د.محمد فراج يكتب .. الدول المصدرة للغاز : الضغوط الغربية مرفوضة
حرب الطاقة لاتزال مستمرة على كافة الجبهات.. والدول الغربية الكبرى «المستهلكة» تمارس أعنف الضغوط على الدول المنتجة للحصول على البترول والغاز بأبخس الأسعار، ولتوظيفها كعرف فى معركة الغرب ضد روسيا، لكن هذه الضغوط الغربية تبوء بالفشل المرة تلو الأخرى.
القاهرة كانت مسرحًا لإحدى جولات حرب الطاقة، حيث اجتمع «منتدى الدول المصدِّرة للغاز» فى جولته الوزارية الرابعة والعشرين، من الأحد إلى الثلاثاء الماضيين (٢٣ - ٢٥ أكتوبر) لبحث الأوضاع فى أسواق الغاز العالمية، ويضم المنتدى ١١ دولة كأعضاء دائمين هى: مصر والجزائر وقطر وروسيا وإيران وليبيا ونيجيريا وفنزويلا وبوليفيا وغينيا الاستوائية وترنداد وتوباجو… كما يضم ٨ دول بصفة مراقب هى: العراق والإمارات وأذربيجان والنرويج وماليزيا وأنجولا وماليزيا.
وتسيطر هذه الدول مجتمعة على حوالى ٧٢٪ - اثنين وسبعين بالمائة) من الاحتياطى العالمى المؤكد من الغاز الطبيعى و(٥٥٪ - خمسة وخمسين بالمائة) من صادرات الغاز عبر خطوط الأنابيب و«خمسين بالمائة» من صادرات الغاز المسال، ومن ثمَّ فإن أهمية المنتدى لا تحتاج إلى شرح، وترأس مصر الدورة الحالية للمجلس الوزارى للمنتدى (لعام ٢٠٢٢) والتى شارك فيها وزراء البترول والطاقة من الدول الأعضاء والمراقبين «بوابة الأهرام، ٢١ أكتوبر، ومصراوى ٢٢/١٠».
صفعة للإملاءات الغربية
اجتماع وزراء المنتدى وجه صفعة قوية لمحاولات إملاء سياسات مصطنعة لتسعير الغاز الطبيعى سواء فيما يتصل بإمدادات الغاز عموما، أو الإمدادات الروسية، فقد أعلن رفضه لتلك المحاولات سواء جاء من جانب الولايات المتحدة أو من جانب الاتحاد الأوروبى، وأعلن الوزراء فى بيانهم الختامى رفضهم لتلك المحاولات، وأعربوا عن القلق العميق بشأن محاولات تغيير آلية تسعير الغاز وإدارة مخاطر أداء السوق، وفرض حدود قصوى للأسعار بدوافع سياسية.. فى إشارة واضحة للمحاولات الأمريكية والأوروبية المتكررة، والفاشلة حتى الآن لفرض «تسعيرة جبرية» منخفضة على صادرات الغاز الروسية، بهدف تقليص عائدات روسيا من صادرات الغاز، وكذلك الدعوات التى بدأت ترتفع مؤخرًا فى دول الاتحاد الأوروبي لوضع «سقف لأسعار» الغاز الطبيعى.
وأكد الاجتماع أن «التدخلات في أداء السوق يمكن أن تزيد من حدة اختناق الأسواق، وتخبط الاستثمارات، وتضر بكل من المنتجين والمستهلكين على السواء، كما شدَّد على أهمية «دعم سيادة الدول الأعضاء علي مواردها الطبيعية، وعلى عملية التخطيط بصورة مستقلة والإدارة الكفؤة والتطوير المستدام لموارد الغاز الطبيعى، والحفاظ عليها لصالح شعوبها».
كما أشار إلى الآثار السلبية للتوترات الجيوسياسية، و«القيود الاقتصادية المفروضة على بعض الدول» على الأسواق ومستوى معيشة الأفراد، وخاصة فى الدول النامية والفقيرة.
قوانين السوق.. حسب الأهواء!
العقوبات الأمريكية والأوروبية غير المدروسة على موارد الطاقة الروسية مثلت عبثا شديدا بأسواق بالغة الحساسية بطبيعتها، وارتدت بآثار سلبية قاسية على الاتحاد الأوروبى سواء من ناحية اشتعال الأسعار أو نقص الإمدادات، وعدم كفاية البدائل المنتظمة.
وتحت وطأة اشتعال الأسعار ظهرت فكرة وضع سقف لأسعار البترول والغاز الروسيين أولا، بهدف تخفيف الأعباء الثقيلة على الاقتصادات الأوروبية، وبالطبع بهدف تقليص موارد روسيا، وبالرغم من وضوح التناقض الصارخ بين هذه الفكرة وبين قوانين السوق، والرفض العالمى الواسع لها، والانقسام حولها فى الأسواق الأوروبية، وخاصة مع إعلان روسيا أنها لن تصدِّر بترولها ولا غازها لأى دولة تفرض عليهما «التسعيرة الجبرية» بالرغم من هذا كله فإن الزعماء السياسيين الغربيين لم يكفوا عن الضغط فى هذا الاتجاه، بما فى ذلك من خلال الاتحاد الأوروبي وقمة السبع الكبار (G7).
واللافت للنظر هنا هو أن الولايات المتحدة التى تسعى منذ سنوات طويلة لطرد روسيا من سوق الطاقة الأوروبى استغلت النقص الشديد في الإمدادات لتبيع الغاز المسال لحلفائها الأوروبيين بـ«أربعة أضعاف السعر» حسبما يكرر الرئيس الفرنسى ماكرون طوال الوقت «ولنلاحظ أن أربعة أضعاف السعر تعنى ثمانية أمثاله».. وهذه سرقة علنية بالإكراه من الأولى أن يواجهها زعماء الاتحاد الأوروبى قبل أن يحاولوا وضع «تسعيرة جبرية» للغاز الروسى، وغير الروسى.. لكنهم لا يفعلون ويكتفون بالشكوى من الأمريكان إلى الأمريكان! فيما يشبه نوعًا من التوسل المثير للسخرية.
أما النرويج.. أكبر منتج للغاز فى أوروبا، والتى تعوِّض جزءا محدودا من الواردات الروسية فإن ماكرون وزعماء أوروبيين آخرين «البولنديين مثلا» ينتقدونها لأنها تبيع إنتاجها بسعر السوق!! ويطلبون منها دعم حلفائها الأوروبيين بالبيع بأسعار أقل من سعر السوق!! وبديهى أن أوسلو لن تصغى إلى هذه التوسلات.
وهكذا تستمر خسائر الاقتصادات الأوروبية بسبب العقوبات غير المدروسة، التى ترتد على صانعيها، ومع قدوم الشتاء، والعودة على نطاق واسع إلى الفحم الحجرى تبدو الأزمة مرشحة للتفاقم، برغم الانفراجة النسبية فى الإمدادات، والمرجح أن تتعرض لامتحان عسير مع حلول ديسمبر ويناير وفبراير.
الغرب ليس العالم!
البيان الذى أصدره الاجتماع الوزارى «منتدى الدول المصدِّرة للغاز» يعكس بوضوح المتغيرات الجارية فى العالم، وأن الغرب لم يعد قادرًا على فرض إملاءاته على الدول النامية، وأن العالم يتحول فعلا إلى عالم متعدد الأقطاب.
ومما له دلالة لا تخفى أن «المنتدى» انتخب «ديميترى سيميونوف» أحد قيادات قطاع الغاز الروسى رئيسًا للمجلس التنفيذى لمنتدى الدول المصدِّرة للغاز لعام ٢٠٢٣، فى إشارة واضحة لعدم المبالاة بالموقف الأميركى والأوروبى العدائى تجاه روسيا.
ويمثل موقف منتدى الدول المصدِّرة للغاز الخطوة الثانية الكبيرة من جانب منتجى الطاقة، خلال أسابيع قليلة التى تُشير بوضوح للمتغيرات الكبرى ليس فى أسواق الطاقة فحسب، بل وفى العلاقات الاقتصادية والاستراتيجية الدولية عمومًا.. وإلى أن العالم ينتقل بالفعل إلى مرحلة التعددية القطبية.. أما الخطوة التى سبقتها فكانت خطوة «الأوبك+» فى اجتماعها الأخير فى فيينا، بخفض إنتاج البترول بمليونى برميل يوميا بغض النظر عن المطالبات الأمريكية والأوروبية بزيادة الإنتاج ــ وليس مجرد تثبيته ـــ وهى الخطوة التى أثارت غضبًا شديدًا فى واشنطن بالذات. واعتبرتها دعمًا لروسيا، بينما أصرت «الأوبك+» على أنها خطوة أملتها الضرورات الاقتصادية، لأن الركود الزاحف على اقتصادات الدول الكبرى، أدى إلى انخفاض الطلب، ومن ثمَّ إلى انخفاض الأسعار.. وبالتالى أصبح من الضرورى خفض الإنتاج، وإلاّ فإن زيادة العرض ستؤدى إلى انهيار الأسعار.. وهو ما حدث فعلا حينما استجابت الدول المنتجة للمطالب الغربية (عام ٢٠١٤) بزيادة الإنتاج فى إطار عقوبات الغرب لروسيا على استعادة شبه جزيرة القرم.. وهو ما أدى إلى حالة إغراق هبط معها سعر برميل البترول إلى ٢٦ دولارًا وتكبدت الدول المنتجة خسائر فادحة.. ولم تكن هذه هى المرة الأولى التى تتكبد فيها الخسائر الفادحة بسبب الاستجابة لمطالب وضغوط الغرب بزيادة الإنتاج.
نعم.. إن العالم يتغير.. ولم يعد بإمكان أمريكا والاتحاد الأوروبى أن يفرضا على الدول المنتجة للطاقة اتخاذ خطوات تضر بمصالحها، لمجرد أن المصالح الغربية تقتضى ذلك، وضد قواعد المنطق ومقتضيات السوق.