د.محمد فراج يكتب : أزمة الطاقة تعيد أوروبا إلى عصر الفحم الحجرى (٦)
القارة العجوز تطلق الرصاص على قدميها والمستفيد أمريكا
فشل الاتحاد الأوروبى فى تحديد سقف لأسعار الغاز الروسى كان متوقعا
كان منطقيا تماما أن يفشل الاجتماع الطارئ لوزراء الطاقة فى دول الاتحاد الأوروبى (١٠ سبتمبر الجارى) فى تحقيق هدفه المتمثل فى تحديد سقف لأسعار الغاز الطبيعى الروسى، أو غير الروسى، أو ما يمكن تسميته بتحديد «تسعيرة جبرية» للغاز، بل إن هذا الفشل كان متوقعًا لأسباب كثيرة فى مقدمتها النقص الشديد فى العرض والزيادة الكبيرة المتوقعة فى الطلب مع اقتراب الشتاء، وخطورة العبث فى أسواق الطاقة فى ظل هذه الظروف خاصة مع الحساسية المعروفة لأسواق الطاقة تجاه القرارات غير المدروسة، مما كان يمكن أن يؤدى إلى ارتفاع صاروخى للأسعار.
وفضلاً عن ذلك فقد عارضت القرار تلك الدول الأوروبية الأكثر اعتمادًا على الغاز الروسى وفى مقدمتها المجر وسلوفاكيا والنمسا، وهى دول «داخلية» بعيدة عن البحار، مما يجعل من شبه المستحيل استعاضتها بالغاز المسال عن الغاز الروسى الذى توصل إليها خطوط الأنابيب، مثلما هى الحال مع الدول المطلة على البحار والتى تحصل على الغاز المسال بتكلفة أكبر بكثير من تكلفة الغاز المنقول عبر خطوط الأنابيب، وببساطة فإن اقتصادات الدول «الداخلية» تكون معرضة للدمار فى حالة اقتطاع واردات الطاقة الحالية عنها. ولمّا كان اتخاذ القرارات فى مؤسسات الاتحاد الأوروبى يقتضى الإجماع، فإن معارضة الدول المشار إليها «المجر والنمسا وسلوفاكيا» كانت كفيلة بإفشال إمكانية اتخاذ القرار المشار إليه.
وكنا قد أشرنا فى مقالنا السابق (الأموال - ١١ سبتمبر) إلى قرار اجتماع الدول السبع الكبار G& بوضع سقف لأسعار البترول الروسى وذكرنا المصاعب الشديدة التى تواجه إمكانية تنفيذ هذه التسعيرة الجبرية والتى تجعل القرار محكومًا بالفشل مسبقا.
والواقع أن المشكلة أكثر تعقيدا فيما يتصل بالغاز، لأن توفير بدائل الغاز الروسى أصعب بكثير، فضلا عن أن التكلفة أعلى بدرجة كبيرة، كما أوضحنا فى مقالات عديدة سابقة، وكما تشرح وسائل الإعلام المختلفة كل يوم.
أرقام مضللة.. وخلط للحقائق
وإذا كان الأمر كذلك، وإذا كانت روسيا واضحة تماما فى موقعها بقطع إمدادات الغاز أسوة بإمدادات البترول ــ عن أى دولة تقدم على تحديد «تسعيرة جبرية» ــ فلماذا أقدم الاتحاد الأوروبى على محاولة وضع سقف لأسعار الغاز الروسى؟
أولا: تمكنت دول الاتحاد الأوروبى الكبرى وخاصة ألمانيا من ملء خزاناتها «الاحتياطية» بنسبة تتعدى الـ٨٠٪ من سعتها من المصادر البديلة بما فيها الغاز المسال باهظ التكلفة، بالرغم من انقطاع الجزء الأكبر من الإمدادات الروسية، مما خلق انطباعا زائفا بإمكانية الاستغناء عن الغاز الروسى و«طرد رويسا من سوق الغاز الأوروبية»! على حد تعبير بعض الساسة الأوروبيين، وخاصة بعد انخفاض نسبة الإمدادات الروسية إلى (٩٪ تسعة فى المائة) فقط من الاستهلاك الأروبى.
إلا أن هذا الانطباع خاطئ تماما لأسباب فى مقدمتها أن المخزون الاحتياطى لدى بعض الدول الأوروبية الكبرى، لا يكفى احتياجاتها لأكثر من شهرين.. بينما سيكون مطلوبا توفير ما يكفى لاحتياجات الصناعة والتدفئة حتى نهاية الشتاء على الأقل، وهذا أمر غير مضمون إطلاقا.
ومن ناحية أخرى فإن الدول التى لم تتمكن من ملء خزاناتها ــ وهى الأغلبية ــ وفى مقدمتها الدول «الداخلية» كالمجر والنمسا وسلوفاكيا ستكون فى وضع بالغ الصعوبة أو حتى مدمر.
ثانيا: إن انخفاض تغطية الغاز الروسى للاستهلاك الأوروبى من «أربعين فى المائة» إلى «تسعة فى المائة» فقط لم يكن باختيار أوروبا، ولا حتى روسيا وحدها.. أو نتيجة لتوافر البدائل، وإنما نتيجة لسلسلة من الضغوط الأمريكية والقرارات الأوروبية الخاطئة وردود الأفعال الروسية.
١ - وعلى سبيل المثال فإن رفض دول مثل بولندا وبلغاريا وجمهوريات البلطيق دفع ثمن البترول والغاز الروسى بالروبل، ترتب عليه قطع الإمدادات عنها، ومن هذه الدول بولندا التى قطعت روسيا الغاز عن خط "يامال" المار عبرها إلى ألمانيا وتبلغ طاقته (٣٠/ ثلاثين مليار م٣ سنويا) أى حوالى (٨٠/ ثمانين مليون م٣ يوميا).. كما قطعت أوكرانيا مرور الغاز الروسى عن أحد الخطين المارين عبرها إلى دول وسط أوروبا وصولا إلى ألمانيا «بنفس الطاقة تقريبا».
٢ - أما بالنسبة لخط «السيل الشمالى -١» وهو الخط الرئيس المزود لألمانيا ودول أوروبية أخرى بالغاز الروسى بطاقة (٥٥ مليار م٣ سنويا/ أى ما يتراوح بين ١٣٠ - ١٤٠ مليون م٣ يوميا) فمعروفة قصة مشكلات صيانة توربينات دفع الغاز فيه، وهى ألمانية الصنع، من إنتاج شركة سيمينز والشكاوى الروسية المعلنة من تقصير الشركة فى الصيانة، وامتناع كندا عن تسليم أحد هذه التوربينات «حيث يوجد مصنع سيمينز فى كندا» بضغوط أمريكية، ومن ثمَّ رد روسيا إيقاف ضخ الغاز لمدة عشرة أيام، ثم وقفه نهائيا.
٣ - وهكذا لم يعد يعمل إلاّ خط واحد من الخطين المارين بأوكرانيا «الخط الشمالى» وخط السيل الجنوبى أو «السيل التركى» الذى تتقاسم تركيا الإمدادات المارة عبره مع دول البلقان «٣١ مليار م٣ سنويا/ مناصفة».
٤ - ومعروف أيضا ما ترتب على ذلك كله من نقص شديد فى إمدادات الغاز وما ترتب على ذلك من ارتفاع الأسعار، وعدم توافر البدائل، وإعلان النرويج «فتح الغاز الروسى الرئيسى» عجزها عن توفير بديل كاف للغاز الروسى «فرنسا - ٢٤/ ووكالات ومواقع) وكذلك إعلانات قطر المتكررة عن عدم قدرتها على توفير بديل للإمدادات الروسية، سواء لارتباطات قطر التعاقدية طويلة الأمد، أو لضمان كميات الإمدادات الروسية (صحف ومواقع وقنوات - ١٥ سبتمبر كمثال أخير).
ثالثا: وباختصار فإن هبوط نسبة تغطية الغاز الروسى إلى (تسعة فى المائة) فقط من الاستهلاك الأوروبى، لم يكن بسبب الاستغناء الأوروبى عن ذلك الغاز بتوافر بدائل مناسبة، بل كانت عواقبه وخيمة بالنسبة للاقتصادات الأوروبية سواء من ناحية ارتفاع الأسعار أو تعطيل المصانع أو إجراءات تقنين «ترشيد» استخدام الطاقة.. وبالتال فإن «طرد روسيا من سوق الغاز الأوروبية» هى خطوة سابقة لأوانها كثيرًا، وبالمناسبة فإن قرار الاتحاد الأوروبى مع بدء اشتعال الأزمة الأوكرانية كان مقررا أن يتم تنفيذه تدريجيا بحيث يتم الاستغناء عن الإمدادات الروسية بنهاية عام ٢٠٢٤، ومع ذلك فقد كان الخبراء يتشككون فى إمكانية حدوث ذلك، وكان كثيرون منهم يعتبرون أن الحاجة إلي الامدادات الروسية ستستمر حتى ٢٠٣٠.
فتش عن أمريكا
غير أن التعجل فى اتخاذ مزيد من الخطوات العقابية ضد روسيا وما ترتب على ذلك من ردود أفعال روسية كان بسبب الضغوط الأمريكية الشديدة على الاتحاد الأوروبى، وانصياع أوروبا لهذه الضغوط ومعروف أن أمريكا هى المستفيد الأول من الوضع الحالى، لأن الأسواق الأوروبية انفتحت علي مصراعيها أمام واردات الغاز المسال الأمريكى، وهو مطلب قديم لواشنطن، لطالما طرحه الرئيس السابق «ترامب» وهو ما كان يدفع أمريكا لمناداة مد خط «السيل الشمالى -٢» من روسيا إلى ألمانيا بـ«طاقة ٥٥ مليار/ خمسة وخمسين مليار م٣ سنويا» وبالرغم من مقاومة ألمانيا «في عهد ميركل» لكل الضغوط الأمريكية، واكتمال مد الخط، فإن الحكم الجديد فى ألمانيا خضع للضغوط ورفض تشغيل «السيل الشمالى -٢» وبالمناسبة فإن روسيا تطالب الآن بتشغيله، خاصة أن كل معداته جاهزة وجديدة، وبديهى أن كل الحلفاء الغربيين يرفضون، علمًا بأن منع تشغيل ذلك الخط كان من أول العقوبات التي تم فرضها ضد روسيا، مع بدء الحرب فى أوكرانيا.
والحقيقة أن طرد روسيا من سوق الغاز الأوروبية كان معناها الحقيقى حرمان أوروبا من احتياجاتها شديد الحيوية من الغاز الروسى، والعودة لاستخدام الفحم الحجرى ومحطات توليد الكهرباء على نطاق واسع، وارتفاع أسعار الطاقة وتعطيل المصانع وزيادة البطالة وإضعاف قدرة أوروبا التنافسية لما فيه مصلحة أمريكا نفسها، والتى تشكو باستمرار من العجز التجارى مع أوروبا، وبالطبع لما فيه مصلحة الصين التى تتعزز قدرتها التنافسية بفضل حصولها على البترول والغاز بأسعار رخيصة من روسيا وكذلك القوى الآسيوية الصاعدة وفى مقدمتها الهند والنمور الآسيوية.
وبديهى أن ارتفاع تكلفة الطاقة وزيادة التضخم وإغلاق المصانع وغيرها من نتائج أزمة الطاقة كان منطقيا أن تؤدى إلى ازدياد مظاهر السخط الاجتماعى والاحتجاجات الجماهيرية على النحو الذي نراه فى عديد من البلدان الأوروبية اليوم ومن المتوقع أن يتفاقم مع دخول الشتاء.
وبديهى كذلك أن أوروبا ستدفع ثمنا فادحا من قدراتها التنافسية بسبب هذه السياسة والإجراءات غير المدروسة وبالطبع من قوتها الاقتصادية ورفاهية شعوبها، كما أن تماسك صفوف الاتحاد الأوروبى سيكون معرضا للتصدع بسبب الإجراءات التى لا تراعى مصالح الدول الأضعف، وذات الظروف الخاصة من حيث مواقعها الجغرافية كدول وسط أوروبا، وهو ما يدفع عديدا من الخبراء لإبداء المخاوف على تماسك الاتحاد الأوروبى.
ولعل من المناسب هنا أن نعيد التذكير بكلمات رئيس الوزراء المجرى فيكتور أوربان «إننا مثل الذى قطع أنفه ليغيظ جاره» وأيضا «إننا كمن يطلق الرصاص على قدميه».
وللحديث بقية