د. محمد فراج يكتب : الحرب فى أوكرانيا.. والمجاعة فى أفريقيا (٢ - ٢)
إعادة هيكلة الزراعة ضرورة لتحقيق الأمن الغذائى وحماية الأمن القومى المصرى
تحدثنا في الجزء الأول من هذا المقال «الأموال - ١٧ أبريل» عن الأثر الكبير للحرب فى أوكرانيا على تفاقم أزمة الغذاء العالمية، التى كانت قد بدأت أصلاً بسبب جائحة «كورونا» وما ارتبط بها من آثار كارثية على الاقتصاد العالمي، وما صاحبها من آثار تضخمية، ثم ما ارتبط بالخروج منها من تصاعد لأزمة الطاقة، فاقم من التضخم ليبلغ أكثر من ٧٫٢٪ فى بداية العام الجارى، كما تحدثنا عن أثر النقص الحاد في إمدادات القمح والحبوب والأعلاف والزيوت النباتية الواردة من روسيا وأوكرانيا بسبب ملابسات الحرب الأوكرانية والنصيب الأكبر لهذين البلدين في إنتاج السلع المذكورة، وبخاصة فى تجارتها، وعن العواقب الوخيمة لهذا كله على الأوضاع الاقتصادية عموما، وتفاقم الأزمة الغذائية خصوصا في دول العالم الثالث، وبصورة أخص في الدول الفقيرة والأشد فقرا فى أفريقيا وآسيا والتي تتعرض لمخاطر المجاعة، أو ما أسماه أمين عام الأمم المتحدة «إعصار الجوع» وما يترتب عليه من آثار على الاستقرار السياسى وتفاقم ظاهرة الهجرة الاقتصادية لملايين البشر.
ويكفي أن نشير إلى تصريح لرئيس البنك الدولى «ديفيد مالباسى» إلى زيادة أسعار المواد الغذائية بنسبة ٣٧٪ خلال العام المنقضى، وهو ما اعتبره كارثة إنسانية «BBC.com - ٢١ أبريل» وهو رقم تؤكده إحصاءات المنظمات الدولية التي تشير إلى ارتفاع أسعار السلع الغذائية في شهر مارس المنقضى بنسبة ٣٤٪ والزيوت النباتية بنسبة ٥٦٪ (BBC.com ٢٠ أبريل) نقلا عن «الفاينانشيال تايمز».
وإذا كانت الدول الصناعية الغنية والدول البترولية قادرة علي مواجهة هذا الارتفاع الكبير للأسعار ـ المرشح للتفاقم ــ فإن الدول متوسطة النمو والدخل ستواجه مصاعب اقتصادية جدية، بينما سيكون وضع الدول الفقيرة والأشد فقرا بالغ الصعوبة، الأمر الذى يقتضى تقديم مساعدات دولية عاجلة وسخية إليها، وأن يتم هذا خارج الأطر التقليدية محدودة الأثر لأن حجم الأزمة كارثى هذه المرة، وموارد الدول المذكورة من الضعف بحيث تعجز عن المواجهة الفعالة للكارثة بقدراتها شديدة التواضع، فلابد من إجراءات تتخذها الدول الأغنى والمنظمات الدولية بصورة منسقة لتقديم المساعدات الغذائية، وتأجيل سداد القروض وشطب أجزاء منها، ولابد من تخفيف جذرى لشروط المنظمات الدولية وخاصة صندوق النقد الدولي المفروضة علي السياسات الاقتصادية والاجتماعية لتلك الدول، ولو لعدة سنوات، حتى تنقضى الأزمة وإلا فإن العواقب الإنسانية والاجتماعية ـ وربما السياسية ــ ستكون وخيمة للغاية وسيدلع ثمنها العالم بأسره.
إعادة هيكلة الزراعة.. ضرورة قصوى
غير أن تواتر تكرار الأزمات الغذائية العالمية خلال العقود الأخيرة (٢٠٠٨/٢٠١٦/ الأزمة الحالية) يفرض على الدول متوسطة الدخل «والدول الفقيرة والأشد فقرا» انتهاج سياسات اقتصادية وخاصة في مجال الزراعة تساعدها على سد الفجوة الغذائية بما يتناسب مع مشكلات وظروف كل دولة، وبديهى أن هذا لا يمكن أن يتم بصورة فورية، أو بسهولة.. لكن من الضرورى أن يكون واضحًا لجميع الدول والشعوب التى تواجه «فجوة غذائية» أن الأزمات الغذائية المتكررة والمتواترة فى العالم يمكن أن تعرضها لأوضاع بالغة الصعوبة، ليس من الزاوية الاقتصادية والاجتماعية والإنسانية فحسب ـ على أهميتها البالغة ـ ولكن أيضا على المستوى السياسى، سواء من ناحية الاستقرار وعلاقته بالأمن القومى أو من ناحية تعرضها لضغوط علي إرادتها وسيادتها ـ حتى لو توافرت الأموال ـ لأن تجارة السلع الغذائية ليست مجرد مسألة تجارية، بل إن لها أبعادها السياسية والاستراتيجية، خاصة أن كبرى الدول المنتجة للسلع الغذائية الأساسية في العالم هى إما دول كبري كـ«الولايات المتحدة الأمريكية والصين وفرنسا وروسيا وغيرها» أو أنها مرتبطة بتحالفات دولية وبعلاقات متشابكة مع الدول الكبرى، مما يجعلها عرضة للتأثير على مواقفها فيما يتصل بالتعاون الاقتصادي والتبادل التجارى.
وبالنسبة للدول العربية، فإن الأرقام تشير إلى أنها تستورد حوالى ٦٥٪ من احتياجاتها من السلع الغذائية الاستراتيجية «الأهرام - ٣٠ مارس»، وهو رقم يمثل وضعًا غير مريح على الإطلاق بالنسبة «للأمن الغذائى».. أحد الوجوه بالغة الأهمية للأمن القومى عمومًا.. مما يستوجب ضرورة الاهتمام بالتعامل معه وتعديله بأسرع ما يمكن، ووفقا لظروف كل دولة، لكن المؤكد أنه يتطلب العمل على إعادة هيكلة الزراعة من ناحية، والاهتمام بالنظر فى إعادة توزيع الاستثمارات بما يحقق هذا الهدف من ناحية أخرى، والاهتمام الكبير بالتكامل الاقتصادى العربى من ناحية ثالثة.
مصر.. والفجوة الغذائية
وبالنسبة لمصر فالمعروف أنها تستورد ١٢ مليون طن من القمح سنويا، الجزء الأكبر منها من روسيا وأوكرانيا، وقد اهتمت الحكومة بتوفير مناشئ بديلة لاستيراد القمح لسد العجز في الواردات من روسيا وأوكرانيا، وتم الاتفاق مع الهند على استيراد كميات كبيرة من القمح، والاحتياطيات الموجودة تكفى لمدة ٣ - ٤ شهور، كما أن محصول القمح المحلي سيبدأ تسليمه قريبا «أكثر من ثمانية ملايين طن» وإذن فإن وضعنا آمن، خاصة في ظل تخصيص الدولة حوافز إضافية للفلاحين لتسليم إنتاجهم إليها.
لكن تكرار الأزمات الغذائية العالمية يطرح علينا ضرورة تعظيم إنتاجنا من القمح والحبوب عمومًا سواءً من خلال التوسع الرأسى بتطوير الإنتاجية، أو التوسع الأفقي بتخصيص مساحات أكبر لزراعة القمح، وقد يكون مفيدا فى هذا الصدد ملاحظة أننا اتفقنا علي استيراد القمح من الهند التي تمكنت من تحقيق الاكتفاء الذاتى، بالرغم من عدد سكانها الهائل «أكثر من مليار وثلاثمائة مليون نسمة» مع توجيه كميات متفاوتة للتصدير حسب مواسم الإنتاج.
الذرة الصفراء أيضا من الحبوب بالغة الأهمية كعلف للحيوانات والدواجن، والتي تواجه فجوة في إنتاجها تصل إلى ١٠٫٥ مليون طن تحتاج لاستيرادها، والتى سيرتفع ثمنها نتيجة لارتفاع أسعار القمح «المصرى اليوم ـ ١٠ مارس».
كما تواجه مصر فجوة غذائية فى إنتاج زيوت الطعام «زيت عباد الشمس، وزيت بذرة القطن، والصويا والكتان والنخيل وغيرها» حيث استهلكنا عام ٢٠٢١ كمية من الزيوت النباتية تبلغ ٢٫٦٦ مليون طن.. استوردنا منها ١٫٨٢٠ مليون طن «الأهرام ـ ٢٠ أبريل ٢٠٢٢».
وتمتد الفجوة الغذائية إلى إنتاج الفول المدمس الوجبة الرئيسية للمصريين والعدس وغيرها من المحاصيل التى تتسم بأهمية تجعل من الضرورى إبعادها عن تقلبات البورصات العالمية والسياسة الدولية.
< < <
ولن ندخل في مزيد من التفاصيل، كحاجتنا إلى استيراد اللحوم والأسماك وغيرها فالأمر الرئيسى هنا هو ضرورة إعادة هيكلة الزراعة المصرية، بما يقلل من الفجوة الغذائية ويحقق الأمن الغذائى لمصر بأكبر درجة ممكنة باعتباره أحد الجوانب الأساسية للأمن القومى.
هنا يجب الحديث عن توجيه استثمارات أكبر إلى المجال الزراعى.. وضرورة تخصيص مساحات أكبر لزراعة المحاصيل الاستراتيجية كالقمح والذرة والذرة الصفراء والفول والعدس، ويمكن أن يتم هذا من خلال الأراضى المستصلحة، أو من خلال نقل زراعات الخضر على نطاق واسع من الأراضى المفتوحة إلى الصوب الزراعية عالية الإنتاجية لإفساح المجال للمحاصيل الاستراتيجية، وكذلك عن تحديث نظم الرى لاستخدام المياه بصورة أكثر رشدًا وبما يتيح التوسع فى استصلاح أراض جديدة.
وبديهى أن هذا سيحتاج إلى استثمارات أكبر فى المجال الزراعى، وإلى دعم أكبر للمنتجين وإلى المزيد من إنتاج الأسمدة والمخصبات، وإلى بذل جهود أكبر في مجال البحث العلمى لزيادة الإنتاجية وتحسين البذور «التوسع الرأسى» فضلا عن تطوير منظومات الرى الحديث وغير ذلك من أوجه إعادة هيكلة الزراعة المصرية وتكلفة كل ذلك كبيرة جدًا، لكن الأمر يستحق وخاصة علي ضوء الأزمات المتكررة التي يشهدها العالم، فكل خطوة «ردم الفجوة الغذائية» وتحقيق أكبر قدر ممكن من الاكتفاء الذاتى هى خطوة نحو تحقيق «الأمن الغذائى» لشعبنا ووطننا، وبالتالى هى خطوة نحو تأكيد أمننا القومى..
حفظ الله مصر وشعبها من كل سوء..