د. محمد فراج يكتب : الترويج لخرافات صهيونية بأقلام وألسنة عربية!
يرتكب كثيرون من الكتاب والإعلاميين العرب خطأ فادحًا حينما يتحدثون عن الكيان الصهيونى باعتباره الدولة العبرية، ويؤسفنا أن نقول لهؤلاء إن هذا الوصل ليس خاطئا ونافيا للحقيقة والوقائع التاريخية فحسب، بل وأيضًا أن الصهاينة يسعدون به ويحبون أن يجرى إطلاقه على كيانهم، والحقيقة أن إسرائيل ليست دولة عبرية وإن كانت تتحدث باللغة العبرية التى تم إحياؤها وتحديثها بجهود هائلة، بينما وصف الدولة العبرية يعنى أن الإسرائيليين المعاصرين هم امتداد لليهود العبرانيين القدامى، ويتضمن ادعاءً كاذبًا بأن هؤلاء اليهود العبرانيين القدامى هم أجداد الصهاينة المعاصرين.
وهذا تزوير سافر للتاريخ المقصود هو إثبات حق تاريخى مزعوم لليهود فى أرض فلسطين، بناء على وعد إلهى توراتى مزعوم أيضا للخليل إبراهيم عليه السلام بأن يعطى الله عز وجل له ولنسله الأرض الممتدة من نهر النيل إلى نهر الفرات، وبناء على التفسير التوراتى والتلمودى لهذا الوعد الإلهى بأنه يعطى هذه المنطقة لليهود بالذات أو لبنى إسرائيل! بينما الحقيقة أن العرب بالذات هم الذين يمثلون الأغلبية الساحقة لنسل الخليل إبراهيم.. نعنى أبناء اسماعيل عليه السلام، وبالتالى وبفرض وجود مثل هذا الوعد فإنه يخص العرب بالذات.
الحقيقة التاريخية تقول إن كلمة العبرانيين «عبرو/ أو عابيرو» هى تسمية لأولئك الذين عبروا نهر الفرات قادمين من العراق مع الخليل ابراهيم هربًا بدينهم، حيث استقروا فى صحراء الأردن وأطراف فلسطين القديمة، ثم جاء قسم منهم «أبناء النبى يعقوب - المعروف أيضًا باسم إسرائيل» ابن إسحق بن إبراهيم، إلى مصر فى هجرة اقتصادية فى فترة احتلال الهكسوس للمناطق الشمالية الشرقية من مصر، واستقروا بها لفترة من الزمن هربا من القحط والجفاف فى مناطق إقامتهم الأصلية، حتى تم طردهم من البلاد بعد طرد الهكسوس منها، وكان خروج بنى إسرائيل من مصر فى القرن الثالث عشر قبل الميلاد فى عهد رمسيس الثانى أو ابنه مرنبتاح «الأسرة التاسعة عشرة» متجهين إلى فلسطين.
ويذكر التاريخ أن الديانة اليهودية قد ظهرت فى فلسطين بين أبناء هذه القبيلة الصغيرة «بنى إسرائيلى وهم الأسباط الاثنا عشر أبناء النبى يعقوب «المعروف أيضا باسم إسرائيل» أو خلال رحلتهم من مصر إلى فلسطين عبر سيناء، وفى ذلك الوقت كانت الأغلبية الساحقة من سكان فلسطين من أبناء البلاد الأصليين ومن القبائل المنتشرة فى المنطقة، من الفلسطينيين «كانوا موجودين منذ آلاف السنين» ومنهم أخذت البلاد اسمها، والآراميين وغيرهم وأقام «بنو إسرائيل» كيانين صغيرين «إسرائيل ويهودا» ضمن الكيانات القبلية الكثيرة الموجودة فى فلسطين وقتها، لم تلبث أن اجتاحتهما غزوات ملوك العراق البابليين والآشوريين، وأخذت معظم سكانها أسرى، كما كانت تفعل أغلب الممالك القديمة حيث استرقاق الرجال وتشغيلهم فى شتى الأعمال بينما كانت النساء يؤخذن كجوار للمتعة والخدمة ثم تكرر هذا الغزو مرة أخرى وتم تدمير ما تبقى من الكيانات القبلية القائمة فى فلسطين وأخذ مزيد من الأسرى وهو ما يسميه المؤرخون اليهود الأسر البابلى الأول والأسر البابلى الثانى، وبعد ذلك جاء الغزو الإفريقى من القرن الثالث قبل الميلاد ثم الغزو الرومانى فى القرن الأول «ق.م» وهو الغزو الذى أجهز على الأغلبية الساحقة من بقايا اليهود فى فلسطين، بينما استقرت فلول منهم فى المناطق المجاورة لفلسطين فى صورة جماعات صغيرة.
نهاية العبرانيين وتزوير التوراة
وهكذا يمكن القول إن وجود العبرانيين فى فلسطين قد انتهى تاريخيًا فى عهد الإمبراطورية الرومانية «القرن الأول ق.م» وتم القضاء على جزء منهم وتشريد الباقين كما انقرضت لغتهم ولم يعد يتحدث بها إلا المتبقين من الكهنة إلى أن أعادت الحركة الصهيونية إحياء هذه اللغة ونشرها فى إسرائيل.
أما عن التوراة فقد كتبها الكهنة اليهود فى فترة الأسر البابلى بعد عدة قرون من وفاة النبى موسى عليه السلام ولذلك فإنها حافلة بخرافات أبعد ما تكون عن الأديان السماوية، بل إن مؤسس الكيان الصهيونى دافيد بن جوريون نفسه يقول عن التوراة «إنها فولكلور الشعب اليهودى».
الفولكلور هو الأدب والفن الشعبى بما يتضمن من أساطير ومأثورات شعبية.. وجدير بالذكر أن بن جوريون نفسه وعديد من قادة الحركة الصهيوني بمن فيهم مؤسسها هيرتزل نفسه كانوا ملحدين.
وبديهى أننا لا يمكن أن نتناول التاريخ على أساس أساطير وضعها الكهنة، ولا نريد الدخول فى جدل دينى ونود أن نُعرب عن احترامنا لمعتقدات أى فرد أو جماعة مادامت لا تتعارض مع الحقائق التاريخية والقوانين الأخلاقية للإنسانية لكنها لا تستطيع بالطبع أن تأخذ التاريخ إلا من وقائع ثابتة وآثار مراحل المختلفة. والتاريخ يؤكد أولًا أن بنى إسرائيل لم يكونوا غير قبيلة واحدة من قبائل وشعوب كثيرة فى فلسطين أهمهم الفلسطينيون (موجودون منذ خمسة آلاف عام.)
وثانيها إن الوجود اليهودى القديم فى فلسطين «بنى إسرائيل ذوى الأصل العبرى» قد تم القضاء عليه عبر الغزوات البابلية والآشورية ثم الرومانية، وبالتالى فإن الحديث عن الأصل العبرى لليهود المعاصرين أو للكيان الصهيونى فى فلسطين هو حديث لا أساس له، بل مجرد أسطورة أو خرافة كبرى يحاول الصهاينة الترويج لها لإثبات حق تاريخى مزعوم لهم فى الأراضى المقدسة، ولا ينبغى للكتاب والمثقفين والإعلاميين العرب بأى حال من الأحوال أن يتحدثوا عن دولة عبرية فى فلسطين، لأنهم بذلك يروّجون -عن جهل- لأكاذيب وخرافات الأعداء، كما أن الذين يعبرون عن سخطهم على تخاذل جامعة الدول العربية أحيانا تبين للتخاذل الرسمى العربى بإطلاق وصف «جامعة الدول العبرية!!» يرددون عبارة سخيفة لا معنى لها، ويتورطون فى تبنى الخرافات الصهيونية وعليهم أن يجدوا كلمات أخرى للتعبير عن سخطهم.
القبيلة الثالثة عشرة
وإذا كان الأمر كذلك فمن أين إذن جاء ملايين اليهود الموجودين فى العالم اليوم «نحو خمسة عشر مليونًا»؟ واليهود الموجودون فى إسرائيل؟
الحقيقة أن الأغلبية الساحقة من هولاء تنتمى إلى أصول ليس لها أدنى علاقة باليهود القدامى ولا إلى فلسطين، بل تعود أصولهم إلى منطقة بعيدة عن المشرق العربى كله هى «مملكة الخزر» التى كانت موجودة فى المنطقة الواقعة بين البحر الأسود وبحر قزوين الذى كان يعرف فى العصور الوسطى باسم بحر الخزر» فى القرون من الثامن إلى العاشر الميلادى، وقد قرر ملك هذه المملكة هو وأركان دولته اعتناق الديانة اليهودية كسبيل لتأكيد استقلال دولته عن نفوذ الإمبراطوريتين الكبيرتين والقوتين اللتين كانتا تحيطان ببلاده وأولاهما هى الدولة العباسية التى كان نفوذها يمتد إلى إيران وأفغانستان وبلاد ما وراء النهر «آسيا الوسطى» وثانيتهما هى الإمبراطورية البيزنطية التى كانت تسيطر على تركيا الحالية والبلقان ولأن الناس فى تلك العصور كانوا على دين ملوكهم، فقد فرض ملك الخزر على شعبه اعتناق اليهودية بدلا من الديانة الوثنية التى كانت الخزر يعتنقونها. و«الخزر» هم أحد الأعراق التركية وكانوا يمثلون بعض طلائع الهجرات التركية التى تحركت تدريجيا من شرق آسيا إلى آسيا الوسطى وصولًا إلى تركيا، ودخلت فى صراعات طويلة مع الفرس وغيرهم من سكان تلك المناطق وقد اعتنقت أغلب هذه الفصائل التركية السلام تدريجيا فيما بعد كالأديجور «تركستان الشرقية» والكازاخ، والقيزغيز والأوزبك والتركمانيين إلخ، إلا أن «الخزر» اعتنقوا اليهودية فى القرن الثامن الميلادى، وكانت مملكتهم على درجة لا بأس بها من القوة والغنى لكنها انهارت تحت وطأة ضربات القبائل السلافية المجاورة «الروس أساسًا والبلغار» فى أواخر القرن العاشر الميلادى ونشر أغلب سكانها فى المناطق المجاورة والقريبة مثل روسيا وأوكرانيا وبولندا وغيرها من بلدان أوروبا الشرقية والوسطى، ووصلت أعداد منهم إلى إسبانيا التى كانت فى ذلك الوقت تحت الحكم العربى الاسلامى وغيرها من بلدان أوروبا الغربية كما انتشرت أعداد منهم في بلدان الشرق الأوسط الحالى مثل تركيا والعراق وايران.
وقد تحدثت مصادر تاريخية كثيرة عن اعتناق مملكة الخزر لليهودية ثم سقوط هذه المملكة وانتشارها فى البلدان المشار إليها وغيرها من البلدان والدرجات المتفاوتة من اندماجهم فى مجتمعاتهم الجديدة.
وما يعنينا هنا هو توضيح أن الأغلبية الساحقة من اليهود المعاصرين تعود أصولهم إلى مملكة الخزر ولا علاقة لهم من قريب أو بعيد باليهود القدامى، ولا بفلسطين ولا بأي أصول عبرية أو سامية أو شرق أوسطية.
ومن أم الكتب التى تروى هذا التاريخ كتاب «القبيلة الثالثة عشرة» للكاتب والمؤرخ اليهودى النمساوى المجرى «آرثر كوسكر» وقد اختار لكتابه هذا العنوان فى إشارة إلى تاريخ بنى اسرائيل والأسباط الاثنى عشر أبناء النبى يعقوب موضحا أن «الخزر» يمكن اعتبارهم «القبيلة الثالثة عشرة» التى ترجع إليها أصول اليهود المعاصرين والكتاب موجود فى المكتبات وقد صدرت عنه عدة ترجمات إلى العربية يمكن لمن شاء أن يرجع إليها.
كما تناولنا كل هذه القضايا وغيرها وصولا إلى إعلان دولة الكيان الغاصب عام ١٩٤٨ فى فلسطين بقدر من التفصيل فى سلسلة من المقالات «جريدة الأموال - من ١٨ فبراير إلى ٥ مايو ٢٠٢٤» تحت عنوان «الصهيونية بين الخرافات وحقائق التاريخ».
وخلاصة القول إنه لم تكن هناك دولة عبرية فى أى وقت من الأوقات ومن باب أولى فإن هذه الحقيقة تنطبق على الدولة الصهيونية الحالية التى تعود أصول الغالبية الساحقة من سكانها إلى اليهود الخزر ومن تزوير التاريخ القول بأنها «عبرية» لأن وصفها بهذه الصفة هو انصياع لمحاولة الصهاينة اختلاق تاريخ لم يحدث، واختراع حق تاريخى مزعوم، لذلك نهيب بالكتاب والمثقفين والإعلاميين العرب أن يشطبوا هذا التعبير تمامًا من مفرداتهم.