أسامة أيوب يكتب : خواطر رمضانية
مع شهر رمضان المعظم الذى مرت نصف أيامه حسبما عهدنا كل عام سريعًا، فإن ثمة ذكريات تتداعى إلى النفس عن أيامه ولياليه فى زمن مضى منذ عقود، خاصة بعد أن تغيرت الأحوال بمرور السنين وبعد أن تبدلت مظاهر الاحتفال والاحتفاء وتوارت كثيرًا تلك الأجواء الروحانية التى كانت تخيّم على المصريين، بينما تبدّت كثير من المظاهر التى تشغل الصائمين عن روحانيات هذا الشهر وفلسفة ومقاصد فريضة الصيام.
متحدثًا فى هذه السطور عن أجواء رمضان فى سنوات الطفولة الواعية والصبا وبواكير الشباب التى عشتها وعايشتها وجيلي والأجيال السابقة فى ستينيات وسبعينيات وأوائل الثمانينيات من القرن الماضى، ومع المقارنة بما جرى ويجرى بعد ذلك أجدنى مستشعرِا غربة واغترابًا ربما بحكم رسوخ أجواء الزمن الذى ولىّ فى وجدانى وذاكرتى، وربما أيضًا بفعل السن وبدواعى الحنين إلى الماضى الذى لم يلتق مع الحاضر بتطوراته المتسارعة والمتلاحقة التى أطاحت بكل قسوة بتقاليد وسلوكيات وأجواء احتفال لاتزال هى ما تبقى من ذكريات زمن جميل بحق كلما جاء رمضان.
فى ذلك الزمن من سنوات القرن الماضى كانت مظاهر الحياة بسيطة وسهلة وبلا صخب و«موبايلات» وفضائيات اختزلت رمضان فى الدراما والإعلانات بعيدًا عن مقتضيات الشهر الفضيل.. لذا كان احتفال المصريين واحتفاؤهم البسيط بما يتناسب مع هذا الشهر ولكنه كان وبكل تأكيد أكثر بهجة ولكن مع مراعاة روحانيات رمضان.
< < <
في رمضان فى ذلك الزمن الجميل كانت الشوارع والبيوت فى الريف والحضر.. فى قرى مصر ومدنها من الاسكندرية إلى أسوان تتزين بالرايات وأضواء الفوانيس، وهى خصوصية أحسب أن المصريين قد انفردوا بها بل إن رمضان فى مصر كانت له خصوصيته ورائحته الفواحة أيضَا والتى جعلته مختلفًا عن غيره من البلدان العربية والإسلامية، وحيث كان كل من يشهد هذا الشهر فى مصر من خارجها يؤكد أن من لم يحضر رمضان في مصر فكأنه لم يعرف حلاوته وبركة الشهر التى يعيشها المصريون.
< < <
في ذلك الزمن كانت فوانيس رمضان واحدة من أهم مظاهر الاحتفال ذات الخصوصية في مصر، وحيث كان الأطفال والصبية يحرصون على اقتنائها واللهو بها في مشهد توثقه أفلام السينما القديمة والفيديوهات المصاحبة لأغانى ذلك الزمن، فانوس رمضان لم يكن خاصًا بالأطفال والصبية فقط ولكنه كان مظهرًا من مظاهر احتفال المصريين خاصة فى الأحياء الشعبية، حيث كانت الفوانيس كبيرة الحجم تعلو الزينات فوق البيوت والشوارع، ومن المعلوم أن قصة فانوس رمضان ترجع إلى أيام الدولة الفاطمية التى استحدثت هذا المظهر الاحتفالي فى مصر وظلت تتوارثه الأجيال عبر أكثر من ألف سنة من الزمان حتى صار جزءًا من الثقافة المصرية الشعبية فى الاحتفال برمضان.
ورغم التراجع التدريجى والواضح لفانوس رمضان وحيث تغيّرت أشكاله وتبدلت من شكله القديم المصنوع من الصفيح والذى يُضاء بالشموع إلى أحدث ما وصلت إليه تطورات صناعته من البلاستيك والمضاء كهربائيًا بل المتحدث بالصوت والغناء أيضًا مع ملاحظة أنه مستورد من خارج مصر «من الصين تحديدًا»، وحيث صار بعيدًا عن الموروث التقليدى والقديم بل تراجعت أهميته ولم يعد حاضرًا بقوة مقارنة بالزمن الماضى، إلا أنه يبقى للفانوس القديم سحره وعراقته، رغم انخفاض سعره جدًا مقارنة بالفانوس الحديث الذى فقد روح زمان ومع ذلك فقد علمت أن فانوسًا حديثًا يباع بآلاف الجنيهات!
< < <
فى رمضان زمان كان المظهر الأكثر وضوحًا هو إغلاق كل المطاعم طوال النهار حتى المغرب موعد الإفطار.. احترامًا للشهر والصيام ولم يكن من الممكن أن تجد مطعمًا أو مقهى يفتح أبوابه نهارًا، غير أن هذا المظهر كاد أن يغيب فى كثير من الأحياء سواء فى القاهرة أو غيرها، وحيث يمكن مشاهدة بعض المجاهرين بالإفطار فى مسلك إن لم يكن فيه معصية واستهزاء بأحد أركان الدين، فإنه من المؤكد مسلك يتسم بالتبجح الفج المذموم، بينما كان المسيحيون المصريون ومازالوا يشاركون إخوانهم المسلمين الصيام ولا يجاهرون أبدًا بتناول الطعام والشراب.. احترامًا لفريضة إسلامية فى مسلك بالغ الدلالة على اللُحمة الوطنية الراسخة بين عنصرى الشعب المصرى المستمرة عبر عقود من التاريخ.
< < <
رمضان زمان كان مناسبة دينية واجتماعية لتجمع الأسر والعائلات والأقارب بل الجيران أيضًا على موائد الإفطار فى مظهر آخر من مظاهر الاحتفاء بهذا الشهر الكريم وعلى النحو الذى تتجلى فيه صلة الأرحام حسبما تقضى الشريعة الإسلامية وحسبما ورد فى القرآن الكريم وفى الأحاديث القدسية والأحاديث النبوية الشريفة.
< < <
وكانت صلاة التراويح التى يحرص المصريون على إقامتها فى المساجد واحدة من أهم مظاهر الاحتفاء برمضان فى مصر، حيث كانت المساجد تمتلئ عن آخرها بالمصلين فى مشهد بالغ الدلالة على حرص المصريين على إحياء تلك الشعيرة الإسلامية تمسكًا بالسنة النبوية الشريفة وتأكيدًا على رسوخ العقيدة الدينية فى النفوس، وإذا كانت جائحة «كورونا» قد تسببت فى تعطيل تلك الشعيرة فى العامين الماضيين التزامًا بإجراءات الوقاية التى هى من صميم الدين حرصًا على النفس البشرية، فإن عودتها هذا العام بعد التراجع الكبير للوباء حتى مع تحديد وقت إقامتها بما لا يزيد علي نصف الساعة بدت أمرًا مبشرًا بانفراج أزمة الوباء ونهايته وأيضًا استئنافًا لتلك الشعيرة الإسلامية لإحياء ليالى الشهر الكريم، غير أنه من الملاحظ فى نفس الوقت ذلك التراجع فى أعداد المصلين فى صلاة التراويح حتى من قبل وباء «كورونا» من جانب شرائح كبيرة من المصلين خاصة من الشباب الذين شغلتهم المسلسلات والموبايلات والسهر فى الكافيهات والمقاهى عن التراويح، مع ملاحظة أنه من الجائز إقامتها فى البيوت باعتبار أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يصلها فى المسجد حتى انتقل إلى جوار ربه وأن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب الخليفة الثانى هو أول من استن إقامتها فى المسجد، وقد صار ذلك تقليدًا وسُنة حسنة بعد ذلك، ولذا ليت من لم يصلها فى المسجد أن يقيمها في بيته لإحياء ليالى رمضان بتلك الصلاة.
< < <
فى رمضان زمان وحيث لم يكن المصريون يواصلون السهر من المغرب حتى الصباح بل كانوا يخلدون للنوم حتى ما قبل السحر لتناول وجبة السحور، كان «المسحراتى» واحدًا من مظاهر رمضان حيث كان يُوقظ الظائمين خاصة في القرى والأحياء الشعبية بل فى الأحياء الراقية أيضًا، وتدريجيًا ومع ظهور التليفزيون وانتشاره الواسع حتى فى الريف تراجع دور «المسحراتى» حتى انقرضت تلك المهنة القديمة، إلا قليلا، مع انتشار الفضائيات التى جعلت المصريين يواصلون الليل بالنهار، وحتى صار ظهور «المسحراتى» فى أحد الأحياء حاليًا نوعًا من الفولكلور القديم والذى لم يعد له دور حقيقى سوى محاولة مستميتة للتمسح بالزمن القديم مما يثير سخرية البعض وضحكاته من «طبلة» المسحراتى التى لا تكاد تُسمع بفعل أصوات المسلسلات والإعلانات المنبعثة من نوافذ البيوت.
<<<
فى رمضان زمان.. فى الخمسينيات من القرن الماضى وقبل ظهور التليفزيون فى أوائل التسعينيات.. كانت الإذاعة المصرية هى الوسيلة الإعلامية الوحيدة التى يتابعها المصريون ويتابعون من خلالها البرامج الدينية التى أذكر منها برنامج «أحسن القصص»، وكذلك الدراما وأشهرها «ألف ليلة وليلة» التى كانت علامة رمضانية ومازلت أذكر ومازال جيلى يذكر الفنان القدير عبد الرحيم الزرقاني بصوته الرخيم وعبارته الشهيرة «وأدرك شهر زاد الصباح» ومازلنا نذكر صوت الفنانة الكبيرة زوزو نبيل بعبارتها الشهيرة «بلغنى أيها الملك السعيد ذو الرأى الرشيد» ثم وهى تختتم كل حلقة بكلمة «مولاى».
وبعد ظهور التليفزيون فى أوائل الستينيات وحتى بعد انتشاره فى السبعينيات، فإن الدراما والمسلسلات الرمضانية لم تكن بذلك الكم المبالغ فيه فى السنوات الماضية، إذ كان الأمر لا يزيد على مسلسل واحد أو اثنين على الأكثر، بينما كانت الجرعة الدينية كبيرة من حيث البرامج أو الدراما التاريخية والدينية، ثم تطور الأمر كثيرًا بعد انتشار الفضائيات المصرية والعربية والتى حشدت على شاشاتها سيلاً هائلاً من المسلسلات التى تتطلب مشاهدتها وقتًا أكثر من أربع وعشرين ساعة أى أطول من اليوم والليلة.
ومع ذلك الكم الهائل والمروع من الأعمال الدرامية انقسم المصريون إلى فريقين.. الأول أضاع أيامه ولياليه فى متابعتها فى انشغال تام عن العبادة والصلاة وقراءة القرآن الكريم، والفريق الثانى هم الذين انصرفوا تمامًا عن متابعتها باعتبارها مضيعة للوقت وانشغال عن إحياء ليالى رمضان وفقًا للسُنَّة النبوية.
ولقد كنت من الفريق الثانى منذ سنوات، ولذا لا أستطيع تقييم مسلسلات هذا العام والذى قيل لى إنها أقل من الأعوام السابقة، وإن كانت كل الشاشات تخلو تمامًا من أى دراما تاريخية ودينية وهو الأمر الذى يبدو معه صُنّاع الدراما فى غفلة تامة عن التعاطى مع شعيرة الصوم والشهر الفضيل.
<<<
الظاهرة اللافتة فى رمضان كل عام منذ سنوات هى سيل الإعلانات المنهمر على المصريين من شاشات التليفزيون والقنوات الفضائية والتى بقدر أنها تقطع بفواصلها التسلسل الدرامى وعلى نحو مخل بالدراما فإنها بنفس القدر تمثل استفزازًا لغالبية المصريين خاصة تلك الإعلانات عن الفيلات والشقق السكنية الفاخرة التى لا تخص سوى شريحة محدودة جدًا من أصحاب الدخول المرتفعة جدًا، أما الأسوأ وغير الإنسانى فهو تلك الإعلانات التى تتسول بأمراض وأوجاع وفقر المصريين للتبرع، خاصة مع المشاهد التى تدمى القلوب طلبًا للتعاطف بينما تمثل فى واقع الأمر إهانة لكرامة هؤلاء المرضى وعلى نحو غير مقبول دينيًا واجتماعيًا وإنسانيًا.
<<<
وعن رمضان زمان أتحدث عن الأغانى الرمضانية الشهيرة التى كانت ولاتزال علامة على رمضان، ومن المثير أن صُنّاع الأغانى من المؤلفين والملحنين والمطربين عجزوا منذ سنوات طويلة عن تقديم أغنيات ترقى لمستواها أغنيات زمان والتى لاتزال الشاشات تبثها حتى الآن باعتبارها من مظاهر الاحتفال بالشهر الكريم.
< < <
كانت تلك خواطرى وأحسبها خواطر الجيل الذى عاصر الخمسينيات والستينيات.. عن رمضان زمان في تلك السنوات ورمضان فى السنوات اللاحقة وحتى الآن.