د. محمد فراج يكتب : الحرب في أوكرانيا.. والمجاعة فى افريقيا ! ( ١ - ٢)
إذا كان اندلاع الحرب في أوكرانيا قد أدى إلى تفاقم شديد لأزمة الطاقة العالمية المتصاعدة أصلا منذ الصيف الماضى بسبب ازدياد الطلب علي موارد الطاقة مع الخروج من حالة «الإغلاق» المرتبطة بكورونا، والتي ازدادت حدتها مع قدوم الشتاء.. فإن الحرب الأوكرانية قد أشعلت نيران أزمة أخرى لا تقل خطورة هى «أزمة الغذاء» التى تنذر بالتحول إلى كارثة حقيقية تهدِّد العالم بأسره، وخاصة الدول الفقيرة والأشد فقرًا في آسيا وافريقيا، التى تواجه اقتراب خطر المجاعة بالفعل، أو ما يسميه أمين عام الأمم المتحدة ـ أنطونيو جوتيريش ــ «إعصار الجوع»..
تشير الإحصاءات الدولية إلي أن روسيا وأوكرانيا تسهمان بحوالي ٣٠٪/ ثلاثين بالمائة من تجارة الغذاء في العالم، ويؤكد الخبير الاقتصادى الكبير د. نادر نور الدين «الأهرام ـ ٣٠ مارس ٢٠٢٢» استنادًا إلي أرقام المعهد الدولي لأبحاث الغذاء أن روسيا تحتل المركز الأول عالميًا فى صادرات القمح (٢٤٪)، بينما تحتل أوكرانيا المركز الخامس بنسبة ١٢٪، أى بما مجموعه ٣٦٪ - ستة وثلاثين بالمائة ــ من صادرات القمح العالمية.. ويسيطر البلدان على ٢٧٪ سبعة وعشرين بالمائة من صادرات الشعير «روسيا - ١٤.٢٪ وأوكرانيا ١٢.٦٪، ويسهمان بـ١٧٪ سبع عشر بالمائة من تجارة الذرة الصفراء للأعلاف والتي تمثل ٧٥٪ من مكونات الأعلاف النباتية للمواشى والدواجن.. كما يسهمان بنحو ثلاثة أرباع زيوت عباد الشمس في التجارة العالمية لهذا الزيت الأكثر استخدامًا على المستوى العالمى.. وتحديدًا ٧٣٪ ـ ثلاثة وسبعون فى المائة ـ منها ٤٩.٦٪ لأوكرانيا و٢٣.١٪ لروسيا.. كما تقوم روسيا وحدها بتصدير ١٥٪ «خمسة عشر بالمائة» من الأسمدة النيتروجينية الأكثر أهمية لإنتاج النباتات وحوالي ١٧٪ «سبعة عشر بالمائة» من الأسمدة البوتاسية «البوتاسيوم» المهمة للإنتاج الزراعى..
ومع اندلاع الحرب في أوكرانيا أوقفت رويسا صادراتها من القمح والحبوب باستثناء الصفقات المتفق عليها مع «الدول الصديقة».. بينما توقفت صادرات القمح والحبوب والمواد الغذائية من أوكرانيا، بصورة شبه تامة، بسبب القيود على التصدير من جهة، والعمليات العسكرية من جهة ثانية، ومحاصرة الموانئ الأوكرانية من جهة ثالثة، ولم تبق إلاّ كميات محدودة يمكن تصديرها عن طريق موانئ «رومانيا» المجاورة على البحر الأسود، بصعوبات لوجستية كبيرة، وبتكلية أكبر..
وكان طبيعيًا أن يؤدى هذا النقص الكبير في الإمداد إلى «صدمة» فى الأسواق، فاقم منها أن بعض الدول المصدرة الأخرى وضعت قيودًا على صادراتها، كما بادر عديد من الدول المستهلكة لزيادة وارداتها سعيًا لتكوين احتياطيات آمنة في ظروف الحرب.
زيادة حادة في الأسعار
وأدى النقص الكبير فى العرض مع زيادة الطلب إلى ارتفاع حاد فى أسعار القمح والحبوب بصف عامة، وارتفعت أسعار القمح بالذات بأكثر من ٥٠٪ خلال أقل من عشرة أيام من بدء العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، حيث سجلت بورصة شيكاغو «المعيار الدولى» للأسعار «١٣.٤ دولار للبوشل = ٢٧كجم».. (الوطن ـ ٤ مارس ٢٠٢٢) وبحسبة بسيطة يتضح أن الطن (=٣٧ بوشل) قد بلغ ثمنه (٤٩٥ دولار)، بينما بلغ سعر الطن من الدقيق (٤٠٦ يورو/ أربعمائة وستة) في بورصة باريس (الوطن - ٤ مارس) بينما زادت أسعار الذرة بنسبة (١٠٪ - عشرة بالمائة) فى نفس الفترة القصيرة (الوطن ـ ٤ مارس).
وبالنسبة لشحنات القمح والحبوب فقد زادت أجور شحن الحبوب الروسية والأوكرانية والكازاخية والرومانية، بصورة واضحة بسببب زيادة أسعار وقود السفن، كما زادت رسوم التأمين على الشحنات بسبب خطورة الأوضاع العسكرية في المنطقة.. وبديهى أن ذلك كله يتم تحميله على المستهلك في النهاية.
أما المناشئ البديلة كالولايت المتحدة وكندا والأرجنتين واستراليا وغيرها فإن تكلفة الشحن منها إلى افريقيا والشرق الأوسط قد ارتفعت أيضًا بسبب الزيادة في أسعار وقود السفن، علاوة علي ارتفاع أسعار القمح نفسه.
مصر والشرق الأوسط وافريقيا
النقص الحاد في صادرات القمح والحبوب الروسية والأوكرانية كان من الطبيعى أن يكون له تأثيره المباشر على أسواق الشرق الأوسط وشمال افريقيا، حيث تغطى الواردات المشار إليها ما يتراوح بين ٨٠ - ٩٠٪ (ثمانين إلى تسعين فى المائة)، وخاصة على مصر أكبر مستورد للقمح فى العالم (١٢ مليون طن/ اثنا عشر مليون طن) سنويًا.. والجزائر، والسودان والعراق وسوريا ولبنان واليمن وغيرها من بلدان المنطقة التى أصبح عليها أن تسدّ الفجوة في وارداتها من الحبوب بأسعار أعلى بكثير، وبتكلفة أعلى للشحن (حيث إن موانئ البحر الأسود أقرب إلينا) وكذلك بشروط للدفع أقل يسرًا من تلك التى كانت تتيحها روسيا (حوالى ثلثى الواردات بالنسبة لمصر مثلا) وأوكرانيا (حوالى ثلث الواردات المصرية)، ويجب أن يضاف تأثير هذا كله على الاقتصاد إلى تأثير ارتفاع أسعار بقية السلع الغذائية من الحبوب والزيوت واللحوم «وأعلاف الدواجن والحيوانات» وغيرها لتدرك العبء الثقيل الذي أصبحت تتحمله اقتصادات مصر وأغلب دول المنطقة، والذى يقع الجزء الأكبر منه بالطبع على كاهل غالبية المستهلكين من الفقراء ومحدودى الدخل.
كارثة في الدول الفقيرة
وإذا كان الأمر كذلك بالنسبة لدول متوسطة الدخل مثل مصر أو الجزائر، فإننا نستطيع أن نتصور الوضع في الدول الفقيرة والأشد فقرًا في القارة الافريقية، مثل دول جنوب الصحراء والساحل الغربى للقارة، أو دول مثل اثيوبيا «أكثر من مليون نسمة» والصومال.. أو فى دول جنوب آسيا مثل بنجلاديش وسريلانكا وميانمار «بورما» وجنوب شرقها مثل لاوس وكمبوديا.. وغيرها وغيرها، وخاصة تلك التى كانت تعتمد بدرجة كبيرة علي القمح الروسى والأوكرانى الأرخص نسبيًا.. وأصبح عليها الآن أن تلبى الاحتياجات الغذائية لشعوبها - ولو في حدها الأدنى ــ بتكلفة أكبر بكثير.. علمًا بأن أغلب تلك الدول تعانى من وجود فجوة غذائية كبيرة، وأن شعوبها تعانى أصلا من سوء التغذية الذى يقترب من حد المجاعة.
والواقع أن هذه الأوضاع بالغة القسوة لا تحتمل مزيدًا من التدهور، لأن ذلك ينطوى علي مخاطر كبيرة لعدم الاستقرار السياسى والاجتماعى، ولتفاقم الهجرة الاقتصادية ليس إلى أوروبا وحدها، بل وإلى الدول المجاورة «الأفضل حالا» كمصر، التى تعانى بالفعل من هذه الظاهرة، كما تنطوى هذه الأوضاع على خطر شبه مؤكد لحدوث مجاعات واسعة النطاق فى البلدان المشار إليها، أو ما يسميه «جوتيريش» بإعصار الجوع.
ويتطلب هذا كله جهودًا عالمية عاجلة ومكثفة لمواجهة الأوضاع شديدة الخطورة التى تحدثنا عنها، والناتجة عن كارثة «كورونا»، ثم الكوارث التى ترتبت ــ وسوف تترتب ــ على الحرب فى أوكرانيا، ومغامرات «الناتو» العسكرية للتوسع شرقًا، فلابد من تضامن دولى عاجل وواسع النطاق لنجدة الشعوب المهددة بالمجاعة.
غير أن الأزمة الغذائية العالمية المتناقمة تسلط الضوء بشدة أيضًا على مشكلات السياسات الزراعية والاقتصادية والاجتماعية فى أغلب دول العالم الثالث، بما في ذلك في منطقتنا، وعلي ضرورة انتهاج سياسات رشيدة للتنمية الاقتصادية الشاملة، بما فى ذلك السياسات الكفيلة بسد الفجوة الغذائية فى بلدان العالم الثالث.. وعدم ترك الشعوب فريسة لتقلبات الأحداث فى السياسة الدولية والأسواق العالمية.. وهذا ما سنحاول تناوله فى الجزء التالى من مقالنا.
وللحديث بقية..