د.محمد فراج يكتب : مذبحة أمريكية للاقتصادات الأوروبية!
مرَّت أوروبا بأكثر أعياد الكريسماس ورأس السنة الجديدة كآبة منذ عشرات السنين، وربما أكثر كآبة من الأعياد التى شهدتها فى ظل تفشى كورونا (٢٠٢٠ و٢٠٢١).. شوارع وواجهات محلات خافتة الإضاءة بسبب القيود التى فرضتها أزمة الطاقة، ومبيعات أقل بكثير من موسم الهدايا التقليدى المصاحب للأعياد.. وحتى برج إيفل الشهير فى العاصمة الفرنسية باريس المعروفة باسم «مدينة النور» كان مظلمًا فى أعياد هذا العام، من باب ترشيد الطاقة.
بينما سيطر الشلل أو ما يشبه الشلل على حركة المرور فى عدد من العواصم الأوروبية بسبب إضراب عمال السكك الحديدية والمترو في بعضها، وخاصة العاصمة البريطانية لندن، أو النقص الحاد في البنزين ومشتقات البترول بسبب شح إمدادات الطاقة فى أوروبا عموما، فضلا عن الارتفاع الشديد فى الأسعار، أو بسبب إضراب عمال منشآت تكرير البترول فى دولة كفرنسا، وما ترتب عليه من نقص للبنزين فى محطات الوقود، وطوابير السيارات الممتدة أمام محطات البنزين أملاً فى الحصول على بضع لترات منه.
وامتدت الإضرابات فى بريطانيا لتشمل هيئة البريد العريقة المتشعبة الامتدادات فى حياة البريطانيين، ولتشمل طواقم التمريض «والإسعاف» للمرة الأولى منذ أكثر من مائة عام، ولتشمل الموظفين العاملين فى المنافذ الحدودية بما فيها المطارات مما تسبب فى إلغاء مئات الرحلات الجوية.. واضطرت الحكومة للاستعانة بألف ومائين من رجال الجيش لقيادة سيارات الإسعاف وتلقى طلبات الإغاثة، بينما تعطلت المستشفيات باستثناء أقسام الطوارئ والرعاية المركزة والحالات الحرجة، ورعاية الأطفال حديثى الولادة والمسنين، التى قررت نقابات التمريض عدم مشاركة العاملين فيها فى الإضراب، التزامًا بالتقاليد والإنسانية لمهنة التمريض.
وإذا كانت إضرابات أضيق نطاقًا من هذه قد أطاحت برئيس الوزراء البريطانى الأسبق «بوريس جونسون» ثم بخليفته «ليز تراس» خلال ستة أسابيع، فإن رئيس الوزراء البريطانى «ريشى سوناك» وجد نفسه مضطرًا للسعى إلى التفاوض مع نقابات العمال التى يناصبها حزبه «المحافظون» عداءً تاريخيا، لأن استمرار الشلل الذى تسببه الإضرابات يمثل خطورة كبيرة على الاقتصاد وعلى الاستقرار السياسى والأخطر من ذلك هو احتمال امتدادها لتشمل قطاعات أوسع.
الإضرابات امتدت إلى البرتغال حيث أضرب عمال السكك الحديدية، وإلى ألمانيا حيث أضرب طيارو شركة لوفتهانزا العملاقة، وإلى قطاعات مختلفة فى بلدان أوروبية عديدة.
التضخم يلتهم الأجور
العقوبات الأوروبية والغربية ضد روسيا، وخاصة فى مجال الطاقة، وما ترتب عليها من جنون الأسعار الذى فاقم من عدم كفاية البدائل الضرورية للوفاء باحتياجات الاقتصادات الأوروبية من الغاز الطبيعى والبترول والفحم، والاضطراب الكبير فى سلاسل التوريدات ونقص إمدادات الحبوب والزيوت الغذائية الروسية والأوكرانية والأسمدة الروسية.. كلها أمور أشعلت التضخم فى الاقتصاد العالمى، وفى مقدمته الاقتصادات الأوروبية، وأدت إلى تباطؤ النمو فى دول الاتحاد الأوروبى بحيث صارت تتأرجح على حافة الركود (انظر التفاصيل فى «الأموال» - ٢٥ ديسمبر ٢٠٢٢ و١ يناير ٢٠٢٣) بل وإلى الانكماش فى أكبر اقتصاد أوروبى «ألمانيا» وثانى اقتصادات القارة العجوز.
«بريطانيا» حسب الإحصاءات الرسمية.
ومع انفلات التضخم تآكلت القدرة الشرائية للأجور واندلعت الإضرابات فى مختلف بلدان أوروبا، ثم جاء الشتاء لتزداد الحاجة إلى موارد الطاقة من أجل التدفئة، وأدى الارتفاع الجنونى فى تكلفة فاتورة الطاقة ليُسبب مزيدًا من المعاناة للمواطن الأوروبى العادى، وليمنع ملايين الأسر أمام اختيارات مريرة بين التقليص الشديد للتدفئة، والاستغناء عن احتياجات أساسية أخرى، من بينها مستوى التغذية الذى تعودت عليه.
عقوبات غير مدروسة
وأصبح واضحًا تمامًا أن الأزمة الاقتصادية المتفاقمة والتضخم المنفلت، وتباطؤ النمو الشديد الذي يصل إلى حافة الانكماش والركود التضخمى كلها نتائج للعقوبات غير المدروسة تجاه روسيا وموارد الطاقة الروسية، وللاندفاع فى تطبيق هذه العقوبات دون دراسة كافية لسبل توفير البدائل الضرورية من موارد الطاقة «عصب الاقتصاد» تحت ضغوط أمريكية شديدة سعت إلى فصم العلاقة بين الأسواق الأوروبية وبين روسيا، حتى قبل المواعيد التى حددتها القمم الأوروبية، بما في ذلك التعطيل المتعمد لبعض خطوط أنابيب الغاز، بل وتخريب بعضها كما حدث فى حالة تفجير خطى الأنابيب الكبيرين «السيل الشمالى ١ و٢» تحت مياه بحر البلطيق، وكلها خطوات ألحقت أضراراً فادحة بالاقتصادات الأوروبية، وخاصة بالاقتصاد الألمانى الذى كان يعتمد على الغاز الروسي بنسبة ٥٥٪ من احتياجاته.
وقدَّرت مديرة صندوق النقد الدولى كريستالينا جيورجينا خسائر الاتحاد الأوروبى بسبب ارتفاع أسعار الطاقة وحده «تريليون دولار/ ألف مليار دولار» منذ بدء الحرب فى أوكرانيا حتى نهاية العام «بلومبرج، ١٩ ديسمبر ٢٠٢٢».
أما المستفيد الأول من هذه الخسائر فكانت الولايات المتحدة التى قدمت الغاز المسال لأوروبا بأضعاف سعره، وحسب الرئيس الفرنسى ماكرون فإن أمريكا باعت الغاز لأوروبا بأربعة أضعاف أسعاره فى السوق! وتعتقد أن هنا خطأ فى الترجمة لأن «أربعة أضعاف» تعنى ثمانية أمثال، وهو ما يبدو مستبعدًا.. لكن أربعة أمثال السعر فى حد ذاتها تعبِّر عن جشع فادح واستغلال غير معقول للموقف. ولعل هذا ما يوضح حرص أمريكا الشديد على قطع العلاقة بين أوروبا وإمداد الطاقة الروسية، وإذا كانت أمريكا قد باعت للاتحاد الأوروبى حوالى نصف احتياجاته من الغاز، فإنها قد حققت أرباحا فادحة تقدر بمئات المليارات من الدولارات.
وهكذا فإن مساعداتها العسكرية والاقتصادية لأوكرانيا، لا تمثل إلا جزءاً ضئيلاً مما أجبرت أوروبا على دفعه ثمناً للغاز الأمريكى!
ومن ناحية أخرى فقد لجأت أوكرانيا إلى وقف إمدادات البترول الروسى إلى المجر وسلوفاكيا والتشيك عبر خط «دروجبا/ الصداقة» ولم تتم إعادة تشغيل الخط إلا بعد احتجاجات شديدة وتهديدات من المجر، التى كان اقتصادها مهددا بالدمار الشامل بدون الإمدادات الروسية، مع أضرار فادحة للتشيك وسلوفاكيا.
إدراك بين العقوبات والتضخم المنفلت والأزمة الاقتصاية الطاحنة جعل التحركات الجماهيرية فى عدد من الدول الأوروبية تتسم بطابع سياسى واضح «بخلاف الحال فى بريطانيا، حيث تتسم الإضرابات بطابع اقتصادى بحت حتى الآن»، فوجدنا مظاهرات حاشدة فى بلدان مثل فرنسا وألمانيا وإيطاليا والتشيك تُطالب بمراجعة نهج العقوبات ضد روسيا، والبحث عن سبل لتسوية الأزمة دبلوماسيا، وتطالب حكومات بلدانها بعدم الرضوخ للضغوط الأمريكية، وعدم تقديم مساعدات لأوكرانيا أو الحد من هذه المساعدات إلى أدنى درجة، وتقديرنا أنه اتجاه مرشح للاتساع فى ظل اشتداد الأزمة الاقتصادية ومعاناة الشعوب الأوروبية وكذلك فى ظل الأعباء التى تتكبدها البلدان الأوروبية لمساعدة ملايين اللاجئين الأوكرانيين.
القانون الأمريكى لمكافحة التضخم
ويزيد من هذا الاحتمال ومن إمكانية توسع الخلاف بين أوروبا وأمريكا، إصدار واشنطن لقانون مكافحة التضخم الذى يتضمن مساعدات حكومية تقدر بنحو أربعمائة مليار دولار دعما للشركات الأمريكية فى صورة أشكال مختلفة من الدعم والتخفيضات الضريبية، علاوة على رفع الاحتياطى الفيدرالى لنسبة الفائدة على الدولار، الأمر الذى يترتب عليه هجرة واسعة للشركات ورؤوس الأموال الأوروبية إلى الولايات المتحدة، خاصة فى ظل توافر إمدادات الطاقة فى الولايات المتحدة، وبأسعار أقل من مثيلاتها الأوروبية.. وهو ما يعنى تفاقم أزمة الاقتصادات الأوروبية، وتضاؤل إمكانات الخروج منها، ويمكن القول إنه يمثل مذبحة للاقتصادات الأوربية.
وقد قام الرئيس الفرنسى ماكرون بزيارة إلى واشنطن واجتمع ببايدن فى محاولة للتخفيف من آثار قانون مكافحة التضخم، لكن بايدن رفض تماما تقديم أى تنازلات، الأمر الذي يعنى إصرار أمريكا على تجاهل مصالح حلفائها الأقرب، والمعنى فى تعميق جراح الاقتصادات الأوروبية، وهو ما سيترتب عليه آثار استراتيجية سلبية بالنسبة للقارة العجوز، وسيرفع مستوى غضب الجماهير الأوروبية على أمريكا، بما لذلك من عواقب سياسية واستراتيجية سلبية.