د.محمد فراج يكتب : الغرب سقط فى امتحان الإنسانية.. والعرب يدعمون سوريا
أمريكا والأوروبيون دمروا الاقتصاد السورى وتركوا دمشق وحيدة في مواجهة الزلزال
مطلوب.. استمرار وتوسيع الدعم العربي لسوريا وعودتها إلى الجامعة العربية
الزلزال الذى ضرب تركيا وسوريا يوم الاثنين الماضى (٦ فبراير) ألحق قدرا هائلا من الدمار والخسائر البشرية بالبلدين، وإذا كان الدمار والخسائر البشرية أكبر فى جنوب تركيا، فإن الزلزال ضرب أيضًا وبقسوة المنطقة الشمالية من سوريا، بدءا من اللاذقية وإدلب وحلب غربا إلى مناطق شرق الفرات وامتد جنوبا نحو حماة ليلحق بها خسائر مادية وبشرية كبيرة.
الكوارث الطبيعية الكبرى مثل هذا الزلزال تحتاج مواجهتها إلى تضافر الجهود الإنسانية لتقديم المساعدات إلى الضحايا أيًا كانت جنسياتهم أو انتماءاتهم القومية أو الدينية أو السياسية، فمثل هذه الكوارث تتجاوز ضرورات مواجهتها إمكانات أغلب الدول وكما الكوارث الطبيعية لا تفرّق بين الناس وتهلك الأرواح وتضرب الجميع بلا تمييز، فإن المعتاد هو أن تتعاون دول العالم لإغاثة المنكوبين بغض النطر عن الاعتبارات السياسية والقومية وغيرها، وباعتبار أن الإغاثة في هذه الحالات واجب إنسانى ملزم.
لكن الغريب والمشين حقًا هو أن ما حدث في حالة سوريا يختلف تماما، فالدول الغربية التى تتشدق دائمًا بالحديث عن الإنسانية والحضارة ووحدة الجنس البشرى في مواجهة الكوارث.. إلخ إلخ، وجهت كل اهتمامها إلى تركيا وتجاهلت سوريا بصورة شبه تامة، حتى من زاوية التغطية الإعلامية! والاهتمام القليل الذى وجهته نحو سوريا تركز على منطقة إدلب «فى شمال غرب سوريا» التى تحتلها القوات التركية، وتسيطر عليها «هيئة تحرير الشام» أو «جبهة النصرة» فرع تنظيم القاعدة الإرهابى فى سوريا! وانشغلت الولايات المتحدة ودول أوروبا الغربية ومنظمات الإغاثة الدولية التابعة لها بسبل توصيل مساعدات الإغاثة إلي إدلب، متجاهلة تماما المناطق الأخرى الواقعة تحت سيطرة الحكومة الشرعية السورية.
والغريب والمشين هو أن تنهال التعازى وعروض المساعدة السخية على تركيا من جميع الدول الغربية الكبري وفى مقدمتها أمريكا ودول الاتحاد الأوروبى، مع تجاهل تلك الدول تماما لسوريا، وكأن الضحايا فى تركيا بشر، لكنهم ليسوا كذلك في سوريا.
وبديهى أننا لا يمكن أن نعترض على تقديم كل مساعدة ممكنة إلى تركيا ومنكوبى الزلزال فيها، فهذا واجب إنسانى مُلزم، ومفهوم أيضا أن مركز الزلزال كان فى تركيا، وبالتالى فإن الدمار والخسائر البشرية فيها أكبر مما لدى سوريا، وحسب الأرقام المعلنة حتى كتابة هذه السطور (ظهر الخميس ٩/ ٢) فإن عدد القتلى في تركيا بلغ حوالى ١٣ ألفا، بينما بلغ عددهم في سوريا أكثر من ثلاثة آلاف وخمسمائة علمًا بأن الأرقام ترتفع طوال الوقت مع استمرار عمليات رفع الأنقاض، بينما يبلغ عدد الجرحى حوالى ٨٥ ألفا في البلدين.
مقارنة ضرورية جدا
وهنا لابد أن نشير إلى نقطة بالغة الأهمية هى أن عمليات رفع الأنقاض وانتشال المصابين تجرى فى تركيا بوتائر أكبر بكثير مما تجرى فى سوريا، بسبب إمكانات تركيا الأكبر والتى لا يمكن مقارنتها بإمكانات سوريا سواء من ناحية عدد الأفراد المنخرطين فى عمليات الإنقاذ والمعدات المتاحة لهم، أو من ناحية تدفق فرق الإنقاط والإغاثة عليها من دول غربية مختلفة فضلاً عن قدرات تركيا الاقتصادية والمادية وحجم المساعدات الواردة إليها من معدات الإنقاذ المختلفة (أوناش وبولدوزرات وسيارات نقل الأنقاض..إلخ)، وهو ما يتيح رفع الأنقاض وانتشال القتلى والمصابين بسرعة أكبر.
بينما تجرى كل هذه العمليات فى سوريا بمعدلات أقل بكثير نتيجة للضعف الشديد في الإمكانات العددية والمادية والاقتصادية، حيث تعانى سوريا من نقص شديد فى معدات الإنقاذ، بل وحتى فى المحروقات الضرورية لتشغيلها (بنزين وديزل وتيار كهربائى) نتيجة لأوضاعها الاقتصادية شديدة الصعوبة بسبب الحرب الإرهابية الدولية ضدها على مدى سنوات طويلة، وللحصار الاقتصادى الخانق الذى تفرضه العقوبات الغربية طوال هذه السنوات، بما فى ذلك «قانون قيصر» الأمريكى الذى يمنع حتى استيراد المواد الغذائية والأدوية ناهيك عن الآليات والمعدات، والذى يفرض عقوبات على أي دولة تنتهكه! ولذلك كله فإن عمليات الإنقاذ وانتشال الجثث والمصابين تجرى بوتيرة بطيئة، كما أن علاج المصابين يجرى بإمكانات أقل بكثير.. وهو ما يجعل تحديد الخسائر بدقة يتأخر كثيرًا عما يحدث في تركيا، كما يقلل من إمكانات إنقاذ الجرحى، وهو ما يؤدى بنا إلى ترجيع أنه بمرور الوقت سيتضح أن خسائر سوريا أكبر بكثير من المعلن عنه حالياً.
أرقام صادمة
وإذا تحدثنا بتفصيل أكثر وبلغة الأرقام فإن عدد سكان تركيا يبلغ أكثر من ثمانين مليون نسمة، بينما عدد سكان سوريا المقيمين فيها حاليًا يبلغ نحو ٢١ مليون نسمة، واقتصاد تركيا مستقر وفي أحوال طبيعية، وناتجها المحلي الإجمالى يبلغ أكثر من (٨٠٠/ ثمانمائة مليار دولار)، بينما يبلغ ناتج سوريا المحلى الإجمالى (١٥٫٥ مليار دولار/ خمسة عشر ملياراً ونصف المليار دولار) حسب أرقام البنك الدولى لربيع عام ٢٠٢٢ (البنك الدولى - مرصد الاقتصاد السورى - ١٤/ ٦/ ٢٠٢٢) أى أن الناتج المحلي الإجمالى التركى أكبر من (نظيره) السورى بأكثر من خمسين مرة!
وللعلم فإن الناتج المحلى الإجمالى السورى كان يبلغ (٥٧٫٢ مليار/ سبعة وخمسين مليار دولار) عام ٢٠١٠، أى فى العام السابق مباشرة على الحرب الإرهابية الدولية التى نظمها الغرب بقيادة الولايات المتحدة ضد سوريا (بتمويل عربى أساسا وغربى) والتى شارك فيها أكثر من مائة ألف إرهابى من مختلف أنحاء العالم، وهى الحرب التى أدت إلى تدمير منهجى واسع النطاق لسوريا واقتصادها، فاقمت منه العقوبات، بحيث تراجع الناتج المحلي السورى بنسب نمو سلبى هائلة، (٦٪ عام ٢٠١١// ١٤٪ عام ٢٠١٢.. وهكذا) (البنك الدولى عام ٢٠٢٠) ليصل إلى (١٥٫٥ مليار دولار عام ٢٠٢٢) حسب توقعات البنك الدولى المشار إليها أعلاه.. أى حوالى (ربع) ما كانت تنتجه سوريا قبل بدء الحرب الإرهابية الدولية ضدها!! (ونكرِّر: بتمويل عربي أساسًا)!! وهى حالة لا نعرف لها نظيرًا فى الاقتصاد العالمى، كما تم طرد سوريا من مقعدها فى جامعة الدول العربية، وقطع علاقات عدد كبير من الدول العربية بدمشق، بالرغم من بقائها فى مقعدها بالأمم المتحدة ـ مناط الشرعية الدولية! ولولا التدخل العسكرى الروسى فى ٣٠ سبتمبر ٢٠١٥ لكان الإرهاب قد تمكن من السيطرة على دمشق.
يقتلون القتيل ويمنعون إغاثته!
ولا يتسع المقام هنا للحديث بالتفصيل عن تطورات القضية السورية ومحاولات أمريكا وحلفائها لتقسيم هذا البلد العربى الشقيق واحتلال الولايات المتحدة لجزء مهم من إقليمه الشرقى (حيث يتركز إنتاج البترول والغاز وحيث يوجد نحو ثلثى الأراضى الخصبة).. ولا عن الاحتلال التركى لإدلب وتحويلها إلى بؤرة للإرهاب، إلخ إلخ.
فما نريد التركيز عليه هنا هو الوضع الاقتصادى بالغ القسوة الذى تعانى منه سوريا وشعبها الشقيق، وأنه بالرغم من ذلك الوضع بالغ القسوة فإن الغرب الأمريكى والأوروبى ومنظمات الإغاثة التابعة له لم يحرّك ساكنا لمساعدة الشعب السورى فى مواجهة كارثة الزلزال ولا يهتمون إلا بتقديم بعض المساعدة لمنطقة إدلب الخاضعة للاحتلال التركى وسيطرة «جبهة النصرة» الإرهابية، بينما يتجاهلون تماما الدمار الذي لحق بالمناطق الخاضعة لسيطرة الحكومة الشرعية السورية، وفى مقدمتها اللاذقية وحلب وحماة.. بينما يتشدقون بالحديث عن الإنسانية (وعدم تسييس عمليات الإغاثة)!!
مساعدات لابد من استمرارها
وواضح تماماً أن الشعب السورى يحتاج إلى كل أشكال المساعدة قبل الزلزال، وأنه يحتاج بصورة أخص إلى كل أشكال المساعدة فى الوضع الكارثى المترتب على الزلزال، وإذا كانت روسيا هى أول من هبَّ لنجدة السوريين بمجرد حدوث الزلزال، فقد كان تطورًا بالغ الأهمية أن سارع عدد من الدول العربية لمساعدة سوريا فى مواجهة الكوارث، وفى مقدمة هذه الدول مصر والعراق والجزائر والإمارات وليبيا (الجيش الوطنى الليبى بقيادة المشير حفتر) ولبنان وتونس، بالإضافة إلى استمرار الدعم الروسى، وإلى الهند وباكستان وكازاخستان، وبدأ جسر جوى من هذه الدول تهبط طائراته بالمساعدات الإنسانية والإغاثية فى مطارات دمشق وحلب واللاذقية.. ولا ندرى ماذا تنتظر الدول العربية الأخرى؟!
والحقيقة أن سوريا وشعبها قبل الزلزال وبصورة أخص بعد حدوثه في حاجة إلى كل أشكال المساعدات، إلى المواد الغذائية، والأغطية والملابس الدافئة (الشتاء فى سوريا قارس البرودة) وإلى الأدوية والمستلزمات الطبية، والمستشفيات الميدانية ومعدات وطواقم الإنقاذ، والأطباء وإلى المحروقات والمولدات الكهربائية وكل ما من شأنه أن يساعد في تعزيز قدرة هذا الشعب العربى الباسل على مواجهة كارثة الزلزال، وعلى النهوض باقتصاده المدمر وإعادة إعمار بلاده.
وهذه المساعدات الأخوية الواجبة لا ينبغى أن تتوقف عند حد مواجهة كارثة الزلزال، ويجب ألاّ ننسى أبدا أن سوريا كانت دائما وتظل خط الدفاع الأول عن الأمن القومى العربى من الشمال، وأنه لولا صمود سوريا البطولى فى مواجهة جحافل الإرهاب من «داعش» والنصرة وغيرها لكانت هذه الجحافل قد واصلت زحفها الظلامى نحو الدول العربية المجاورة ولكان المشرق العربى الآن غارقا فى «الفوضى الخلاقة» الأمريكية والحقيقة التى لابد من التأكيد عليها أيضا أن الإطاحة بحكم الإخوان الفاشي في مصر (ثورة ٣٠ يونيو) كان لها دور حاسم فى كسر موجة المد الإرهابى فى المنطقة.
نعم.. يجب مواصلة مساعدة سوريا وشعبها الشقيق الباسل على النهوض من جديد.. وعودة دمشق إلى مكانها الطبيعى فى جامعة الدول العربية وفى الحضن العربي.
وبالنسبة لنا فى مصر فإننا لا ننسى أبدًا أن سوريا كانت دائما خط دفاعنا الأول منذ أقدم العصور، منذ معارك أحمس فى مطاردته للهكسوس، وتحتمس ضد الحوثيين (معركة مجدو) وحرب رمسيس الثانى (معركة قادش) وصلاح الدين (معركة حطين) ومعركة مصر ضد التتار فى عين جالوت وحتى حرب أكتوبر والمعركة ضد الإرهاب ودائمًا كانت مصر وسوريا قلب العروبة النابض وأمنهما وقوتهما وشعباهما كل لا يتجزأ.
كما صمدت سوريا في حربها ضد الإرهاب الأسود، فإنها ستصمد بمساعدة أشقائها العرب، وفي مقدمتهم مصر فى مواجهة كارثة الزلزال وكل أشكال الحصار الغربى اللا إنسانى.
سلام على دمشق.. سلام على سوريا وعلى شعبها الشقيق الباسل.