بالنسبة لمخططات توسع «الناتو» شرقاً.. وشهدت جهوداً مكثفة للتغلغل الغربى فيها حتى تمت الاطاحة بالرئيس المنتخب يانوكوفيتش فى فبراير 2014 بمشاركة أمريكية وأوروبية نشيطة ليعلن الحكم الجديد فوراً عزمه على الانضمام للناتو وطرد الأسطول الروسى من قاعدته التاريخية بشبه جزيرة القرم.
وكان التحرك الروسى لاستعادة القرم هو الرد من جانب موسكو على هذه القرارات، الأمر الذى واجهته الولايات المتحدة وأوروبا بعقوبات اقتصادية قاسية وبتعزير الوجود العسكرى فى الناتو لدول شرق أوروبا. والحقيقة أن الأمر لم يكن يتعلق بمجرد مساحة من الأرض وإنما بالتحرك العسكرى الروسى الحاسم والسريع لاستعادة أهم منطقة استراتيجية فى البحر الأسود وإفشال محاولات الناتو للاستيلاء عليها. لقد كان هذا انتصاراً لروسيا فى سباق استراتيجى كبير.. وردت أمريكا «الناتو» بتقديم دعم عسكرى واسع النطاق لكييف، وبإجراء مناورات مشتركة مكثفة سواء فى البحر الأسود، أو على الأراضى الأوكرانية، وبأشكال مختلفة من الوجود العسكرى تمثل نوعاً من (الانضمام الفعلى) لأوكرانيا إلى منظومة الحلف العسكرىة، بغض النظر عن الوضع الرسمى، الأمر الذى مثل تهديداً خطيراً للأمن القومى الروسى.
كما رفضت واشنطن مناقشة هواجس روسيا الأمنية بسبب الوجود المتزايد «للناتو» فى شرق أوروبا عموماً، وفى أوكرانيا خصوصاً، بما فى ذلك التخطيط للهجوم على منطقة (الدونباس) بتصفية الحركة «الانفصالية فيها من جانب الأقلية الروسية، الأمر الذى كان من شأنه أن يمثل ضربة كبيرة لهيبة روسيا، فضلاً عما يمثله من خطر على أمنها القومى.
لذلك كله فإن العملية العسكرية الروسية فى أوكرانيا، لم تكن مجرد دفاع عن سكان (الدونباس) الروسى وذوى الأصول الروسية، وإنما كانت تحدياً لسياسة توسيع «الناتو» بأكملها، بما تمثل من تهديد لأمن روسيا القومى ليس كقوة عظمى فحسب، ولكن أصلاً كدولة ذات سيادة.. فلم يكن بوسع روسيا قبول صواريخ «للناتو» على حدودها المباشرة فى أهم منطقة سكانية وصناعية فيها، بامتداد (1500كم) وعلى مسافة من موسكو يقطعها أى صاروخ خلال خمس دقائق.
وبتعبير آخر فإن هذه العملية العسكرية يتوقف عليها إما تأكيد مكانة روسيا كقطب دولى ضمن نظام متعدد الأقطاب (أمريكا - الصين - روسيا) وتوجيه ضربة نووية لطموحات أمريكا فى الهيمنة على العالم والانفراد بوضع (القطب الأعظم) كما كانت فى أعقاب انهيار الاتحاد السوفيتى، وقبل صعود الصين وروسيا.. وإما انتصار أمريكا، ونهاية وضع روسيا كقطب دولى، وبداية مسيرتها نحو الانهيار بالرغم من قوتها النووية الهائلة، ومن ثم وضع الصين فى موقف أضعف بكثير من صراعها مع أمريكا من أجل النفوذ والقطبية. لهذا فإن بوتين لم يكن يمزح حينما أعلن وضع قوات روسيا النووية فى حالة تأهب قصوى.. فالصراع حول أوكرانيا هو بالنسبة لبلاده مسألة وجود ولهذا فإن الخسائر الاقتصادية الضخمة والموجعة وحتى الخسائر العسكرية (غير المؤثرة قياسياً إلى قوة روسيا العسكرية الكبيرة).. تبدو مقبولة كثمن للانتصار فى هذه المواجهة الوجودية.
وتقتضى الموضوعية ملاحظة أن روسيا قد تمكنت من تدمير الجزء الأكبر من البنية التحتية العسكرية الأوكرانية الضخمة (لاحظ أن أوكرانيا كانت تمثل خط الدفاع الأول من الاتحاد السوفيتى فى حينه.. ولذلك فإن لديها بنية تحتية وصناعات عسكرية لا يستهان بها) وتمكنت من السيطرة على مناطق واسعة وذات أهمية استراتيجية فى شرق وجنود أوكرانيا، وبالرغم من انسحابها من محيط كيندو كما أن الاقتصاد الأوكرانى قد أصيب بدمار يحتاج إصلاحه إلى سنوات طويلة.
أما من الناحية السياسية والاستراتيجية فإن «الناتو» قد اضطر إلى إعلان أن أوكرانيا تحتاج إلى سنوات طويلة من الاستعداد لكى يمكن ضمها إليه.. (وكذلك الاتحاد الأوروبى) وأصبحت كييف الآن مستعدة للحديث عن الضمانات الأمنية التى يطلبها مقابل وضع الحياد.. وتؤكد أمريكا والدول الأوروبية الكبرى وقيادة «الناتو» طوال الوقت عدم استعدادهم للتدخل العسكرى المباشر فى أوكرانيا.. وأن دورهم يقتصر على الإمداد بالأسلحة ودعم دول الجناح الشرقى للحلف لتأمينها فى مواجهة أى تدخل روسى محتمل فيها.
أوروبا تدفع الثمن
الاعتماد الأوروبى الواسع على موارد الطاقة الروسية (أربعين فى المائة من حاجتها للغاز، وثلاثين بالمائة من واردات البترول، ونسبة لا يستهان بها من الفحم) أجبر الاتحاد الأوروبى وخاصة ألمانيا (55٪ من استهلاكها من الغاز تستوردها من روسيا) وضع أوروبا فى وضع بالغ الصعوبة بسبب صعوبة توفير بدائل مناسبة.. وإذا كان توفير بدائل للبترول والفحم الروسيين ممكناً خلال شهور أو حتى نهاية العام فإن الأسعار وتكلفة النقل ستكون أعلى مما يتسبب فى رفع تكلفة الطاقة، ومن ثم من احتقار تنافسية المنتجات.
أما إمدادات الغاز الطبيعى الروسية (نحو مائة وسبعة وخمسين مليار م3 / 157 مليار م3) فإن توفير البدائل لها سيكون أمراً بالغ الصعوبة وباهظ التكلفة لأن البدائل المتاحة ستكون عن (الغاز المسال) الأمريكى والقطرى، الذى تبلغ تكلفته أضعاف تكلفة (غاز الأنابيب الروسى) مما سيرفع بصورة جادة من تكلفة إنتاج السلع، وبالتالى سيضعف القوة التنافسية للإنتاج الأوروبى بدرجة كبيرة، ليس فى الأسواق العالمية فحسب، بل وأيضاً في الأسواق الأوروبية، والأمريكية لصالح السلع الصينية، وإنتاج دول وأسواق ناشئة.
وإذا أضفنا ذلك إلى الآثار القاسية الناتجة عن وباء كورونا، وانقطاع واردات الحبوب والأعلاف الواردة من روسيا وأوكرانيا (بسبب العقوبات والحرب) والانفاق العسكرى المتزايد الذى تفرضه أمريكا على حلفائها الأوروبيين، والانفاق على اللاجئين الأوكرانيين، والتضخم المترتب على مختلف الفواتير وفى مقدمتها الطاقة (سبعة ونصف فى المائة) هذا العام وهو أعلى بعدة مرات من متوسط التضخم في الدول الأوروبية- وإذا أضفنا إلى الضعف المتوقع فى تدفق رؤوس الأموال الأجنبية بسبب هذه الظروف غير المواتية، وبسبب الخوف من تكرار تجربة أمريكا وأوروبا مع روسيا (تجميد الحسابات المصرفية ومصادرة الأصول المنقولة وغير المنقولة .. إلخ) فسنجد أن أوروبا معرضة لمواجهة ركود اقتصادى خطير نتيجة لخضوعها للضغوط الأمريكية فى التصعيد غير المسبوق فى التاريخ كله العقوبات الاقتصادية ضد روسيا، وهكذا تكتشف أوروبا وستكتشف أكثر كل يوم أن العقوبات سلاح ذو حدين وأن تبعيتها السياسية والاقتصادية والعسكرية لأمريكا تزداد عمقاً.. وأنها تتحمل العبء الأكبر من قاتورة السياسات الأمريكية على الساحة الدولية بما يترتب على ذلك من أضرار لاقتصادها، وتأثير سلبى على تماسك الاتحاد الأوروبى ذاته، وتراجع للقوة التنافسية للاقتصاد الأوروبى.
أمريكا ليست العالم!
الحرب السياسية والإعلامية الشاملة التى تشنها أمريكا وأوروبا على روسيا لم تقنع أغلب دول العالم بالانضمام إلى العقوبات الاقتصادية غير المسبوقة، والتى تصل إلى مستوى حرب اقتصادية شاملة حتى إذا كان الكثير من هذه الدول يرفض العملية العسكرية الروسية فى أوكرانيا، أو حتى يدينها الصين والهند والبرازيل وكوريا الجنوبية والنمور الآسيوية ودول (أوبيك+) وتركيا وإيران وعشرات الدول الأخرى رفضت الالتزام بهذه العقوبات ورفضت دول (الأوبيك) الضغوط الأمريكية لزيادة إنتاجها من البترول والغاز لتقديم بديل للصادرات الروسية منهما، خوفاً من إغراق الأسواق وانهيار الأسعار، كما حدث عدة مرات كان آخرها فى (أزمة القرم) عام 2015.. وأصرت تلك الدول على الالتزام بحصصها الإنتاجية المتفق عليها، بل إن دولة كالسعودية - الحليف التقليدى القديم لأمريكا - تجرى مناورات مع الصين- أكبر مستورد فى العالم- لبيع البترول إليها مقابل (اليوان).. وأعلنت الهند مؤخراً عن صفقة ضخمة لشراء البترول الروسى تصل إلى (16 مليون برميل) - RT 7/4/2022).. بل إن دولاً أعضاء في الاتحاد الأوروبى و«الناتو» مثل المجر وسلوفاكيا وأعلنت استعدادها لدفع ثمن البترول والغاز إلى روسيا بالروبل، وفقاً لقرار بوتين الأخير ومعروف أن الدولار هو العملة المتحدة لشراء البترول والغاز.. ويتوقع كثير من المراقبين أن تتراجع هيمنته على الأسواق المالية والتجارية تدريجياً بسبب التطورات الأخيرة، وأن يتراجع تدفق الاستثمارات الأجنبية إلى أمريكا، وخاصة فى مجال شراء سندات الخزانة، خوفاً من تكرار التجربة الروسية.
****
وخلاصة القول إن الحرب فى أوكرانيا يمكن أن تطول، وأن تتسبب فى خسائر اقتصادية ضخمة لروسيا (وخسائر عسكرية محتملة).. وأن أوكرانيا ستتعرض لدمار كبير، لكن العالم لن يكون بعدها كما كان قبلها - وأن أمريكا لن تنجح في فرض هدفها بأن تكون القطب الأعظم والوحيد، بل إن الظواهر تشير إلى أننا بإزاء «عالم متعدد الأقطاب» سيتأكد وجوده فى نهاية الحرب الأوكرانية.. وليس حتمياً أن تكون الحرب العالمية الثالثة نووية تحمل الدمار الشامل للبشرية.