د.محمد فراج يكتب : أزمة الطاقة تعيد أوروبا إلى عصر الفحم الحجرى ( 7 )
أهم دروس الأزمة.. الاستخفاف بروسيا خطأ جسيم
تحدثنا فى المقالات الستة السابقة من هذه السلسلة- وفى مقالات أخرى منذ بداية المواجهة الجارية بين روسيا والغرب فى أوكرانيا- عن الملامح العامة لأزمة الطاقة العالمية، مع التركيز بصفة خاصة على الانعكاسات شديدة السلبية لهذه الأزمة على القارة الأوروبية نتيجة لسياسة العقوبات غير المدروسة من روسيا وواردات الطاقة الروسية. وأوضحنا كيف أدت الضغوط الأمريكية الشديدة على الاتحاد الأوروبى لاتخاذ قرارات بفرض سلسلة متلاحقة من حزم العقوبات الهادفة إلى «شل وتدمير الاقتصاد الروسى» إلى نتائج عكسية ألحقت أضراراً فادحة ليس بالاقتصادات الأوروبية وحدها، بل وأيضاً بالاقتصاد العالمى بأسره، وخاصة بالدول النامية، التى وجدت نفسها ليس فى مواجهة أزمة طاقة متفاقمة فحسب، بل وأيضاً فى مواجهة أزمة غذائية متصاعدة، واستيراد للتضخم بحكم ضعف وتخلف اقتصاداتها واحتياجها الشديد لاستيراد أنواع السلع ومستلزمات الإنتاج من الدول الصناية المتقدمة.
أما روسيا التى أراد الغرب تدمير اقتصادها من خلال نظام العقوبات وتجميد ثلاثمائة مليار دولار من احتياطياتها الدولية فقد برهن اقتصادها على قدرته على الصمود فى المدى المتطور والمتوسط على الأقل بالرغم مما أصابه من أضرار لا شك فيها. وتمكنت من توجيه ضربات اقتصادية مؤلمة لخصومها لأسباب سنجىء إليها، وكان ينبغى على صناع القرار الغربيين أخذها بعين الاعتبار.
والحقيقة أن مسار المواجهة الجارية، وخاصة فيما يتصل بأزمة الطاقة يطرح دروساً واستنتاجات بالغة الأهمية فيما يتصل بالعلاقات الدولية عموماً والعلاقات الاقتصادية الدولية خصوصاً، بصورة أخص فيما يتصل بأزمة الطاقة المتفاقمة.
الخروج من أزمة إلى أزمة!
أولاً : من المعروف أن أزمة الطاقة الحالية لم تكن وليدة الحرب الأوكرانية، بل بدأت مع حالة الإغلاق التى ارتبطت بتفشى وباء كورونا، وما ارتبط بها من زيادة كبيرة للطلب على موارد الطاقة، وهو ما أدى إلى ارتفاع أسعار البترول - وبصفة أخص الغاز الطبيعى - بصورة متزايدة في ظل الثبات النسبى للعرض، والصعوبات المرتبطة بزيادة الإنتاج. وهو ما جعل الحديث عن «أزمة الطاقة» مادة يومية فى كل وسائل الإعلام العالمية.
وفى ظل وضع كهذا فإن من الطبيعى أن يؤدى أى توتر كبير فى العلاقات الدولية إلى ارتفاع كبير فى أسعار موارد الطاقة فما بالنا إذا كان الحديث يدور عن حرب لاحت بوادرها قبل شهور بسبب سياسة توسيع «الناتو» شرقاً والحديث عن بدء اتخاذ إجراءات ضم أوكرانيا إليه، بما يمثل هذا من خطر على الأمن القومى لروسيا، أحد كبار منتجى ومصدرى الطاقة فى العالم، والتى تعتمد عليها أوروبا بدرجة كبيرة (أكثر من أربعين بالمائة من استهلاك الغاز الطبيعى، وخمسة وخمسين بالمائة من استهلاك ألمانيا - وخمسة وأربعين بالمائة من واردات الفحم، منها أكثر من خمسين بالمائة من استهلاك ألمانيا، وثلاثين بالمائة من واردات النفط الخام ومثلها من واردات المشتقات البترولية .. البنزين والديزل وغيرها).
الحقيقة أن أى صانع قرار يتصف بالحد الأدنى من الحصافة كان ينبغى أن يفكر مرتين فى العواقب الاقتصادية قبل إشعال فتيل التوتر مع روسيا، ناهيك عن إشعال الحرب مع القوة العسكرية (والنووية) الثنائية فى العالم وأحد أكبر منتجى ومصدرى الطاقة والحبوب، فى ظل أزمة الطاقة الناشئة عن الخروج من حالة الإغلاق المرتبطة بكورونا وكان ينبغى على أى سياسى مسئول أن يفكر فى ردود الأفعال الروسية المحتملة وكيفية التعامل معها لكن هذا لم يحدث! إذا كانت أمريكا قد وضعت نصب عينيها المكاسب التى يمكن أن تجنيها من تصدير الغاز المسال إلى أوروبا وهو ما كان يجعلها أشد معارضى خط (السيل الشمالى - 2 ) إلى ألمانيا، فإن أوروبا كان عليها أن تفكر ملياً فى الأمر، ولا تنساق وراء واشنطن بعينين معصوبتين.. لكن الأوروبيين لم يفكروا جيداً فى عواقب إشعال المواجهة مع روسيا.
الاستخفاف بروسيا.. خطأ جسيم
ثانياً: منذ سقوط الاتحاد السوفييتى وحالة التبعية المزرية التى كانت فيها القيادة الروسية (يلتسين ورفاقه) تجاه الغرب، وخاصة تجاه الولايات المتحدة، ساد فى الغرب نوع من غطرسة القوة والاستخفاف بروسيا باعتبارها عملاقاً نووياً وقزماً اقتصادياً، حتى أن الرئيس الأمريكى الأسبق أوباما كان يتحدث عن روسيا باعتبارها «مجرد قوة إقليمية»..!! ذات اقتصاد متخلف، وأن السياسة الواجبة تجاهها هى عزلها واحتواؤها وحصارها من خلال ضم الدول المجاورة فيها إلى «الناتو».. كما درج السياسيون والمنظرون الغربيون على الحديث عن اعتماد روسيا الكبير على عائدات تصدير موارد الطاقة والمواد الخام.. ولم يقيموا اعتباراً كافياً لأن موارد الطاقة بالذات تمثل عصب الاقتصاد العالمى، وأن امتلاك روسيا لنصيب وافر منها يجعل منها لاعباً دولياً بالغ الأهمية فى الاقتصاد العالمى، وخاصة فى ظل قوتها العسكرية الهائلة، وكونها دولة صناعية ليست فى مستوى تقدم الولايات المتحدة والدول الغربية الكبرى، لكنها تعمل على تحديث اقتصادها، وتحقق تقدماً مشهوداً فى الصناعات العسكرية بوجه خاص، كما أنها أكبر مصدر دولى للحبوب والعديد من المعادن النادرة الضرورية للصناعة.
ومن ناحية أخرى فإن ضخامة الاقتصاد الروسى وموارده من الغاز الطبيعى والبترل والفحم والحبوب وتقدمها فى الصناعات العسكرية، كلها تمثل أساساً لعلاقات اقتصادية متنامية بينها وبين القوى الصاعدة فى العالم، وفى مقدمتها الصين - المنافس الاقتصادى الأساسى لأمريكا والاتحاد الأوروبى - بالإضافة إلى الهند والأسواق الآسيوية الناشئة، والبرازيل وجنوب إفريقيا (من خلال البريكس) ودول الشرق الأوسط، وكبريات الدول المنتجة والمصدرة للبترول فى الخليج وغيره من خلال (أوبك +) فضلاً عن درجة اعتماد أوروبا الكبيرة عليها كمصدر للطاقة.
وبالنظر إلى النحو الهائل للطلب الصينى والهندى والآسيوى (الأسواق الصاعدة) على الطاقة بحكم تطور الصناعة الكبير فيها، وإلى تراجع الوزن النسبى للولايات المتحدة فى الاقتصاد العالمى وفى العلاقات الدولية عموماً، فإن فرض العقوبات على روسيا لم يكن من شأنه أن يؤدى إلى إغلاق الأسواق فى وجهها وإلى أن «تشرب بترولها» كما جرت العادة على الحديث فى الغرب.. بل وجدت روسيا أسواقاً بديلة تبيع فيها ما لديها من بترول وغاز وفحم وغيرها، بخصم لم يمنع عائداتها من تحقيق طفرة كبيرة بحكم الارتفاع الكبير فى الأسعار كما أن هذه الدول لم تقم اعتباراً للتهديدات الغربية - وخاصة الأمريكية - بفرض عقوبات عليها، بل إن الهند مثلاً تسجل طاقتها التكريرية الفائضة فى استيراد البترول بأسعار رخيصة من روسيا، وتكريره ثم بجمع المشتقات البترولية للدول الأوروبية! والأكثر من هذا أن دولة (أطلسية) مثل تركيا أعلنت بوضوح ومنذ اليوم الأول عدم التزامها بنظام العقوبات الغربية ضد روسيا، باعتبارها عقوبات ودية أو أحادية الجانب، ومن ثم فهى غير ملزمة وتحقق تركيا مكاسب كبيرة من استيراد موارد الطاقة الروسية الرخيصة.
أما بالنسبة لدول الأوبيك، فقد أعلنت التزامها بحصص الإنتاج المقررة فى إطار (أوبيك +) وفشل الرئيس الأمريكى بايدن فى إقناع السعودية والإمارات والكويت قيادة إنتاجها بما يجعل الأسواق تستغنى عن البترول الروسى، علماً بأن الطاقة الإنتاجية العالمية المتوافرة هى فى حدود (ثلاثة ملايين برميل / يومياً) وليست قابلة للزيادة الفورية. كما أن الدول المنتجة ليست مستعدة للتضحية بمكاسبها الناتجة من ارتفاع الأسعار لأجل عيون الولايات المتحدة، خاصة فى ضوء تجاربها التاريخية المريرة بسبب سياسة (إغراق أسواق البترول) ولا ينبغى هنا أن ننسى أن روسيا نفسها هى عضو فى (أوبيك +) وقد بذلت الجهد الأساسى بالاشتراك مع السعودية فى تأسيس هذه الصحيفة المشتركة بين دول (أوبيك) والدول المنتجة والمصدرة للبترول من خارج المنظمة كصيغة للحفاظ على التوازن بين العرض والطلب، وبالتالى على أسعار مناسبة للبترول فى الأسواق. والحقيقة أن التوصل إلى هذه الصيغة (أوبيك +) لم يكن ممكناً أن يحدث لولا النمو الكبير للعلاقات بين روسيا ودول الخليج العربى، فى إطار من تنامى النفوذ الروسى فى منظومة العلاقات الدولية.
وللحديث بقية حول دروس أزمة الطاقة.