د.محمد فراج يكتب : ٢٠٢٢.. الأزمة الطاحنة تعصف بالاقتصاد العالمى
٢٠٢٢.. عام أزمة اقتصادية عالمية طاحنة، تشير كل الشواهد إلى أنها ستمتد إلى العام القادم (٢٠٢٣)، بل ويمكن أن تصبح أشد، فلم يكد الاقتصاد العالمى يبدأ فى تجاوز الآثار القاسية لجائحة كورونا ــ بما صاحبها من إغلاقات واسعة وتباطؤ فى النمو وتعويضات ضخمة أثقلت موازنات أغلب الدول، واضطراب فى سلاسل الإمداد، وتصاعد لنسب التضخم ــ حتى داهمته الحرب فى أوكرانيا، التى تُمثل تعبيرًا مكثفًا عن المواجهة الشاملة بين روسيا وحلف «الناتو» والغرب بأسره، بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، بما صاحب هذه الحرب من عقوبات غير مسبوقة فى تأريخ العلاقات الدولية، وانعكاسات على إمدادات الطاقة ــ عصب الاقتصاد ــ وعلى التجارة العالمية عمومًا، واضطراب واسع النطاق لسلاسل التوريد، وما ترتب على ذلك كله من تباطؤ شديد للنمو وارتفاع كبير للتضخم.
بمجرد عبور القوات الروسية للحدود الأوكرانية (٢٤ فبراير ٢٠٢٢) بدأت الدول الغربية الكبرى بقيادة الولايات المتحدة تنفيذ تهديداتها بفرض عقوبات اقتصادية واسعة النطاق ضد روسيا بهدف شل وتدمير اقتصادها لإجبارها على الانسحاب، كبديل عن خوض مواجهة عسكرية مباشرة مع القوة العظمى النووية الثانية فى العالم، بما تنطوى عليه من خطر نشوب حرب نووية عالمية، وفضلا عن ذلك فقد شن الإعلام الأمريكى والغربى حربًا إعلامية ضارية ضد روسيا ورئيسها.
كما اشتعلت حرب سياسية شاملة ضد موسكو فى جميع المنظمات والمحافل الدولية، وعلى مستوى العلاقات الثنائية بين الغرب ومختلف دول العالم، ناهيك عن حظر وسائل الإعلام الروسية فى معظم الدول الغربية، ومنع عرض المسرحيات والأفلام، وتدريس الآداب وتقديم الموسيقى الروسية بما فيها الموسيقى الكلاسيكية، وباختصار فقد اشتعلت مواجهة شاملة بكل معنى الكلمة.
العقوبات الاقتصادية قرارات غير محسوبة
العقوبات الاقتصادية الغربية ضد روسيا بدأت بطرد عدد من أهم البنوك والمؤسسات المالية من نظام «سويفت» لتسوية المدفوعات الدولية، وحظر الولايات المتحدة وبريطانيا لواردات الطاقة الروسية، علمًا بأن هذه الواردات لا تمثل إلاّ نسبة ضئيلة من واردات البلدين من موارد الطاقة.
لكن سرعان ما اتضح أن الاقتصاد الروسى أضخم وأكثر تشعبًا فى علاقاته الدولية من أن تتم محاصرته بسهولة أو حتى بصعوبة، وخاصة فيما يتعلق بإنتاج روسيا من البترول والغاز الطبيعى، الذى تعتمد عليه دول الاتحاد الأوروبى بنسبة كبيرة تبلغ (أربعين بالمائة) من استهلاكها للغاز الطبيعى (ترتفع إلى خمسة وخمسين بالمائة من استهلاك ألمانيا)، كما تعتمد هذه الدول على البترول الروسى ومشتقاته بنسبة تبلغ (خمسة وثلاثين بالمائة) من استهلاكها، وعلى الفحم الحجرى الروسى بنسبة تصل إلى (خمسة وأربعين بالمائة)، كما أن روسيا هى المصدِّر الأول أو أحد أهم مصدرى عدد من المعادن النادرة بالغة الأهمية للصناعات الأوروبية.
وفضلا عن ذلك فإن روسيا هى أكبر دولة مصدِّرة للقمح والحبوب والأسمدة النيتروجينية والمعدنية (الفوسفات والبوتاسيوم) فى العالم، وأحد أكبر مصدرى زيت الطعام.
وهكذا ظهرت أول ثغرة كبيرة في نظام العقوبات، إذ اضطرت الدول الغربية لاستثناء عدد من البنوك الروسية من العقوبات الخاصة (سويفت) لكى يمكن من خلالها إجراء المعاملات الخاصة بواردات الطاقة بالذات، حيث إن موسكو لن تصدِّرها للدول الأوروبية مجانا، وبعد ذلك بأسابيع أصدر الرئيس الروسى بوتين قراره بعدم قبول المدفوعات مقابل النفط والغاز ما لم تكن (الروبل)، الأمر الذى عزز سعر صرف العملة الروسية، ورفعه من «مائة وأربعين روبل» مقابل الدولار إلى «ستين روبل».
كما اتخذت دول الاتحاد الأوروبى قرارا بحظر استيراد الفحم الروسى بعد ٥ أغسطس ومنع استيراد البترول الخام بحلول ٥ ديسمبر والمشتقات البترولية بحلول ٥ فبراير ٢٠٢٣ والاستغناء التام عن الغاز الروسى بحلول نهاية عام ٢٠٢٤.. وبدأت لعبة تعطيل خطوط نقل الغاز عبر أوكرانيا، وإعاقة صيانة مضخات خط «السيل الشمالى -١» فضلاً عن منع تشغيل خط (السيل الشمالى -٢) الذي كان مقررًا أن ينقل (٥٥ مليار م٣) من الغاز إلى ألمانيا، وصولا إلى تخريب الخطين مؤخرًا.
العقوبات والآثار العكسية
البديل الأساسى عن الغاز الروسى، كان الغاز المسال من أمريكا ودول أخرى، وبكميات أقل كثيرًا، وتكلفة أعلى بما لا يعكس. وكان طبيعيًا أن يؤدى ذلك إلى اشتعال أسعار موارد الطاقة، وإلى حدوث نقص شديد فى الإمداد بها نتيجة لعدم كفاية البدائل، وأن يؤدى ذلك كله إلى ارتفاع حاد في تكلفة الطاقة، وإلى تعطيل صناعات بأكملها نتيجة لنقص إمدادات الطاقة.
وهكذا اتضح أن العقوبات الغربية متزايدة الاتساع ضد روسيا هى فى الحقيقة سلاح ذو حدين، وأن أضرارها على الاتحاد الأوروبى أكثر من ضررها على روسيا، التى استفادت من ارتفاع الأسعار، وتمكنت من إيجاد أسواق بديلة فى الصين والهند ودول شرق آسيا ذات الاقتصادات الصاعدة، بينما ارتفع التضخم فى الدول الأوروبية الكبرى إلى (عشرة بالمائة) أو أكثر (لا يتسع المقام هنا للتفاصيل) وزادت تكلفة التدفئة فى المنازل وأماكن العمل أضعافًا، واضطرت دولة مثل ألمانيا لتخصيص (مائتى مليار يورو) لتعويض خسائر شركات الطاقة.. كما دفعت الدول الأوروبية الأخرى مبالغ متفاوتة. غير أن ذلك لم يمنع السخط الاجتماعى الواسع والمظاهرات والإضرابات بسبب تفاقم التضخم، ومعروف أن هذا الغضب الجماهيرى هو الذى أطاح برئيس الوزراء البريطانى الأسبق بوريس جونسون.. أهم حليف لأمريكا فى القارة الأوروبية، وبصورة عامة فقد خسرت دول الاتحاد الأوروبى (تريليون دولار ـ ألف مليار دولار) بسبب أزمة الطاقة وحدها، حتى الآن (بلومبيرج، RT - ١٩ ديسمبر ـ سكاى نيوز عربية، ٢٠ ديسمبر) وهى خسائر مرشحة للتصاعد، وقدرت كريستالينا جورجينا مديرة صندوق النقد الدولى الخسائر المتوقعة فى الناتج المحلى الإجمالى العالمى بحوالى (أربعة تريليونات دولار) حتى عام ٢٠٢٦ (بلومبيرج، سكاى نيوز، CNBC، ٧ أكتوبر ٢٠٢٢).
وكان بديهيًا أن يتم «تصدير الفحم» إلى دول العالم الثالث خلال التبادل التجارى بسبب اعتمادها الكبير على الاستيراد من الدول الغربية المتقدمة، فضلا عن ارتفاع أسعار البترول والغاز والسلع الغذائية، وهو ما أدى إلى ارتفاع نسبة التضخم العالمى من ٤.٧٪ عام ٢٠٢١ إلى ٨.٨٪ حسب توقعات تقرير «آفاق الاقتصاد العالمى» الصادر عن صندوق النقد الدولى (١١ أكتوبر ٢٠٢٢).
تباطؤ النمو العالمى
ونتيجة لذلك كله فإن نسبة النمو العالمى التى كانت تبلغ ٦٪ عام ٢٠٢١ من المتوقع أن تنخفض إلى ٣.٢٪ هذا العام ــ ٢٠٢٢ وإلى ٢.٧٪ العام القادم ــ وهنا يجب أن نلاحظ أن نسبة (الستة فى المائة) لزيادة النمو العام الماضى، هى ارتفاع من أرقام شديدة التواضع عام ٢٠٢٠، الذى كان ذروة انتشار جائحة كورونا بما صاحبها من إغلاقات واسعة وتراجع للنمو (الملاحظة للكاتب).. والأرقام والتوقعات التى نذكرها هنا كلها مأخوذة من صندوق النقد الدولى (تقرير آفاق الاقتصاد العالمى - ١١ أكتوبر ٢٠٢٢).
ويجب أن نلاحظ أيضًا أن تراجع النمو العالمى تأثر بتباطؤ النمو الاقتصادى الصينى بسبب الإغلاقات الواسعة فى إطار سياسة «صفر كوفيد»، بالإضافة إلى الاعتبارات الأخرى ذات الطابع الدولى، وهو ما جعل نسبة النمو فى الصين تنخفض هذا العام إلى ٣.٢٪، وهى أقل نسبة نمو له خلال خمسين عامًا، استنادًا إلى صندوق النقد الدولي والخبراء الاقتصاديين العالميين والصينيين (تقرير رؤية الإخبارية - ٢٠ ديسمبر ٢٠٢٢)، بينما تشير توقعات هؤلاء إلى انتعاش الاقتصاد الصينى نسبيًا العام القادم ليحقق نسبة نمو تبلغ ٤.٥٪ (المصدر نفسه).
أما بالنسبة للدول الأوروبية فإن مكتب الإحصاء الاتحادى الألمانى يتوقع انكماش الاقتصاد بنسبة (٠.٤٪ ـ أربعة أعشار بالمائة) مقابل نمو قدره (٠.٤٪ ـ أربعة أعشار بالمائة) خلال الربع الثالث من العام الجارى (يوليو - سبتمبر) وهو نمو شديد الهزال لن يلبث أن ينقلب إلى انكماش العام القادم (DW، ٢٥ نوفمبر ٢٠٢٢).
وإذا كان الأمر كذلك فى ألمانيا، فإن بريطانيا التى حققت انكماشًا قدره ٠.٣٪ - ثلاثة أعشار بالمائة ـ فى الربع الثالث حسب أرقام مكتب الإحصاءات الوطنية (RT، ٢٢ ديسمبر ٢٠٢٢) مرشحة لركود أكبر العام القادم.
وعمومًا فإن صندوق النقد والبنك الدوليين يحذِّران من تزايد مخاطر الركود العالمى، وأعلن الصندوق أن نحو ثلث الاقتصادات العالمية سيشهد على الأقل (ربعين) متتاليين من الانكماش، هما الربع الأخير من العام الجارى، والربع الأول من العام القادم.
وصرح ديفيد مالباس رئيس البنك الدولى بأنه يوجد خطر حقيقى لحدوث انكماش عالمى العام المقبل، بينما قالت كريستالينا جيورجينا إن تكاليف الإقراض المرتفعة (رفع سعر الفائدة) بدأت فى التأثير فعلا (بلومبيرج، ١٠ أكتوبر ٢٠٢٢).
وبناءً على هذه الحقائق فإن الخبراء الاقتصاديين الذين يتحدثون عن «الركود التضخمى».. أى تضافر أو تزامن الركود مع التضخم لا يبدون بعيدين عن الصواب.. أو على الأقل فإن الاقتصاد العالم يتأرجح على حافة هذا «الركود التضخمى» وهناك خطر حقيقى لانزلاقه إليه.
وبعيدًا عن الجدال حول المصطلحات، فإن الأزمة لاقتصادية العالمية الطاحنة مرشحة لمزيد من التفاقم.. وقانون مكافحة التضخم الأمريكى الذى وقعه بايدن مؤخرًا، مع رفع الفائدة على الدولار الأمريكى يرشحان الأزمة لتفاقم أشد.. ويهددان أوروبا بالذات لمزيد من الكوارث الاقتصادية.. لكن هذا موضوع يحتاج إلى معالجة مستقلة.
وخلاصة القول إن أمريكا وشركات السلاح العملاقة فيها هى الرابع الأول من وراء هذه الأزمة الطاحنة، التى يدفع العالم كله ثمنها، وإذا كانت أوروبا تكتوى بنارها، فإن دول العالم الثالث وشعوبه تحترق بلهيبها.
وإذا كانت السياسة الغربية لتوسيع «الناتو» شرقًا قد أدت إلى المواجهة مع روسيا، فإن المواجهة الشاملة ضدها والعقوبات غير المدروسة ضد الدب الروسى ــ التى ارتدت على أصحابها وعلى العالم ــ هى المسئول الأول عن تفاقم هذه الأزمة، وخسائرها الفادحة لأعوام قادمة.