د.محمد فراج يكتب : قمة شرم الشيخ «لحظة فارقة» فى جهود إنقاذ كوكبنا (٣ - ٣)
هل تفيق البشرية قبل فوات الأوان؟
القاعدة فى الفعاليات الدولية الكبرى ــ مثل المؤتمر العالمى للمناخ ــ أن أنشطتها ومواعيدها تكون منظمة على أعلى مستوى، وبالدقيقة والثانية، ولا يحدث تغيير فيها إلاّ لأسباب فى غاية الأهمية، وخاصة حينما يكون الإعداد لها قد بدأ منذ وقت طويل، وحينما تكون مدتها كبيرة بما فيه الكفاية لقتل كل الأمور بحثا.. وعلى سبيل المثال فقد كان مقرراً أن يستمر مؤتمر شرم الشيخ COP27 من السادس حتى الثامن عشر من نوفمبر الجارى. لهذا فقد اندهش المراقبون حينما أعلن وزير الخارجية ورئيس المؤتمر سامح شكرى عن تأجيل الجلسة الختامية مرتين، وليومين كاملين.
ولكن إذا عُرف السبب بطل العجب.. أما السبب فقد كان الحرص على إنقاذ المؤتمر من الفشل بسبب جشع وأنانية الدول الصناعية الكبرى التى ظلت طويلا تماطل فى الموافقة على إنشاء صندوق التعويضات عن الخسائر والأضرار المترتبة على كوارث التغيرات المناخية المترتبة على الانبعاثات الناشئة أساسا عن الأنشطة الصناعية، والتى تؤدى إلى تفاقم ظاهرة الاحتباس الحرارى، ورفع درجة حرارة كوكب الأرض بكل ما ينشأ عنها من كوارث مفاجئة عن ارتفاع لمنسوب مياه البحار، وأعاصير وسيول وفيضانات وجفاف وتصحر.. إلخ.. وهو ما تحدثنا عنه تفصيلا في الجزءين السابقين من هذا المقال (الأموال - ١٣ نوفمبر و٢٠ نوفمبر).
وإذا كانت الدول الصناعية والغنية وفى مقدمتها الدول العشرين هى المسئولة عن إنتاج أكثر من ٨٠٪ من الانبعاثات المتسببة فى الاحتباس الحرارى التى تعانى منها البشرية كلها ويموت بسببها أكثر من ١٥ مليون إنسان سنويا باعتراف المبعوث الرئاسى الأمريكى لشئون المناخ جون كيرى (اليوم السابع، ١١/ ١١/ ٢٠٢٢) فالمنطقى أن تتحمل المسئولية الأولى فى الجهود الرامية إلى خفض الانبعاثات من ناحية، وفى تعويض الدول النامية عن الخسائر والأضرار الناتجة عن هذه المتغيرات من ناحية ثانية، خاصة أن الدول النامية لا تحتمل اقتصاداتها الضعيفة القُدرة على مواجهة تلك الأضرار والخسائر، لكن الواقع أن الدول الكبرى تتقاعس عن دفع المبلغ الذى تعهدت بتقديمه منذ عام 2009 وقدره ١٠٠ مليار دولار لدعم جهود مكافحة المتغيرات المناخية.. ولا تنتهج هى نفسها سياسات مناخية منضبطة وفق الالتزامات الدولية بما يؤدى إلى خفض الانبعاثات، وهذا ما سنعود إليه فيما يلى من مقالنا.
أنانية وبخل
أما بخصوص «صندوق التعويض عن الخسائر والأضرار» فهو مطلب قديم للدول النامية «مجموعة الـ٧٧» ماطلت الدول الكبرى طويلا فى إدراجه أصلا على أجندات مؤتمرات المناخ المتعاقبة، حتى تم أخيرًا وبعد ضغوط شديدة إدراجه على أجندة مؤتمر شرم الشيخ، ومع ذلك ظلت الدول الصناعية الكبرى «والغنية» حتى اللحظة الأخيرة تماطل فى الموافقة على إنشاء الصندوق المذكور. وحينما وافقت عليه أخيرا ككيان فإنها تملصت من تحديد أى مبالغ أو التزامات، أو حتى تحديد البلدان المستحقة للمساعدة وتلك الملتزمة بتقديمها!
وقد لاحظنا كيف خلت كلمة الرئيس الأمريكى بايدن أمام المؤتمر من أى إشارة للصندوق بالرغم من أنه تحدث بالتفصيل عن جهود الولايات المتحدة لمواجهة التغيُّرات المناخية! (راجع: الأموال - ٢٠ نوفمبر).
أما الصين.. أكبر دولة منتجة للانبعاثات المسببة للاحتباس الحرارى وثانى أكبر اقتصاد فى العالم، فتتملص من المساهمة فى الصندوق بدعوى أنها مصنفة ضمن «الدول النامية» لدى الأمم المتحدة، على أساس أن متوسط نصيب الفرد فيها سنويًا من الناتج المحلى الإجمالي أقل بكثير من الدول الغربية المتقدمة، بسبب عدد سكانها الهائل (١٤٠٠/ ألف وأربعمائة مليون نسمة)، وصحيح أن الصين حققت تقدما مشهودا في مجال خفض الانبعاثات خلال الأعوام الماضية، إلا أنها لاتزال المصدر الأول للانبعاثات فى العالم.. وتستند أمريكا والدول الأوروبية واليابان (الغنية) إلى وضع الصين والهند «وهى الأخرى من أكبر الدول المتسبِّبة فى الانبعاثات» لتراوغ فى تحديد التزاماتها، أو تسعى إلى دفع مبالغ صغيرة، علمًا بأن الدول الأخيرة هى المتسبب الرئيسى «تاريخيا» فى نشوء ظاهرة الاحتباس الحرارى.
وهكذا تم الاتفاق على إنشاء الصندوق بعد مماطلة شديدة، مع إحالة التفاصيل الخاصة بتمويله وعمله إلى لجان تعمل خلال العام القادم حتى Cop28 فى الإمارات، وتقدم تقاريرها إلى المؤتمر على أمل اتخاذ قرارات محددة بشأنها! ومع ذلك اعتبر المراقبون أن مجرد الاتفاق على إقامة الصندوق وبدء دراسة الإجراءات التنفيذية هو فى حد ذاته خطوة لا بأس بها إلى الأمام، رغم تأجيل الاتفاق على القضية الأكثر أهمية، وهى قضية التمويل.. (بوابة الأهرام، ٢٢ نوفمبر - ووكالات).
خسائر هائلة
والحقيقة أن الاتفاق على مصادر التمويل هى قضية عاجلة للغاية، لأن خسائر الدول النامية هى خسائر فوق قدرتها على الاحتمال، وعلى سبيل المثال فإن السيول الجارفة التى شهدتها باكستان خلال الأسابيع الماضية قد كلفتها خسائر تبلغ (٣٠/ ثلاثين مليار دولار)، بينما تلقت مساعدات أوروبية تبلغ (ستين مليون دولار) لا تمثل إلا قطرة فى بحر خسائرها (سكاى نيوز عربية، ٢١/ ١١/ ٢٠٢٢).
وتشير دراسة مقدمة للمؤتمر إلى أن إجمالى الخسائر المرتبطة بالمناخ فى (٥٥ دولة نامية) خلال العقدين الماضيين قد بلغت نحو (٥٢٥ مليار) خمسمائة وخمسة وعشرين مليار دولار تمثل حوالى ٢٠٪ من ناتجها المحلى (بوابة الأهرام، ٢٢ نوفمبر) علمًا بأن الكوارث المناخية يحتاج أغلبها إلى مواجهة عاجلة لإيواء الناس، وإعادة إعمار المنازل ومختلف أشكال المساعدات الإنسانية (الأعاصير، السيول، الفيضانات، إلخ..» وإذا استمرت هذه الطريقة فى المماطلة غير المسئولة من جانب الدول الصناعية والغنية، فإن من الممكن أن تطول المفاوضات حول تمويل الصندوق أعوامًا، أو أن يبدأ بمبالغ ضئيلة غير كافية لتحقيق الهدف منه، وهو ما دفع صحفًا عالمية «غربية» هامة مثل «الجارديان» (٢١نوفمبر) و«الفاينانشيال تايمز» (٢٢ نوفمبر) نقلا عن المصرى اليوم، ٢٣ نوفمبر للإعلان عن خيبة أملها فى نتائج المؤتمر عمومًا، وفيما يتصل بصندوق الخسائر والأضرار خصوصا.
خيبة أمل السيد جوتيريش
أما الأمين العام لمنظمة الأمم المتحدة أنطونيو جوتيريش فقد عبَّر صراحة عن خيبة أمله فى نتائج المؤتمر وخاصة فيما يتصل بفشله فى وضع «خطة لخفض الانبعاثات بشكل جذرى» وأكد أن «كوكبنا لايزال فى قسم الطوارئ، نحتاج إلى خفض جذرى للانبعاثات حالاً، وهذه مسألة لم يعالجها المؤتمر».. بينما قال نائب رئيسة المفوضية الأوروبية فرانس تيمريانس فى الجلسة الختامية للمؤتمر ما حققناه «ليس كافيًا كخطوة للأمام.. ولا يأتى بجهود إضافية من كبار الملوثين لزيادة خفض انبعاثاتهم وتسريعه (……) وهذا مخيب للآمال… (RT، ٢٠ نوفمبر، ومواقع ووكالات).
ويكفى أن نشير إلى أن الصين لا تلتزم بمقررات قمة جلاسجو Cop26 بخصوص تخفيض الانبعاثات إلى الصفر «صفر انبعاثات» بحلول ٢٠٥٠.. وتصر على تحقيق ذلك عام ٢٠٦٠، بينما تتمسك الهند بعام ٢٠٧٠ كموعد لتحقيق هذا الهدف.
هنا لا يحتاج الأمر إلى الالتزام بسياسات وأهداف مناخية صحيحة فحسب، بل يحتاج إلى الوفاء بتقديم الدعم للدول النامية للالتزام بهذه السياسات والأهداف، وهو ما أشرنا أكثر من مرة إلى عدم وفاء الدول المتقدمة بالتزاماتها تجاهه. كما يحتاج إلى أمور منها مثلا سياسة متسامحة تجاه حقوق الملكية الفكرية للأجهزة والاختراعات والتكنولوجيات المساعدة على تقليل الانبعاثات لتستطيع الدول النامية الاستفادة منها دون أعباء إضافية وهو ما لم يتحقق حتى الآن.
ونلاحظ هنا أن قطاع النقل العالمي وحده يتسبب فى صدور ٢١٪ من الانبعاثات الضارة بالمناخ، بينما لاتزال تكنولوجيات كالسيارات الكهربائية محدودة الانتشار وغالية الثمن، فضلا عن المشكلات التى تواجه تطوير بطارياتها القادرة على تخزين الطاقة.. فضلا عن أن هذه البطاريات نفسها تحتاج إلى توليد طاقة كهربائية لشحنها، وأن تكون هذه الطاقة من مصادر نظيفة.
تكاليف باهظة وإرادة غائبة
وإجمالاً فإن العالم يحتاج إلى (٢٫٤ تريليون دولار سنويا/ نكرر: ألفين وأربعمائة مليار دولار سنويا) للوفاء باحتياجات الانتقال إلى توليد الطاقات النظيفة والمتجددة.. بينما لم تقدم الدول الغنية حتى الآن الـ(١٠٠/مائة مليار دولار) التى تعهدت بتقديمها سنويا (سكاى نيوز عربية، ٢١ نوفمبر ٢٠٢٢) وهو ما يجعل قضية خفض الانبعاثات تتقدم ببطء شديد، ويضع موضع الشكوك إمكانية تحقيق الهدف الكبير بالحفاظ على درجة حرارة كوكبنا فى حدود «درجة ونصف درجة مئوية» فوق مستوى حرارته قبل بدء الثورة الصناعية، بل إن إطلاق العنان للنزعات الانتقامية والعقوبات غير المدروسة تجاه إمدادات الطاقة الروسية خلال الشهور الماضية منذ فبراير ٢٠٢٢ وعدم توافر البدائل الكافية من الغاز الطبيعى، قد أدى لزيادة كبيرة فى استخدام الفحم الحجرى لتوليد الكهرباء فى القارة الأوروبية بصورة خاصة «وخارجها طبعا بسبب ارتفاع أسعار الغاز الطبيعى» مما أدى لانتكاسة لجهود خفض الانبعاثات، ووصل الأمر إلى عودة بعض سكان القارة الأوروبية لاستخدام «الحطب» فى التدفئة، بما يمثله ذلك من زيادة الانبعاثات، فضلا عن أن ارتفاع أسعار الغاز والبترول، وبالتالى أسعار الطاقة الكهربائية يؤدى للتوسع فى استخدام الفحم الحجرى فى توليد الكهرباء والوسائل الأكثر بدائية منه كـ«الحطب» فى التدفئة شتاء.. وهو الأمر الذى جعل مؤتمر شرم الشيخ ينطلق من أوضاع أسوأ مما كان عليه الأمر فى مؤتمر جلاسجو العام الماضى، كما أن COP28 سينطلق من أوضاع أسوأ من تلك التى واجهها مؤتمر شرم الشيخ بسبب التوسع فى استخدام الفحم الحجرى «المعروف باسم الوقود القذر» بما يطلقه من انبعاثات أكثر.
وإذا استمر العالم في هذا السلوك «الانتحاري» كما يطلق عليه كثير من المراقبين والنشطاء فى مجال المناخ، فإن كوكبنا سيكون معرضًا لعواقب أكثر فداحة مما حدث حتى الآن.. وهو أمر لا ينبغى للسياسيين والإعلاميين والمثقفين «وبالطبع رجال الأعمال» العقلاء؛ أن يسمحوا بحدوثه بأى حال من الأحوال.. وإذا كانت أضراره الأفدح والأكثر مأساوية تلحق بسكان البلاد النامية، فإن سكان البلاد الصناعية والغنية لن يكونوا بمنأى عنه.. فهل تفيق البشرية قبل أن يفوت الأوان؟؟ نأمل ذلك.