د.محمد فراج يكتب : .. المواجهة العالمية مستمرة والحرب الأوكرانية أكثر ضراوة
2023.. المواجهة العالمية مستمرة والحرب الأوكرانية أكثر ضراوة
خريطة جديدة لعلاقات القوى الدولية وميلاد عالم متعدد الأقطاب
تشير كل الشواهد إلى أن المواجهة المختلفة بين روسيا والغرب مستمرة طوال العام الجديد (٢٠٢٣) على الأقل، سواء فى جانبها العسكرى أو فى جوانبها الاقتصادية المتعددة، أو جوانبها السياسية والإعلامية والثقافية والفكرية.. بل إنها ستزداد احتدامًا وشراسة، والأرجح جدًا أنها ستمتد لسنوات أخرى قادمة، ذلك أن المواجهة تدور حول إعادة رسم خرائط القوة فى العالم. وهى أوسع بكثير من الحرب الدائرة في أوكرانيا، والتى تمثِّل مجرد تعبير مكثف «عسكرى» عن هذه المواجهة الشاملة، التي تدفع شعوب العالم بأسره ثمنًا فادحًا لها.
عسكريًا.. أسفرت الشهور الماضية من الحرب عن سيطرة روسيا على «عشرين بالمائة» من مساحة أوكرانيا، أى «مائة وعشرين ألف كم٢» من مساحة البلاد البالغة «ستمائة ألف كم٢».. وهى مساحة ضخمة بكل المقاييس، وبغض النظر عن الأحاديث الإعلامية الغربية حول المقاومة الأوكرانية و«الهزائم الروسية في الميدان»..الخ، كما ألحقت القوات الروسية خسائر فادحة بالبنية التحتية العسكرية والمدنية، وصحيح أن ما حققته روسيا أقل بكثير من التقديرات التى كانت تُشير إلى قدرتها على اجتياح أوكرانيا خلال أسابيع، لكن من الضرورى الإشارة إلى أن هذه التقديرات تعود إلى العسكريين الغربيين أصلا، وأنها كانت بهدف التعبئة السياسية والإعلامية ضد موسكو، التى لم تثبتها أبدًا.
ومن ناحية أخرى فقد اتضح أن السنوات الثمانى الماضية منذ اشتعال الأزمة الأوكرانية (٢٠١٤) قد شهدت تقديم مساعدات عسكرية غربية ضخمة لأوكرانيا، سواء من ناحية الإمداد بالأسلحة المتقدمة، أو تدريب القوات الأوكرانية «سرًا وعلنًا» أو إرسال الخبراء والمستشارين الغربيين إلى أوكرانيا على نطاق واسع إلى أوكرانيا. وهنا لابد من القول إن المخابرات الروسية قد أخفقت فى تقدير حجم وتأثير هذه المساعدات، ولم تُقدِّرها حق قدرها حتى اصطدمت بها فى ميدان القتال.
من ناحية أخرى فإنه مع اشتعال الحرب تدفقت مساعدات عسكرية غربية هائلة على أوكرانيا، ساعدتها على إبطاء وتيرة الهجوم الروسى، والحد من فاعليته، واضطرت موسكو إلى إعلان التعبئة الجزئية.. بل وأتاحت للقوات الأوكرانية شن هجوم مضاد في بعض قطاعات جبهات القتال من أبرزها «خيرسون» وهو ما أثار الإعلام الغربى حوله ضجة هائلة.
غير أن تدارك أخطاء التقدير فى الشهور الأولى من الحرب أتاح لروسيا احتواء الهجوم المضاد الأوكرانى، واستعادة زمام المبادرة فى ميادين القتال خلال الأسابيع الماضية، وشن هجمات فى عدد من قطاعات جبهات القتال «وإن لم يكن ذلك على نطاق واسع».. مع التركيز على القصف الصاروخى لمنشآت الطاقة والبنية التحتية فى العاصمة كييف والمناطق الغربية من أوكرانيا، التى تتدفق منها إمدادات السلاح الأطلسية.
وهكذا يمكن القول إن الشهر الأخير من عام ٢٠٢٢ قد انتهى وقد استعادت القوات الروسية زمام المبادرة، وهذا هو الموقف مع بداية العام الجديد (٢٠٢٣).
ومن ناحية أخرى فقد اتخذت الدول الغربية قرارات بزيادة مساعداتها العسكرية ـ الضخمة أصلا ــ لأوكرانيا، وخاصة الولايات المتحدة التي أقرت أضخم موازنة عسكرية فى تاريخها «ثمانمائة وخمسين مليار دولار»، وقررت إمداد كييف بصواريخ «باتريوت» المضادة للصواريخ والطائرات، وهى خطوة نوعية كبيرة في مواجهة الصواريخ الروسية، بشرط توافر عدد كبير من بطارياتها، غير أن من المشكوك فيه أن تكون فعالة في مواجهة الطائرات المسيَّرة الإيرانية وفيرة العدد، حيث لا يمكن استخدام منظومات صاروخية باهظة التكلفة فى مواجهة طائرات مسيرة يبلغ ثمن الواحدة منها بضعة آلاف من الدولارات. كما أن التفوق البرى والجوى يظل فى صالح القوات الروسية، فضلا عن أسلحتها الأكثر تقدمًا، وخاصة الصواريخ المتوافرة بأعداد كبيرة.
وهكذا بدأنا نشهد أحاديث لسياسيين ومفكرين استراتيجيين غربيين كبار عن ضرورة التفاوض لوقف الحرب، بل وعن ضرورة تقديم تنازلات أوكرانية عن مساحات من الأراضى، بما فى ذلك حديث المفكر الاستراتيجى ووزير الخارجية الأمريكى الأسبق «كيسنجر» عن «الأرض مقابل السلام» وضرورة تنازل أوكرانيا رسميًا عن شبه جزيرة القرم لروسيا، وكذلك أحاديث عن استحالة انضمام أوكرانيا لحلف شمال الأطلسى «السبب الرئيسى للحرب الجارية الآن».
غير أن روسيا تُصر على نزع سلاح أوكرانيا و«اجتثاث الفاشية» من مؤسساتها السياسية، فضلا عن انضمام المقاطعات الأربع المُجاورة لحدودها «دونيتسك ولوجانسك وخيرسون وزابورروجيه» إلى روسيا، والاعتراف بنتائج الاستفتاءات التى أجريت فى هذه المقاطعات، فضلا عن شبه جزيرة القرم، والتي تقضى نتائجها بانضمام هذه المقاطعات ذات الأغلبية السكانية الروسية إلى «الوطن الأم».
وواضح أن موازين القوى العسكرية تجعل من المستحيل إجبار روسيا على الانسحاب من المناطق التى احتلتها، وحتى بدون اللجوء إلى استخدام السلاح النووى التكتيكى، الذي يتحدث السياسيون الغربيون عن احتمال لجوء موسكو لاستخدامه لتفادى الهزيمة العسكرية، والذى لا تنفى روسيا إمكانية اللجوء إليه في حالة الضرورة.
ولما كان تسليم الولايات المتحدة والدول الغربية الكبرى بالانتصار العسكرى الروسى فى أوكرانيا يعنى «هزيمة استراتيجية» للغرب، واعترافًا رسميًا بنهاية عصر الهيمنة الأمريكية والغربية على العالم، والانتقال «رسميًا» إلى عصر التعددية القطبية، فإن أمريكا وحلفاءها سيواصلون «حرب الاستنزاف» ضد روسيا على الأراضى الأوكرانية، والحرب الاقتصادية الشاملة بما فيها حرب الطاقة ضد روسيا، فضلا عن الحصار السياسى والإعلامى، على أمل إجبارها على التخلى عن أهدافها فى أوكرانيا، مما يجعل استمرار المواجهة هو الخيار الغربى الأكيد.
انعكاسات هذه الحرب الاقتصادية والمواجهة الشاملة على اقتصادات الدول الأوروبية الكبرى مسألة لا تحتاج إلى إعادة شرح «راجع: الأموال، ٢٥ ديسمبر ٢٠٢٢» والأضرار الفادحة لهذه السياسة على الاقتصاد العالمى، وخاصة على دول العالم الثالث، وشعوبها الفقيرة، هى الأخرى واضحة تمامًا وبديهى أن روسيا هى الأخرى تواجه خسائر فادحة، لكنها أقل بكثير من تقديرات الدول الغربية التي ارتدت عليها الآثار العكسية للعقوبات والحرب الاقتصادية بصورة شديدة الإيلام، لم تكن فى حسبانها إطلاقا.
والأكثر أهمية أن المواجهة الجارية بالنسبة للدول الغربية الكبرى ــ وفى مقدمتها أمريكا ــ هى مسألة توسيع نفوذ وتحقيق مكاسب اقتصادية واستراتيجية، لكنها بالنسبة لروسيا مسألة حياة أو موت، وبالتالى فإنها أكثر استعدادًا لدفع ثمن المواجهة، ولا بديل لديها عن الصمود، الذى أثبتت قدرتها على دفع ثمنه، كما أن تطورات علاقات القوى الدولية تساعدها عليه، وفى مقدمتها صعود الصين كمنافس للولايات المتحدة وتعاظم القوة الاقتصادية «والعسكرية» للهند ودول جنوب شرق آسيا «والبريكس» التي ضاقت ذرعًا بأنانية أمريكا وتجاهلها لمصالح حلفائها، وإدراك دول «أوبك +» لمخاطر الاستمرار فى التسابق مع السياسات الأمريكية والغربية، التى طالما ألحقت الضرر بالأسواق البترولية لصالح الغرب.
وخلاصة القول إن القدرة الغربية على حصار روسيا قد تقلصت كثيرًا، وأن المواجهة بين روسيا وعواصم الغرب مستمرة، بما فى ذلك الحرب في أوكرانيا وليس للعام ٢٠٢٣ وحده، وإنما لأعوام أخرى قادمة، ولن تنتهى إلا برسم خرائط جديدة للقوة والنفوذ في العالم.. وبميلاد عالم متعدد الأقطاب.