د.محمد فراج يكتب : الأطماع التركية فى ليبيا.. خطر على الأمن القومى المصرى
تطورات خطيرة تشهدها ليبيا خلال الشهور والأسابيع الأخيرة وتمس بمصالح بلادنا وأمنها القومى، ولا يعيرها الإعلام المصرى بعض ما تستحقه من الاهتمام، والمؤسف أكثر أن النخبة السياسية لا تبدو واعية بخطورتها ولا مهتمة بها أصلا!
آخر هذه التطورات كانت الزيارة التي قام بها وفد تركى رفيع المستوى إلى ليبيا «٣ أكتوبر الجارى» برئاسة وزير الخارجية التركى «مولود جاويش أوغلو» وتم خلالها توقيع عدد من الاتفاقيات ومذكرات التفاهم بالغة الأهمية بين البلدين.. وقد ضم الوفد التركى عدداً من كبار المسئولين في مقدمتهم وزير الدفاع «خلوصى آكار» ووزيرا الطاقة، والتجارة والصناعة والمتحدث الرسمي باسم الرئيس التركى أردوغان، وهو ما يشير إلى مستوى اهتمام أنقرة بتلك الزيارة.
الاتفاقات التى تم توقيعها فى مقدمتها مذكرة تفاهم حول التعاون فى مجال الاستثمارات البترولية والتنقيب عن البترول والغاز الطبيعى فى مياه ليبيا وأراضيها، وإقامة شركات مشتركة للعمل في هذا المجال، مع التأكيد علي أن أنشطة التنقيب عن البترول والغاز فى مياه البحر لمتوسط قبالة السواحل الليبية، تستند إلي اتفاقية ترسيم الحدود البحرية التى تم توقيعها بين البلدين في عهد حكومة فايز السراج «نوفمبر ٢٠١٩» والتي أثارت في حينها انتقادات واسعة سواء من ناحية عدم شرعية حكومة السراج وأهليتها للتوقيع على اتفاقيات مع دول أجنبية، أو من ناحية تصادم هذه الاتفاقية مع حقوق دول أخرى كاليونان وقبرص، وادخال ليبيا كطرف فى نزاعات تركيا مع هاتين الدولتين، أو من ناحية ما تحققه لأنقرة من نفوذ في ليبيا، وهو ما تأكد بالاتفاقية الأخيرة «مذكرة التفاهم» التي تتيح لتركيا «حقوقا» للتنقيب عن البترول والغاز في مياه ليبيا واستغلال هذه الموارد اقتصاديا علمًا بأن الشركات التركية القائمة أو المحتمل إنشاؤها ليس لديها الخبرات الفنية، ولا رءوس الأموال الضخمة التى تملكها شركات البترول العالمية، وتنفق منها على عمليات التنقيب باهظة التكلفة.. أى أن عمليات التنقيب والشركات المشتركة ستكون بتمويل ليبي أساسا!!
واللافت للنظر أن «جاويش أوغلو» علق على الإنشاءات الموجهة لاتفاقية الحدود البحرية بقوله إنها اتفاق بين دولتين تتمتعان بالسيادة، وليس من حق أى دولة أخرى الحق فى التعقيب عليها.. وكأن حكومة الدبيبة المنتهية ولايتها «في ديسمبر ٢٠٢١» والمسحوبة منها ثقة البرلمان أصلا في سبتمبر من العام الماضى هى ممثل للدولة الليبية!!
واتفاقيات عسكرية أيضا..
كما ناقش أوغلو ووزير الدفاع «خلوصى آكار» مع الدبيبة «بصفته وزيراً للدفاع» التعاون العسكرى بين البلدين، وعددا من البرامج التدريبية للجيش الليبي، وتوفير معدات وتجهيزات متطورة له «المقصود هو جيش طرابلس المكون من عدد رمزى من الضباط والجنود ولا تقارن قوته بالميليشيات المُسيطرة على غرب البلاد».. وصرح أوغلو أن تركيا مهتمة ببناء الجيش الليبي علي أساس اتفاقية التعاون العسكرى الموقعة بين البلدين منذ ٢٠١٩ في عهد حكومة السراج، وشملت الاتفاقات مجال التدريب الأمنى لقوات الشرطة وشملت أيضًا تسهيل نشاط الاستثمارات التركية فى ليبيا، وعودة رحلات الطيران التركي إلى المطارات الليبية، والتعاون فى المجال الإعلامى ومجالات أخرى.
وجدير بالذكر أن «الاتفاق الدفاعى» الذى تم توقيعه عام ٢٠١٩ قد أتاح لتركيا الحصول علي قاعدة بحرية وجوية كبيرة في مصراتة على ساحل البحر المتوسط غربى ليبيا، وقواعد جوية في مطار معيتيقة بالقرب من العاصمة طرابلس، و«الوطية» بالقرب من الحدود الليبية ــ التونسية والجزائرية، وأماكن أخرى، كما أتاح تمركز عدة آلاف من الضباط والجنود الأتراك فى طرابلس ومصراتة وغيرها من مناطق غرب ليبيا بصفتهم مستشارين ومدربين.. إلخ.
ومن ناحية أخرى فإن تركيا جلبت إلى ليبيا حوالى عشرين ألفا من المرتزقة السوريين من أفراد الميليشيات الموالية لها فى سوريا، يمثلون جيشا صغيرا يتمتع بتدريب وتسليح جيدين، وذلك فضلا عن تسليحها لميليشيات الإخوان الإرهابية وميليشيات القاعدة وداعش المدربة بصورة ممتازة على العمليات الإرهابية، وعن نفوذها القوى لدى الميليشيات المناطقية والقبلية من خلال التسليح والتدريب، وكلها عمليات تتولى حكومة الدبيبة تمويلها من أرصدة المصرف المركزى الليبى، وبدعم من محافظه «الصديق الكبيرى» أحد زعماء الإخوان فى ليبيا، والذى قام بإبداع ثمانية مليارات دولار في البنك المركزى التركى دون إذن أو رقابة من أى جهة شرعية.
تكريس التقسيم
وبمثل هذه الإجراءات ــ وغيرها ــ تحقق تركيا لنفسها وضعا استراتيجيا متميزا فى غرب ليبيا، وتملك وجودا عسكريا قويا وقواعد عسكرية بحرية وجوية، وعشرات الآلاف من المرتزقة الموالية لها، ويتم تمويل ذلك كله من خزانة واحتياطيات المصرف المركزى الليبى، فضلا عن عمليات النهب الأخرى من خلال الودائع فى البنك المركزى التركى، والصفقات التجارية والاستثمارية غير الخاضعة للرقابة، وعمليات تعويض الشركات التركية عن «خسائر مزعومة» تكبدتها بسبب الأوضاع غير المستقرة أثناء العمليات العسكرية المصاحبة للإطاحة بنظاما لقذافى، وعدم الاستقرار خلال السنوات التالية.. أى أن أنقرة تقوم بعملية احتلال للغرب الليبى، ونهب لثروات البلاد والاحتياطيات الموروثة عن عهد القذافى، والتى يفترض أن يتم الإنفاق منها تحت رقابة من البرلمان والجهات الرقابية، وبرعاية من الأمم المتحدة.. لكن شيئا من هذا كله لا يحدث.
والنتيجة هي أنه يتم تكريس واقع الانقسام فى ليبيا، بين شرق وغرب، مع اعتراف الدول الغربية الكبرى والأمم المتحدة بـ«شرعية» حكومة الدبيبة، وقبلها حكومة السراج.. وإلهاء الشعب الليبى بأحاديث معسولة عن التسوية السلمية، وإجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية بعد الاتفاق على «القاعدة الدستورية» لتلك الانتخابات وهى «القاعدة» التى تتم المراوغة بشأنها منذ سنوات، دون نتيجة ودون أدنى احترام لمقررات المؤتمرات الدولية وقرارات مجلس الأمن أو الاتفاقات بين الأطراف الليبية تحت رعاية الأمم المتحدة.
ومفهوم أنه لا يمكن إجراء انتخابات نزيهة أو ديمقراطية فى ظل وجود احتلال عسكرى أجنبى لعاصمة البلاد وانتشار الفوضى الأمنية التى تفرضها الميليشيات فى مختلف أنحاء الغرب الليبي.
وبالتالى يبدو مضحكًا حديث «جاويش» عن مناقشته مع الدبيبة، ووزيرة خارجيته نجلاء المنقوش لخطوات الحل السياسى فى ليبيا، وأهمية التوصل إلى «قاعدة دستورية» لإجراء الانتخابات، وفق «خارطة طريق قصيرة الأجل»..الخ.
(راجع تفاصيل الزيارة والاتفاقات فى «الشرق الأوسط السعودية، و«الحدث» و«سكاى نيوز» وتليفزيون الوسط الليبى WTV ومواقع ووكالات).
غضب مشروع
الاتفاقات التى تم توقيعها والتصريحات التى رافقت زيارة الوفد التركى مثلت تكريسا لواقع الانقسام الموجود في ليبيا وترسيخًا للاحتلال التركى والقواعد العسكرية الموجودة علي أساس اتفاقيات غير شرعية ولا علاقة لها بالقانون الدولى، وكان من الطبيعى أن تثير غضبا مشروعا فى شرق ليبيا حيث يوجد البرلمان «الهيئة الوحيدة المنتخبة فى البلاد برئاسة عقيلة صالح» وحكومة «الاستقرار» المكلفة من جانب البرلمان، والتى يرأسها فتحى الباشاغا.. وصرح رئيس البرلمان «عقيلة صالح» بأن أى معاهدة أو اتفاقية أو مذكرة تفاهم يتم توقيعها من جانب الدبيبة «رئيس الحكومة المنتهية ولايتها» مرفوضة وغير قانونية وغير ملزمة للدولة الليبية وتتناقض مع البند العاشر من المادة السادسة من «خارطة الطريق» التي تم التوصل إليها العام الماضي (٢٠٢١)، والتى تولى الدبيبة السلطة بموجبها.. كما أصدر البرلمان الليبى ورئيس حكومة «الاستقرار» بيانين بهذا المعني.
خداع وتلاعب
وقد زاد من شعور المسئولين فى «الشرق» الليبى بالغضب حقيقة أن تركيا أظهرت خلال الأسابيع الأخيرة اهتماما بالتقارب معهم بعد سنوات من القطيعة والعداء، وتمت دعوة عقيلة صالح للقيام بزيارة رسمية إلى تركيا والاجتماع بأردوغان والمشرى «خالد المشرى الزعيم الإخوانى ورئيس ما يسمى بالمجلس الأعلى للدولة» فى أنقرة، فيما بدا أنه محاولة تركيا للوساطة بين الجانبين أو نوع من «رعاية» المحادثات بين بنغازى وطرابلس، وأعلن عقيلة صالح عزمه علي إعادة العلاقات بين ليبيا وتركيا إلى أفضل مما كانت عليه، وتسهيل دخول الاستثمارات التركية إلى شرق ليبيا، ورعاية مصالحها فى البلاد (٥ أغسطس الماضى) وكان الدبيبة قد سبق عقيلة فى زيارة لأنقرة.
ثم تمت دعوة عقيلة صالح لزيارة قطر ــ أقرب حلفاء تركيا العرب ــ فى أوائل شهر سبتمبر الماضى، بعد أن كان كل من الدبيبة والمشرى قد زارها.. ورافق ابن المشير حفتر عقيلة صالح فى هذه الزيارة، فيما مثل أيضا إنهاء لفترة طويلة من القطيعة والعداء، وتكاملا مع الجهد التركى «لرعاية» المحادثات بين الطرفين الليبيين.
لكن زيارة الوفد التركى رفيع المستوى إلى طرابلس والاتفاقيات العديدة التي تم توقيعها مع الدبيبة فى مجالات شديدة الأهمية والحساسية «الطاقة والدفاع والأمن والاستثمار والإعلام» والتأكيدات على شرعية حكومة الدبيبة، الخ.. كلها أمور أكدت أن تركيا كانت تخدع ممثلى «الشرق» الليبى وتتلاعب بهم، بينما هى تعد لتوقيع الاتفاقات المذكورة مع الدبيبة!! وتأكيد «شرعيته» المزعومة وقوته العسكرية، بما يتناقض مع أى حديث جدى عن التسوية السياسية، وبما يمثل انتهاكًا صريحًا لشرعية البرلمان وإنكارًا لها.
غضب فى القاهرة
وواضح أن كل هذا كان مكشوفًا تماما أمام القاهرة المنحازة بكل وضوح لوحدة ليبيا واستقلالها وسلامة أراضيها، وللتسوية السلمية والمصالحة الوطنية بين الأطراف الليبية المتصارعة والملتزمة بالقرارات الدولية والأممية فى هذا الصدد.. والتى تدرك أيضا أن محاولات أردوغان «لتطبيع» العلاقات معها لابد أن يتم اختبارها فى الواقع الفعلى.
والقضية الليبية هى أحد المحركات بالغة الأهمية فى هذا الصدد، فمصالح الأمن القومى المصرى لا يمكن أن تنسجم مع الإخلال الجسيم بتوازن القوي الاستراتيجى فى شرق البحر المتوسط وجوار مصر المباشر من خلال ترسيخ الوجود العسكرى التركى في ليبيا التي تمثل العمق الاستراتيجى لمصر من ناحية الغرب، كما أن مصالح الأمن القومى المصري لا يمكن أن تنسجم مع «توطين الإرهاب والفوضى الأمنية» فى ليبيا، وتعميق الانقسام وانتهاك الشرعية فيها، وهو بالضبط ما تفعله تركيا وحكومة الدبيبة، وقد سبق أن عانت مصر من جرائم الإرهاب القادم من ليبيا، قبل أن يتمكن الجيش الوطنى الليبى «بقيادة حفتر» من تصفية تمركزات الإرهاب فى «درنة» وغيرها من المناطق الحدودية مع مصر.
وهذا هو ما يفسِّر انسحاب وزير الخارجية سامح شكرى من الجلسة الافتتاحية لمجلس وزراء خارجية الجامعة العربية أثناء إلقاء وزيرة خارجية حكومة الدبيبة «نجلاء المنقوش» لكلمتها، تعبيرا عن رأى مصر في «شرعية» حكومة الدبيبة المنتهية ولايتها بحكم «خارطة الطريق» الأممية وغيرها من القرارات الدولية.. وهو أيضًا ما يفسِّر عدم اعتراف مصر بشرعية توقيع حكومة الدبيبة على الاتفاقيات الأخيرة التى تكرِّس اتفاقيات قديمة غير شرعية أصلا.
وإذا كانت الولايات المتحدة والدول الغربية الكبرى تحاول أن تعمد إلى تركيا بدور وكيلها فى ليبيا، بغض النظر عن مصالح وإرادة الشعب الليبى، وإذا كان أكثر ما يهم الغرب الآن هو ضمان تدفق البترول والغاز الليبيين إلي أوروبا كبديل عن موارد الطاقة الروسية، فبديهى أن ما يهم مصر ــ بالدرجة الأولى ــ هو أمنها القومى، الذى ينسجم مع مصالح الشعب الليبي فى تحقيق أمن وسلامة واستقلال بلاده، وخروج القوات الأجنبية والمرتزقة منها، وحل الميليشيات الإرهابية ونزع سلاحها وإعادة تأهيل أفرادها للحياة السلمية، وأن يسيطر الشعب الليبى الشقيق على ثرواته ويعيش فى استقرار ورخاء. فهذا هو ما يحقق مصالح مصر وأمنها القومى فى هذا البلد الشقيق المجاور فى حدود يبلغ طولها ١٢٥٠ كم والذى تمثل شواطئه امتدادًا للشواطئ المصرية، واحترام هذه المصالح هو محك لا يمكن لمصر تجاهله فى علاقتها بتركيا أو أى دولة أخرى.