د. محمد فراج يكتب : ارفعوا أيديكم عن ليبيا
قمة أنقرة بين الرئيسين المصرى عبدالفتاح السيسى والتركى رجب طيب أردوغان كانت مناسبة جديدة لتأكيد القاهرة على الأهمية الكبيرة التى توليها للأوضاع فى ليبيا باعتبارها قضية وثيقة الصلة بالأمن القومى المصرى، وقد كانت أجندة القمة مزدحمة بالعديد من قضايا التعاون الثنائى، وأسفرت عن عديد من الاتفاقات الهامة، كما لوحظ التقارب الكبير في المواقف بشأن كثير من القضايا الإقليمية، إلا أن المراقب اليقظ لابد أن يكون قد لاحظ أنه بينما ذكر بيان الرئيس التركى – فى المؤتمر الصحفى الذى أعقب القمة – قد ذكرت ليبيا بكلمة واحدة، فإن بيان الرئيس المصرى كان حريصًا على الحديث بقدر واضح من التفصيل عن مقتضيات تحقيق الأمن والاستقرار فى ليبيا، وقال الرئيس بالنص: "كنا تبادلنا وجهات النظر حول الأزمة الليبية واتفقنا على التشاور بين مؤسساتنا لتحقيق الاستقرار الأمنى والسياسى فى ليبيا، مع تأكيد أهمية طى صفحة تلك الأزمة الممتدة من خلال عقد الانتخابات الرئاسية والتشريعية بالتزامن، وخروج القوات الأجنبية غير المشروعة والمرتزقة من البلاد، وإنهاء ظاهرة الميليشيات المسلحة، حتى يتسنى لليبيا الشقيقة إنهاء مظاهر الانقسام وتحقيق الأمن والاستقرار".
وهو الموقف الذى يتفق مع مقررات كل المؤتمرات الدولية حول ليبيا مثل مؤتمر برلين (1) وبرلين (2) والجهود التى تم بذلها تحت إشراف الأمم المتحدة للتقريب بين مواقف الفرقاء الليبيين ومن أهمها اتفاق جنيف "أكتوبر2020" لوقف إطلاق النار والاتفاق السياسى المترتب عليه، والذى تضمن "خارطة طريق" تم على أساسها تشكيل حكومة الوحدة الوطنية برئاسة عبدالحميد الدبيبة، ومنحها ثقة البرلمان الليبى "مارس 2021" والتى كان يفترض أن تقوم بالإعداد لإجراء الانتخابات الرئاسية والتشريعية بالتزامن فى "24 ديسمبر 2021" بالتعاون مع بقية الأطراف الليبية، وتحت إشراف البعثة الأممية فى ليبيا.
إلا أنه بالرغم من مرور نحو ثلاث سنوات على الموعد المقرر، فإن الانتخابات لم يتم إجراؤها بسبب محاولات الالتفاف على المقررات الدولية والاتفاقات الداخلية، من جانب مختلف القوى السياسية وخاصة فى الغرب الليبى وبصورة أخص من جانب حكمة الدبيبة، علما بأن بعثة الأمم المتحدة انخرطت بدورها فى المناورات والتلاعبات التى أدت لتأجيل الانتخابات. ومعروف أن هذه البعثة تخضع لنفوذ الدول الغربية الكبرى، وفى مقدمتها أمريكا.
الانتخابات وشروطها الغائبة
ولا يتسع المقام هنا للدخول فى تفاصيل المناورات التى أعاقت إجراء الانتخابات، وأدت إلى فرض حالة من الجمود السياسى أو ما يُسميه الليبيون "الانسداد السياسى"، وقد كتبنا أكثر من مرة فى "الأموال" عن هذه الموضوعات، وحسبنا أن نذكر هنا قطعًا أنه من المتعذر إجراء انتخابات نزيهة فى ظل وجود قوات وقواعد عسكرية أجنبية فى البلاد، بما فى ذلك العاصمة طرابلس، وبالقرب منها، وكذلك فى ظل وجود عشرات الآلاف من المرتزقة الأجانب، بالإضافة إلى الميليشيات الإرهابية والقبلية والمناطقية المدججة بالسلاح والمتسارعة على النفوذ، وخاصة فى طرابلس والمناطق الغربية من البلاد، حيث توجد أغلبية السكان. فأى انتخابات يمكن إجراؤها فى ظل هذه الظروف؟!
من هنا نفهم حرص البيان الرئاسى المصرى – عقب قمة أنقرة – على الحديث عن ضرورة توفير الشروط اللازمة لإجراء الانتخابات فى ليبيا، وإعادة الاعتبار إلى المقررات الدولية فى هذا الصدد، علمًا بأن كثيرًا من السياسيين الغربيين والأمميين ليس من النادر أن يتحدثوا عن ضرورة إجراء الانتخابات، بغض النظر عن توافر الشروط اللازمة لإجرائها أصلًا ثم اعتراف جميع الأطراف بنتائجها فى حالة إجرائها، ومن ثَمَّ الخضوع للسلطة المنبثقة عنها.
وباختصار فإن أى حديث جدى عن إجراء انتخابات ديمقراطية نزيهة تعبّر بالفعل عن إرادة الشعب الليبى يستلزم بالضرورة خروج القوات الأجنبية والمرتزقة ونزع سلاح الميليشيات.
ومن ناحية أخرى فإن التزامن بين الانتخابات البرلمانية والرئاسية هو أمر ضرورى للغاية، ومنصوص عليه بوضوح فى المقررات الدولية، ومن ثَمَّ يتعيَّن رفض المطالب التى تطرحها بعض القوى فى غرب البلاد بإجراء الاتنخابات البرلمانية أولا، ومن ثمَّ الانتخابات الرئاسية، أو بانتخاب رئيس ذى صلاحيات محدودة من جانب البرلمان، على أن تكون السلطة العليا فى يد رئيس الحكومة كما هى الحال فى عديد من الجمهوريات البرلمانية.
ففى ظروف التشرذم والانقسام الطويل كالتى شهدتها – ولاتزال تشهدها – ليبيا يكون مطلوبا وجود سلطة مركزية قوية قادرة على إعادة توحيد البلاد ولم شتاتها، ومن هُنا نفهم حرص البيان الرئاسى المصرى على الحديث عن "التزامن" وهو ما تؤكده أيضا المقررات الدولية، وخارطة الطريق الأممية التى تم على أساسها تشكيل كل من حكومة الدبيبة والمجلس الرئاسى الليبى "برئاسة محمد المنفى".
الانقسام يعنى الفوضى والعنف
وبديهى أن يؤدى استمرار أوضاع الانقسام والفوضى الأمنية إلى انتشار العنف، وهو ما نشاهد آثاره المتصاعدة فى غرب البلاد، ويهدّد بانفجار صراعات مسلحة واسعة النطاق وقد أدى استخدام بعض أطراف السلطة للعنف فى التعامل مع أزمة البنك المركزى إلى هروب محافظه وعدد من كبار موظفيه خارج البلاد خوفا على أرواحهم "الفاينانشيال تايمز- 30 أغسطس 2024"، كمنا أدى تدخل رئيس المجلس الرئاسى محمد المنفى فى الأزمة بعزل محافظ المصرف المركزى – دون حق من الدستور – إلى نشوب حالة من الفوضى تحدثنا عنها بالتفصيل فى مقالنا السابق (الأموال- 1/ 9/ 2024) مما دفع وزارة الخزانة الأمريكية إلى التهديد بفرض عقوبات على ليبيا وتجميد أرصدة المصرف المركزى الليبى فى الخارج، وهو أمر من شأنه أن يؤدى إلى شلل مالى لتعاملات المصرف فى الخارج، كما أن الانقسام فى قيادة المصرف في الداخل من شأنه أن يؤدى إلى شلل اقتصادى وإلى وقف صرف المرتبات، ومن ثَمَّ تفجر سخط جماهيرى واسع النطاق.
واللافت للنظر هنا أن القيادة الجديدة التى بينها "المنفى" أعلنت أنه سيتم صرف المرتبات فى موعدها، أى بداية سبتمبر، لكنها عادت فتحدثت عن وجود أزمة فى السيولة!! كما أن إعلان حكومة شرق ليبيا والجيش الوطنى حالة القوة القاهرة فى حقول البترول، ووقف الإنتاج والضخ أدى إلى وقف أكثر من 63% من الإنتاج وهو ما يعنى خسائر فادحة لموارد "المركزى" كما أن إعادة هذه الحقول للعمل - حينما يتم حل الأزمة -سيستغرق وقتا طويلا ويُكلف أموالًا ضخمة ولذلك كله انعكاسات سلبية خطيرة على الأوضاع الاقتصادية ومن ثَمَّ على الاستقرار الأمنى.
وحينما تدخلت البعثة الأممية بمبادرة منها لحل الأزمة فإنها جمعت ممثلين لكل من البرلمان (صاحب الحق الأصيل فى تعيين أو عزل محافظ المصرف المركزى) والمجلس الأعلى للدولة (صاحب الرأى الاستشارى) ليتم الاتفاق على أنه (لا هذا ولا ذاك!) وإنما اتخذ المجتمعون قرارًا بتعيين أحد نواب محافظ المصرف (مرعى البرعصى) يعاونه ثلاثة فنيين لتشكيل (لجنة مؤقتة) لتسيير شئون المصرف لمدة ثلاثين يوما قابلة للتجديد لثلاثين يوما أخرى حتى يتم الاتفاق على تعيين محافظ جديد للمصرف!!
وكان الأولى بالبعثة الأممية أن ترفض انتهاك رئيس المجلس الرئاسى للدستور وأن ترفض قراره بعزل (الصديق الكبير) وكذلك قراره بتعيين محافظ جديد باعتبارهما (صادرين عن غير ذى صفة) تعبيرًا عن احترام البعثة للدستور وخارطة الطريق، دون أن يمنع هذا اتخاذ أى إجراءات لمحاسبة الصديق الكبير على أى أخطاء أو عزله وتعيين غيره بطريقة غير قانونية ودستورية، لكن البعثة الأممية عبرت مرة أخرى عن انحيازها لفريق "الدبيبة والمنفى" وضغطت على البرلمان والمجلس الأعلى للدولة من أجل تشكيل اللجنة المؤقتة، علمًا بأنه ليس معروفا حتى الآن ما إذا كان الدبيبة سيمتثل لهذا القرار أم لا؟!
وهكذا تظل أشباح الفوضى والعنف مخيّمة على ليبيا، ما دامت حالة الانقسام مستمرة ولا حل إلا باجتماع إرادة القوى الغربية الكبرى (والقوى الإقليمية) على توفير الشروط الضرورية لإجراء انتخابات عامة نزيهة رئاسية وبرلمانية (متزامنة) تنبثق عنها سلطة ممثلة لإرادة الشعب الليبى، توحِّد صفوفه، وتضع حدًا لأطماع القوى الدولية والإقليمية فى ثروات ليبيا وموقعها الاستراتيجى الفريد.