أسامة أيوب يكتب : قرار مجلس الأمن المائع.. وتمثيلية الخلاف الأمريكى الإسرائيلى
رغم أن القرار الذى أصدره مجلس الأمن الدولي الأسبوع الماضى الداعى إلى وقف مستمر لإطلاق النار في غزة خلال شهر رمضان الحالى جاء مائعًا بعبارات تنطوى على كثير من الالتباس وعلى النحو الذى بدا معه القرار ضعيفًا ودون المستوى المفترض وذلك لأسباب عديدة، ورغم أن الولايات المتحدة امتنعت عن التصويت بينما صوتت الدول الأربع الأخرى دائمة العضوية لصالحه، فإن رد فعل مجرم الحرب نتن ياهو الغاصب بدا تزيدًا بأكثر مما يحتمل هذا القرار الضعيف، إذ اعتبر أن امتناع إدارة بايدن عن التصويت ومن ثمَّ امتناعها عن استخدام «الفيتو» كما حدث ثلاث مرات سابقة يُعد تراجعا عن تأييد إسرائيل وانتصارًا لحماس!!
لقد استهدف نتن ياهو من مهاجمة المسلك الأمريكى فى مجلس الأمن ثُمَّ تصعيد هجومه بإلغاء سفر وفد إسرائيلى إلى واشنطن كان مقررًا قبل اجتماع مجلس الأمن أن يروّج لوجود خلافات أمريكية إسرائيلية، والحقيقة أن امتناع أمريكا عن التصويت وغضب نتن ياهو من امتناعها عن استخدام «الفيتو» ليس سوى تمثيلية هزلية يقوم ببطولتها بمشاركة الرئيس الصهيونى چو بايدن وإدارته.
ثُمَّ إنه مما يؤكد هزلية تمثيلية الخلافات هو أن إدارة بايدن أبدت تعجبها ودهشتها من رد فعل نتن ياهو الغاضب رغم امتناعها عن التصويت لصالح القرار فى نفس الوقت الذى أعلنت فيه واشنطن وأكدت علنًا بكل صراحة ووضوح أنها رغم تحفظها على اجتياح رفح المزمع دون ضمانات لتقليل أعداد القتلى المدنيين لن توقف إمداد إسرائيل بالأسلحة، ورغم ذلك فقد حرصت كامالا هاريس نائبة الرئيس الأمريكى على التحذير من العواقب الوخيمة لاجتياح رفح، وهو التحذير الذى يتعارض مع تأكيد الإدارة الأمريكية على أنها لن توقف إمداد إسرائيل بالأسلحة، ولا تفسير لهذا التناقض فى الموقف الأمريكى سوى أنه محاولة لإبداء رفضها لقتل المدنيين أمام العالم بحيث تبدو حريصة على حقوق الإنسان ورافضة لقتل المدنيين الذين يقتلون بالسلاح الأمريكى، وهو الحرص الكاذب الذى فضحه رفض واشنطن لتقرير المنظمة الأممية لحقوق الإنسان الذى اتهم إسرائيل بشن حرب إبادة ضد الفلسطينيين فى غزة، ثُمَّ اتهامها للمقررة الأممية بالانحياز ضد إسرائيل وعلى النحو الذى يجعلها غير صالحة للاستمرار في منصبها!!
<<<
لذا فإن امتناع الولايات المتحدة عن التصويت لصالح القرار ومن ثَمَّ امتناعها عن استخدام الفيتو هذه المرة وهى التى استخدمته ثلاث مرات لعرقلة صدور قرار لوقف إطلاق النار منذ بدء العدوان الصهيونى إنما استهدف أمرين:
الأول تقليل انحيازها السافر لإسرائيل في مواجهة الضغوط الدولية وإبداء حرصها على وقف قتل المدنيين، والثانى هو أن القرار لا يُمثل أى ضرر لإسرائيل إذ لم يتضمن إدانة لها عن مجازرها في غزة، ومن ثَمَّ فإنه قد يكون مدخلا لإطلاق سراح الرهائن لدى حماس وهو أهم ما تحرص عليه واشنطن مع إسرائيل، ومن ثَمَّ فقد اختارت اللجوء إلي هذا الحل الوسط بالامتناع عن التصويت.
أما القرار ذاته والذى تقدمت بمشروعه الدول العشر غير دائمة العضوية أو الدول المنتخبة بحسب التعبير الذى جرى استخدامه في جلسة المجلس جاء فارغًا من أى مضمون حقيقى سواء بوقف العدوان أو ضمان إيصال المساعدات الإغاثية الكافية إلى غزة دون عراقيل إسرائيلية، إذ لم يتضمن النص الصريح على آلية لتنفيذه، بل إنه لم يتضمن النص على أنه قرار ملزم، وبذلك فقد انطوى على التباس كبير وتناقض حول تفسيره، لأنه بينما أكد أعضاء المجلس غير الدائمين أن القرار ملزم باعتباره صادرًا تحت الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، فإن الأعضاء الخمسة دائمى العضوية وفى مقدمتهم الولايات المتحدة أكدوا أنه لم يصدر تحت الفصل السابع ومن ثَمَّ فهو غير ملزم، ومن ثَمَّ فقد صار القرار حبرًا على ورق!
ثُمَّ إن هذا القرار الذى لقى ترحيبًا عربيًا في غير موضعه ودون مبرر حقيقى سوى امتناع أمريكا عن التصويت وامتناعها عن استخدام الفيتو والذى اعتبره العرب تحولا مهما في الموقف الأمريكى رغم أنه غير ذلك.. لن يمتد تأثيره إلي أبعد من التأثير المعنوى فقط، إذ لن يُسفر عن وقف العدوان الصهيونى على غزة أو إدخال المساعدات للمدنيين الفلسطينيين المحاصرين الذين يواجهون القتل والتجويع والإبادة، بل إن جيش الاحتلال ضاعف من غاراته الجوية وتعمد قتل المدنيين داخل المستشفيات وخارجها وزاد على ذلك بقتل أربعة شباب عُزل قصفتهم طائرة مسيرة وحوَّلت أجسادهم إلى أشلاء فى نفس يوم صدور القرار.
<<<
ولأن القرار نص على الدعوة إلى «وقف مستمر لإطلاق النار» وهى عبارة غير محكمة الصياغة وتحمل أكثر من معنى، فقد جاء التعديل الذى اقترحه مندوب روسيا الاتحادية على هذه العبارة قبل التصويت بحيث يتم النص على (وقف دائم) ضروريًا لإحكام الصياغة وتحقيق الهدف من القرار، غير أن المندوبة الأمريكية رفضت التعديل وهو الأمر الذى كان يعنى استخدامها الفيتو في حالة الموافقة عليه، ولذا صدر القرار مع بقاء عبارة وقف مستمر، حيث كان موقف المندوبة الأمريكية كاشفا لسوء النية الأمريكية وفاضحا للموقف الأمريكى الحقيقى الذى لا يوافق على وقف دائم لإطلاق النار، وحيث تظل عبارة وقف مستمر عبارة مطاطة!
ثُمَّ إن النص على «الوقف المستمر» لإطلاق النار خلال شهر رمضان بدا استخفافا بعقول الأمتين العربية والإسلامية، إذ كان الشهر قد انتصف بالفعل، إذ إن الدعوات والإعلانات الأمريكية السابقة على رمضان وفي مقدمتها تصريحات الرئيس بايدن بالنظر إلى رمزية هذا الشهر المقدس لدى المسلمين كانت تتحدث عن وقف العدوان خلال هذا الشهر الفضيل، ولذا فإن نص القرار على وقف إطلاق النار خلال رمضان بعد أن انقضى نصفه إنما يعنى هدنة مدتها أسبوعان ولذا رفضت المندوبة الأمريكية عبارة «وقف دائم» مع ملاحظة أن العالم كله متأكد من أن إسرائيل لن تلتزم بوقف العدوان كما لم تلتزم بعد صدور القرار.
<<<
وبصرف النظر عن أن إسرائيل لن توقف عدوانها سواء خلال ما بقى من شهر رمضان أو بعده، فإن مسألة إدخال المساعدات الإغاثية الضرورية إلى غزة لإنقاذ الشعب الفلسطينى من الموت جوعًا في ضوء العجز عن إنقاذه من القتل، تبقي القضية ذات الأولوية القصوى والتي تستدعى تدخلًا دوليًا إقليميا فوريا دون أى إبطاء، حيث تتحمل الإدارة الأمريكية برئاسة بايدن المسئولية الأولى لإجبار حكومة الكيان الصهيونى على إدخال المساعدات برا دون أى عراقيل، إذ أكدت تجربة الانزال الجوى والبحرى فشلا كبيرا فى توزيع المساعدات على الفلسطينيين، حيث تسببت في قتل أعداد منهم بسقوط الشحنات فوق رؤوسهم وأغرقتهم في مياه البحر عند التقاط صناديد المساعدات حسبما حدث مؤخرا.
ولأنه لا سبب منطقيا يمكن للعالم أن يتفهمه لرفض إسرائىل إدخال المساعدات برا عبر المعابر البرية بينما توافق على إنزالها جوا وبحرا، وإلى درجة أن الولايات المتحدة ذاتها تسقط مساعداتها جوا وبحرا، فإن الحقيقة هى الرغبة الصهيونية في إذلال الفلسطينيين بل إطلاق النار عليهم أثناء توزيع المساعدات عليهم، ولذا فإن السؤال الذى يتعين على العالم وعلى العرب على وجه الخصوص طرحه على الإدارة الأمريكية.. هل تعجز إدارة الرئيس بايدن عن إدخال مساعداتها برا مع المساعدات الأخرى، وهل تجرؤ إسرائيل على منعها أو قصفها؟!
ولأن أمريكا تستطيع لو كانت جادة ادخال مساعدات والمساعدات الأخرى برا ولا تفعل، فإن الحقيقة أيضا أنها متآمرة وشريك لإسرائيل في عدوانها وإبادتها للفلسطينيين وفي تجويعهم وإذلالهم.
<<<
لقد أكدت مواقف الرئيس بايدن بما في ذلك موقفه الأخير في مجلس الأمن أن التعويل على أى موقف أمريكى عادل ونزيه وغير منحاز هذا الانحياز السافر لإسرائيل ليس سوى وهم من أوهام العرب الذين مازالوا يعولون على إدارة بايدن الحالية أو أى إدارة سابقة أو لاحقة، إذ إن الولايات المتحدة ملتزمة تاريخيا واستراتيجيا بضمان أمن إسرائىل وبضمان تفوقها النوعى والكمى علي كل الدول العربية، بوصفها الحليف الاستراتيجى الأول والأكبر فى المنطقة والحارسة للمصالح الأمريكية والغربية والتى تقوم بدور الدولة الوظيفية لحماية هذه المصالح، وتلك هى الحقيقة التى يتعين علي الأمة العربية التعاطى معها من خلال استراتيجية موحدة لمواجهة أخطار هذا التحالف الحالية والمستقبلية.
وفى نفس الوقت فإن الأمر الخطير المسكوت عنه أو الغائب عن بؤرة الاهتمام العربي والدولي في خضم الانشغال بحرب الإبادة وكل جرائم الحرب التي يرتكبها الكيان الصهيونى في غزة.. هو ما يجرى فى الضفة الغربية إذ إن ثمة جرائم ترتكبها قوات الاحتلال والمستوطنون فى مدن وبلدات ومخيمات الضفة من اقتحامات وهدم منازل واعتقالات بالآلاف وتوسع استيطانى مسعور بهدف تهجير الفلسطينيين من الضفة إلى الأردن بالتوازى مع خطة التهجير القسرى لأهل غزة إلى سيناء.
<<<
خلاصة القول هى أن نتن ياهو ماض قدمًا في تنفيذ خطة اجتياح رفح جنوب قطاع غزة التى يتكدس فيها أكثر من مليون ونصف المليون فلسطينى أجبروا على النزوح إلى تلك المدينة، وذلك رغم ادعاء بايدن وإدارته بالتحفظ على هذا الاجتياح والذى رد عليه نتن ياهو بأنه لن يتراجع عن الاجتياح حتى دون موافقة أمريكا، حيث إن الحقيقة هى أن بايدن موافق ضمنيًا على خطة الاجتياح واستمرار العدوان، وهو الأمر الذى فضحه تأكيد الإدارة الأمريكية على أنها لن توقف إمداد إسرائيل بالأسلحة، وحيث بات واضحًا ومؤكدًا أن الترويج لوجود خلافات بين بايدن ونتن ياهو ليس سوى تمثيلية هزلية مفضوحة.