د. محمد فراج يكتب : ثغرات كبيرة في جدار العقوبات الغربية ضد روسيا (٢ - ٢)
تحدثنا فى الجزء الأول من مقالنا «الأموال ـ ٦ مارس» عن الثغرات الكبيرة في منظومة العقوبات الغربية ضد روسيا، وفي مقدمتها تلك الثغرة التي تمثلها إمدادات الغاز والبترول الروسية إلي أوروبا، والتي لا يمكن للدول الأوروبية الاستغناء عنها أو إيجاد بديل لها قبل مرور وقت طويل، قد يصل إلى سنوات «أكثر من ٤٠٪ من احتياجات أوروبا من الغاز الطبيعى و٥٥٪ من احتياجات ألمانيا، كبرى الدول الأوروبية، بالإضافة إلى ٣٠٪ من البترول».
وأوضحنا الصعوبات التي تواجه توفير هذه البدائل فى ظل أزمة الطاقة العالمية، سواء من ناحية الكميات المطلوبة أو من ناحية التكلفة.
وأوضحنا كيف أدت مشكلة إمدادات الطاقة لاضطرار الولايات المتحدة للتراجع عن تهديداتها بعزل روسيا بالكامل عن منظومة «سويفت» نظرا لضرورة سداد الدول الأوروبية لقيمة وارداتها من الغاز والبترول لروسيا ــ وهو ما لا يمكن القيام به خارج «سويفت» ــ وبالتالي اضطرت واشنطن إلى قصر العقوبات ضد البنوك الروسية علي عدد منها، بينما ظلت بقيتها خارج نظام العقوبات، وهى البنوك التي سيتم من خلالها تسوية مدفوعات واردات الطاقة الأوروبية، فضلا عن المبادرات التجارية الأخرى التى لم يشملها نظام العقوبات، وفي مقدمتها صادرات القمح الروسية، التى تُـمثل أكثر من ١٠٪ من صادرات القمح العالمية، علمًا بأن العقوبات الغربية لم تشمل كل السلع، وإنما تركزت علي الصناعات المتقدمة التكنولوجية، وتلك التى يمكن أن تستفيد منها الصناعات الروسية المتقدمة، كما شملت طائفة واسعة أخرى من السلع التى تتزايد تدريجيًا.
وبالرغم من المناخ العصبى السائد في الغرب تجاه روسيا، والأصوات التى ترتفع من كل جانب داعية للمزيد من تشديد العقوبات، وخاصة في أمريكا وبريطانيا ودول أوروبا الشرقية الصغيرة، فإن واشنطن لم يكن لديها بد من مراعاة المصالح الحيوية لحلفائها الأوروبيين الكبار، وخاصة فيما يتصل بإمدادات الطاقة، وإلاّ تعرض نظام العقوبات بأسره للانهيار، لأن الدول الصناعية الأوروبية الكبرى والمتوسطة ليست مستعدة «للانتحار اقتصاديًا» من أجل إرضاء أمريكا، أو دفاعًا عن أوكرانيا.
ومن ناحية أخرى فإن الصرخات العصبية في الكونجرس الأمريكى ــ وهى غير بريئة بالطبع من شبهة المزايدات الانتخابية ــ والتي وصلها إلى حد اتخاذ قرار من جانب الرئيس بايدن بحظر الواردات البترولية من روسيا ثم صدور قانون من الكونجرس بحظر هذه الواردات، هى صرخات لم يكن يمكن أن تلقى آذانًا مصغية في أوروبا، ويرجع ذلك بكل بساطة إلى أن الواردات البترولية من روسيا لا تمثل إلا نحو ١٠٪ من الاستيراد الأمريكى «عشرة فى المائة» علمًا بأن أمريكا هى أكبر منتج للغاز الطبيعى فى العالم، ولديها فائض للتصدير، كما أنها أحد أكبر ثلاثة منتجين للبترول «أمريكا وروسيا والسعودية»، وهى تستطيع زيادة إنتاجها سواء من الحقول العادية أو من «البترول الصخرى» الذى يصبح إنتاجه اقتصاديا بصورة أكبر كلما ارتفعت أسعار البترول.. وباختصار فإن أوضاع واحتياجات ومصالح أوروبا الحيوية تختلف تماما عن أوضاع ومصالح أوروبا.
وهكذا نرى أن أوروبا تنظر بفتور واضح إلى الصرخات التى ترتفع في أمريكا «ونكرر: أنها غير بريئة من شبهة المزايدات الانتخابية.. ولذلك يتبارى كل من الديمقراطيين والجمهوريين فى إطلاقها» سواء بتوسيع العقوبات ضد البنوك والمؤسسات المالية الروسية في إطار «سويفت» أو بعزل روسيا تمامًا عن المنظومة، أو بالاستغناء «بأقصي سرعة ممكنة» عن واردات الغاز والبترول الروسيين وضرورة ممارسة ضغوط مكثفة علي دول الخليج وغيرها من الدول البترولية، لإغراق السوق بالإنتاج، لتعويض الإنتاج الروسى، لأن الأوروبيين يدركون أنه إذا كان تعويض البترول ممكنًا خلال وقت أقصر بالرغم من الصعوبات الفنية والتجارية والسياسية، فإن تعويض واردات الغاز أصعب بكثير، كما أوضحنا فى مقالنا السابق بالتفصيل «الأموال ـ ٦ مارس».
وقد رأينا كيف أن أهم دول «الأوبك» كالسعودية والإمارات العربية رفضت الضغوط الأمريكية لزيادة إنتاجها بصورة كبيرة «فضلا عن دول أوبك بلاس» لأن إغراق الأسواق من شأنه أن يؤدى إلى انهيار الأسعار.. وهو ثمن ليست الدول المنتجة مستعدة لدفعه من أجل عيون أمريكا.. كما رأينا الوقود الأمريكية رفيعة المستوى التى توجهت إلى «إيران وفنزويلا» وهما دولتان تناصبهما الولايات المتحدة أشد العداء، وتفرض عليهما عقوبات قاسية، فى محاولة من جانب واشنطن لتوفير بدائل للإنتاج الروسى، لكن كل هذه المحاولات لن تكون لها نتائج سريعة ــ بغرض نجاحها ــ لأن إيران لديها تناقضاتها الكبرى مع أمريكا، وعلاقاتها الوثيقة بروسيا والصين، فضلا عن مشكلات الاتفاق النووى.. أما فنزويلا ـ التى كانت أحد كبار المنتجين ــ فإن حقولها في حالة يرثي لها الآن بسبب العقوبات الأمريكية، والنقص الفادح للاستثمار في تطوير الحقول.. وتحتاج إلي سنوات لاستعادة قدراتها السابقة، فضلا عن ضرورة تراجع أمريكا عن عقوباتها القاسية ضد كاراكاس، وتدفق رؤوس أموال كبيرة لتطوير الحقول الفنزويلية، وهذه كلها أمور بالغة التعقيد.
معارضة أوروبية لأمريكا
وهكذا رأينا الدول الأوروبية الصناعية وفي مقدمتها ألمانيا تعلن بوضوح ليس فقط عن رفضها لفكرة حظر أو خفض استيراد الغاز الطبيعى والبترول من روسيا في ظل غياب البدائل ـ ولكن أيضًا عن رفضها لتوسيع دائرة العقوبات في إطار منظومة «سويفت» لتشمل المزيد من البنوك والمؤسسات المالية الروسية، ونتيجة لذلك فإن عائدات روسيا من الغاز والبترول «والتي تمثل أكثر من سبعين بالمائة من موارد النقد الأجنبى» تظل خارج نطاق العقوبات الغربية، مما يخفف كثيرًا من تأثير العقوبات، دون أن يلغى تأثيراتها المؤلمة على الاقتصاد الروسي.
ومن ناحية أخرى فإن السوق الصينية الهائلة، وكذلك السوق الهندية الضخمة، تظلان خارج نظام العقوبات الغربية، وإذا كانت الولايات المتحدة قد جمدت إمكانية وصول البنك المركزى الروسى إلى احتياطياته الدولية «إجمالى الاحتياطيات يبلغ ٦٣٠ مليار دولار/ ستمائة وثلاثين مليار دولار»، وهى ضريبة مؤلمة، إلاّ أن روسيا يمكنها التفاوض لسداد قيمة بعض وارداتها من هذه الأموال، مستندة إلى أوراق الضغط المهمة التى تمثلها صادرات الغاز والبترول إلى الدول الأوروبية، كما يتبقى لها نصف احتياطياتها الكبيرة «أكثر من ٣٠٠ مليار دولار/ ثلاثمائة مليار دولار» سواء في صورة احتياطيات من الذهب، أو النقد الأجنبى السائل، أو في السندات الصينية.. وغيرها ويجب أن نلاحظ هنا أن روسيا قد تخلصت خلال السنوات الماضية من الجزء الأكبر من سندات الخزينة الأمريكية التي كانت بحوزتها، كما يجب أن نضع فى اعتبارنا أنها ستجنى عوائد أكبر من تصدير البترول والغاز بسبب ارتفاع أسعارها بصورة هائلة.. كما أنها تستطيع تسوية بعض معاملاتها من خلال النظام الصينى البديل «سويفت» بالرغم من أنه أضيق نطاقا منه بكثير.. أو من خلال اتفاقيات السداد باستخدام العملات الوطنية مع دول كالصين وإيران وغيرهما، وكل ذلك من شأنه أن يخفف من تأثير العقوبات الغربية، وخاصة الأمريكية التي تنهال علي موسكو كل يوم.
وخلاصة القول إن جدار العقوبات الغربية وخاصة الأمريكية ضد روسيا تظل به ثغرات كثيرة وكبيرة، بغض النظر عن الصياغات ذات الدوى الإعلامى، من قبيل «خنق» أو «تدمير الاقتصاد الروسى»، ولا ينفى هذا أن الاقتصاد الروسي سيواجه مصاعب جدية تمامًا فى ظل العقوبات.. لكنها تظل بعيدة عن الوصول إلى ما يمكن وصفه «بالتدمير» أو «الخنق». ومع ملاحظة الفروق بين مستوى شمول العقوبات الحالية وتلك التى تم فرضها ضد روسيا عند استعادتها للقرم «٢٠١٤» فربما كان من الضرورى أيضًا ملاحظة أن روسيا قد تمكنت من تجاوز آثار تلك العقوبات التى كانت بمثابة إعلان حرب اقتصادية عليها.
والحقيقة أن روسيا دولة كبيرة ذات اقتصاد متنوع ومترابط علي نطاق واسع بالاقتصاد العالمى، فضلا عن امتلاكه لمنتجات ذات أهمية حيوية للاقتصاد الدولى، وخاصة الغاز والبترول، فضلا عن عديد من المعادن النادرة ذات الأهمية البالغة، فضلا عن القمح وهو سلعة حيوية للغاية، وضرورة حياة، وقد ارتفعت أسعاره بصورة كبيرة بمجرد اندلاع الحرب في أوكرانيا، وهو الآخر يمثل ثغرة في جدار العقوبات، وخاصة من توقف الصادرات الأوكرانية «روسيا تملك ١٠٪ ــ عشرة بالمائة من إجمالى الصادرات العالمية».. وتعتمد منطقة الشرق الأوسط بالذات بدرجة كبيرة على القمح الروسى والأوكرانى «مصر وسوريا والسودان ولبنان وليبيا والجزائر وغيرها» وتعويض من مصادر أخرى «كندا والأرجنتين والولايات المتحدة واستراليا وغيرها» سيزيد التكلفة بصورة ملحوظة للبلدان المستوردة.
وإذا كانت العقوبات الاقتصادية الأمريكية والغربية قد فشلت فى تطويع بلاد أصغر وأقل أهمية بكثير من روسيا بالنسبة للاقتصاد العالمى «مثل إيران وكوريا الشمالية وكوبا».. وفي تطويع روسيا نفسها منذ عام ٢٠١٤ فمن المشكوك فيه بشدة أن تنجح هذه العقوبات في تطويع موسكو الآن، مع أخذ قدراتها الاقتصادية واحتياج أوروبا لصادراتها من البترول والغاز بعين الاعتبار، وكذلك مع أخذ دوافعها لمواجهة واحتمال هذه العقوبات بعين الاعتبار.. نعنى الحساسية البالغة لقضية توسيع «الناتو» وإدماج أوكرانيا فيه كقضية أمن قومى ليست روسيا مستعدة للمساومة بشأنها، بغض النظر عن الثمن الذى قد تضطر إلى دفعه.